السَّلام عليكم...
مقدمة عن نظرية التطور لداروين
في هذه الحلقة نُقيِّم معًا أهمَّ أركان ما يُعرَف بنظريَّة التَّطور لدارون. تشارلز دارون "Charles Darwin" هو باحثٌ إنجليزيٌّ في تاريخ الأحياء الطَّبيعيِّ، ذكَر مشاهداتٍ كثيرةً جَمَعها في رحلاته ونقلها عن آخرين؛ كالتَّشابه الشَّكليِّ والتَّشريحيِّ بين أنواعٍ مختلفةٍ من الكائنات، وأنماطِ توزُّعها الجغرافيِّ.
وبنى عليها افتراض أنَّ كلَّ الكائنات الحيَّة أتت من أصلٍ مشتركٍ؛ مرَّ بعمليَّات تطوُّرٍ وتنوُّعٍ، بحيث يتغيَّر الكائن تغيُّراتٍ بسيطةً متراكمةً، ثُمَّ الطَّبيعةُ تُغربِل؛ فالتَّغيُّراتُ المفيدة تُبقيها الطَّبيعة وينتُج عنها نوعٌ جديدٌ من الكائنات بمرور آلاف وملايين السِّنين! بينما قَضَتِ الطَّبيعة -حسب دارون- على عددٍ لا حصر له من الكائنات الانتقاليَّة الَّتي حدثت فيها تغيُّراتٌ ضارَّةٌ أو غير نافعةٍ.
بالإضافة إلى دور الغربلة، افترض دارون أنَّ الطَّبيعة أسهمت في إحداث صفاتٍ جديدةٍ في الكائنات؛ بحيث عندما يكتسب الحيوان صفاتٍ مُعيَّنةً -نتيجة بيئته- فإنَّه يُورِّث هذه الصِّفات إلى أولاده، مُتَّفقًا بذلك مع افتراض لامارك "Lamarck" أنَّ الزَّرافة الَّتي تمتاز برقبةٍ عاليةٍ جدًّا كانت -في يوم من الأيَّام- برقبةٍ قصيرةٍ، ولكن مع تغيُّر الظُّروف الطَّبيعيَّة من حولها واضطرارها لمدِّ عنقها حتَّى تأكل من أعلى الشَّجر ظلَّ عنقها يستطيل جيلًا من بعد جيلٍ، حتَّى صارت إلى ما صارت إليه اليوم.
أهمُّ ما في الموضوع أنَّ دارون افترض أنَّ الكائنات الحيَّة إنّما نتجت عن هذه التَّغيُّرات بمجموع الصُّدف؛ يعني دون قصد.. دون قصد! وبتعبيره: "لم يكن هناك خطَّةٌ للخَلْق" (plan of creation) في إيجاد هذه الأنواع الكثيرة، وهو ما أكَّده في مواضع عديدةٍ من كتاباته.
نشر دارون أفكاره هذه عام 1859م في كتابٍ بعنوان: (حول أصل الأنواع) (On the Origin of Species) ثمَّ أراد أن يُعطي آليَّةً تفصيليَّةً لتوارثِ الصِّفات المكتسَبة فنشر بعد أعوامٍ من كتابه (أصل الأنواع) فرضيَّته الَّتي سمَّاها (pangenesis)؛ والَّتي افترض فيها أنَّ الطَّبيعة عندما تؤثِّر على خلايا الكائن فإنَّ هذه الخلايا الجسميَّة تُفرز موادَّ صغيرةً سمَّاها دارون: جيمولز "Gemmules" والَّتي تتركَّز في الأعضاء التَّناسليَّة للكائن لتنتقل إلى ذرِّيَّته.
ومن أين جاء الأصل المشترك يا دارون؟! من أين جاء الكائن الأوَّل؛ الَّذي بَنَيْتَ عليه أفكارك، ونَسبت إليه الكائنات الحيَّة كلَّها؟! لم يُبيِّن دارون في كتابه! لكنَّه نصَّ في مراسلاته مع عالِم النَّبات جوزيف دالتون هكر "Joseph Dalton Hooker" على أنَّ رؤيته هي: أنَّ أوَّل كائنٍ نشأ في بِركةٍ دافئةٍ من عوامل كالضُّوء والحرارة والكهرباء. يعني دارون اتَّفق بذلك مع فكرة "التَّوالُد الذَّاتي" الَّتي كانت شائعةً في عصره؛ حيث كان يُظَنُّ أنَّ الكائنات الحيَّة يمكن أن تتشكَّل تلقائيًّا من الجمادات. كان يُظَنُّ -مثلًا- أنَّ الحشرات تنشأ من بقايا الطَّعام، وأنَّ يَرَقات الذُّباب تنشأ من قِطع اللَّحم المتعفِّنة.
أركان نظرية داروين الأساسية
هذه -باختصارٍ- هي أركان نظريَّة التَّطوُّر لدارون:
- كائنٌ حيٌّ تولَّد بطريقةٍ ما من الجمادات.
- طبيعةٌ تُكسِب الكائن صفاتٍ جديدةً يمكن أن تحوِّلَه من نوعٍ لآخر.
- الصِّفات المكتسَبة تُورَّث.
- الطَّبيعة تَنتخِب بشكلٍ تراكميٍّ؛ وصولًا إلى كائناتٍ أرقى، فتُركِّب نُظُمًا حيويَّةً معقَّدةً من تغيُّراتٍ بسيطةٍ متعاقِبةٍ.
- الاستنتاج أنَّ الكائنات الحيَّة نشأت (evolved) دون قصدٍ ولا إرادةٍ مِن فاعلٍ مُريدٍ مختارٍ يعلم ما يفعل.
وعلى هذه الطَّاولة حمَّل دارون كلَّ ما في الكون من كائناتٍ حيَّةٍ.
تقييم أركان نظرية داروين
والآن...ما هو التَّقييم العام لتلك الأركان الَّتي بنى عليها دارون هذه النَّتيجة؟
1. التوالد الذاتي للكائنات من الجمادات
أمَّا تولُّد الكائنات الحيَّة تلقائيًّا من الجمادات؛ فخرافةٌ سقطت بتجارب أشهرُها تجربة فرانسيسكو ريدي "Francesco Redi" قبل دارون بقرنين، وتجربة لويس باستور "Louis Pasteur" الَّتي نُشرت بعد كتاب دارون بخمس سنواتٍ، والَّتي أثبت فيها أنَّ الكائنات الَّتي كان يُعتقد أنَّها تولَّدت ذاتيًّا من الجمادات كبقايا الطَّعام إنَّما أتت من خارج الموادِّ الغذائيَّة مع الهواء الملوَّث بها. وإلى باستور هذا تُنسب عمليَّة التَّعقيم "البَسْتَرة"، والحليب المبْستَر.
والحقيقة أنَّ التَّولُّد الذَّاتيَّ ساقطٌ عقلًا أصلًا؛ أن تتصوَّر كائنًا حيًّا ينشأ هكذا تلقائيًّا من الجمادات! ومع ذلك أصرُّوا أن يجرِّبوا! جرَّبوا... فسقطت الخرافة بالعلم التَّجريبيِّ، بالإضافة إلى العقل.
2. إحداث الطبيعة لصفات جديدة وتوريثها
وأمَّا إحداث الطَّبيعة لصفاتٍ جديدةٍ في الكائن عن طريق الاستعمال والإهمال كمثال "رقبة الزَّرافة"؛ فخرافةٌ سقطت أيضًا باكتشافات غريغور مندل "Gregor Mendel" والَّذي أثبت -بعد دارون بسنواتٍ- أنَّ الصِّفات الوراثيَّة للأبناء -مهما تعدَّدت- فهي لن تَخرُج عن الموجود -أصلًا- في الآباء.
وسقطت كذلك باكتشافات الوراثة فوق الجينيَّة (epigenetics)؛ الَّتي بيَّنت أنَّ العوامل الخارجيَّة والبيئيَّة يمكن أن تُغيِّر طريقة قراءة المادَّة الوراثيَّة في كائنٍ ما؛ لتفعيل صفةٍ كانت كامنةً أو إخماد صفةٍ كانت منشَّطةً، لكنَّها لا تُضيف مادَّةً وراثيَّةً لم تكن موجودةً أصلًا.
وأمَّا توريث الصِّفات المكتسَبة؛ فخرافةٌ ساقطةٌ بالمشاهدة العاديَّة؛ فعضلات الحدَّاد والنَّجَّار-مثلًا- والَّتي اكتسباها في حياتهما؛ لا تُورَّث إلى الأبناء. ومع ذلك؛ أصرَّ أتباع دارون أن يجرِّبوا! جرَّبوا... وظلَّ فايزمن "Weismann" يقطع ذيول 19 جيلًا من الفئران ليُفاجأَ المسكين -بعد طولِ تعبٍ- بولادة أبنائها -كلَّ مرَّةٍ- بذيولٍ من جديد! يعني لم تنتقل الصِّفة المكتسبة وهي الذَّيل المقطوع إلى الأبناء.
3. الانتخاب الطبيعي عند داروين
ماذا بقي من نظريَّة دارون إذن؟! ستقول: الانتخاب الطَّبيعيُّ صحيح! فأقول لك: القَدْرُ الصَّحيح منه ليس من اختراع دارون، ولا من بنات أفكاره؛ فالكلُّ يعلم أنَّ الحيوان الأضعف سيكون من الصَّعب عليه التَّكيُّف مع الظُّروف البيئيَّة الصَّعبة!
لكنَّ الانتخاب الطَّبيعيَّ عند دارون تجاوز ذلك ليعني -أيضًا- إحداث نُظمٍ حيويّةٍ معقَّدةٍ من تغيُّراتٍ بسيطةٍ متعاقبةٍ صُدفيَّةٍ. وحتَّى تفهم ماذا يعني الانتخاب الطَّبيعيُّ لدارون؟ فإنَّ خيال دارون الواسع جاء له بفكرة أنَّ الطَّبيعة والاستعمال والإهمال؛ أنتجت للكائنات القديمة تراكيب جسميَّةً بسيطة يمكن أن تكون خدمت الكائن في شيءٍ ما، فأبقى عليها الانتخاب الطَّبيعيُّ والَّذي لم يكن يعلم أنَّ تراكم هذه التَّراكيب سيُنتج عضوًا كاملًا متكاملًا كالجناح للطَّائر، أو العين للحيوان.
حتَّى تفهم منطق دارون في ذلك تصوَّر أرضًا مليئةً بالخردة، يمرُّ عليها أعدادٌ كبيرةٌ من العُميان، ويلتقط كلٌّ منهم قطعة خردةٍ عشوائيًّا، ثمَّ يدخل إلى مبنًى كبيرٍ يُغلَق بابه بعد كلِّ داخل. مرَّت ملايين السِّنين، والعُميان يلتقطون الخردوات، ويموتون فيُدفنون تحت أرض المبنى. فتحتَ أنت بوَّابة المبنى يومًا ما، فاندفعت من البوَّابة طائرة بوينج "Boeing" عملاقة يقودها أحد العميان وحلَّق بها في السَّماء!
تساءلْتَ أنت: كيف تمكَّن الأعمى من صُنع الطَّائرة؟! فقيل لك: لم يقصد أن يصنعها! إنَّما الَّذي حصل مع العميان قبله أنَّ مَن التقط منهم قطعة خردةٍ نافعةٍ له؛ صَمَد وورَّثها لمن خَلْفه! فمنهم من التقط قماشةً التحف بها من البرد، وآخر التقط مسطَّحًا حديديًّا استظلَّ به من الشَّمس، وثالثٌ التقط من الخردة مِقوَد طائرةٍ حرَّك بها طعامه أثناء طبخه، ورابعٌ التقط زجاجةً اتَّخذها درعًا في حربه مع أعدائه من العميان! وهؤلاء جاؤوا على أزمنةٍ متعاقبةٍ، وورَّثوا قِطَعَهم لمن خلفهم، وكانت القِطَع تتركَّب من غير قصدٍ، ولا بفِعل فاعلٍ، حتَّى تشكَّلت منها هذه الطَّائرة العظيمة الَّتي رأيت! فإيَّاك، ثمَّ إيَّاك أن تتوهَّم أنَّ أحدًا قصد أن تتشكَّل طائرةٌ أو تطير!
بنفس المنطق؛ اعتبر دارون أنَّ الانتخاب الطَّبيعيَّ رقَّع تراكيب الكائنات الحيَّة على عمًى؛ فأجنحة الطُّيور -مثلًا- مُساعَدتُها للطَّير على الطَّيران؛ (pseudopurpose) يعني هدفٌ وهميٌّ، وليس حقيقيًّا! والعين إبصارها هدفٌ وهميٌّ؛ لأنَّه ليس هناك فاعلٌ مريدٌ مختارٌ قَصَد أن تُبصِر العين، أو يُرفرِف الجناح، بل جاء هذا كلُّه بتراكمات الصُّدف العمياء!
هذه هي نُكتة الانتخاب الطَّبيعيِّ الأعمى الَّتي خرج علينا بها دارون، وهي -بالإضافة إلى سخافتها لكلِّ عقلٍ سليم- فإنَّ الاكتشافات العلميَّة أثبتت استحالتها مع وجود التَّعقيد غير القابل للاختِزال أو ما يُعرف (irreducible complexity) في كلِّ تفاصيل الكائنات وعلاقاتها؛ أي أنَّ تراكيب وأعضاء الكائنات الحيَّة بالغةُ التَّعقيد والتَّكامل، بحيث لا يمكنها أن تتواجَد إلَّا بتوافُر أجزائها في وقتٍ واحدٍ وإلَّا لن تؤدِّي وظيفتها، وبذلك فهي غير قابلةٍ لفكرة التَّكوُّن بتدرُّجٍ أبدًا، حتَّى على مستوى أصغر وِحدةٍ حيَّة؛ الخليَّة الَّتي لم يكن دارون يراها تحت المجهر -في أيَّامه- إلَّا كلَطْخةٍ بسيطةٍ! إذن؛ فالانتخاب الطَّبيعيُّ كما يصوِّره دارون هو أيضًا خرافةٌ.
خلاصة وتقييم عام
على هذه الخرافات السَّاقطة عقلًا وحسًّا وتجربةً أقام دارون أسخف وأغبى فكرةٍ في التَّاريخ: أنَّ كلَّ ما نرى من إحكامٍ وإتقانٍ في هذا الخَلْق؛ إنَّما جاء بالصُّدَف دون قصدٍ ولا يحتاج علمًا ولا حكمةً! بقيت خيالاتُه الَّتي تُشبه أن تكون مساهَمةً منه في مسابقةٍ بعنوان: أوسع خيالٍ يتبارى فيها علماء الطَّبيعة في إضحاك المستمِعين. بقي خياله الَّذي يُشبه قصص ما قبل النَّوم عن الأمير الضِّفدع والأميرة البجعة، وفئران سندريلَّا الَّذين تحوَّلوا إلى حُصُنٍ جميلةٍ! لكن مع إضافةٍ واحدةٍ أنَّ ذلك احتاج وقتًا طويلًا جدًّا! الخيال الَّذي يضع ريشًا على الدَّيناصورات وهي تُطارد البعوض فتطير.
والخيال الَّذي قفز إلى ذهن دارون حول الدُّبِّ الأسود وهو يسبح لساعاتٍ في المياه فاتحًا فمه ليُدخِل أكبر عددٍ ممكنٍ من الحشرات فيه، فذكَّره بالحوت الَّذي يفتح فمه لتدخل فيه الأسماك، وما دام هناك شبهٌ؛ فيبدو أنَّ الحوت تطوَّر عن الدُّبِّ في منطق دارون! كما في نسخة "الفاكس ميلي" لطبعته الأولى من كتابه (أصل الأنواع) صفحة 184.
سيقول قائلٌ: لكن ماذا عن عِلم دارون؟! ماذا عن المشاهَدات الكثيرة الَّتي جمعها في كتابه، وعن دقَّة ملاحظته؟! فنقول: دارون كان أشبه ببرنامج، فيه الكثير من المدخَلات، إنَّما المعادلة الَّتي تربط بين هذه المدخلات خاطئةٌ، فتعطيَ نتيجةً خاطئةً؛ لذلك لم ينفع دارون كثرة معلوماته، ولا سعة اطّلاعه.
من المهمِّ جدًّا -إخواني- أن نفهم أنَّ هذه المشاهدات للطُّيور والزَّواحف والحشرات وغيرها ليست جزءًا من نظريَّة التَّطوُّر، إنَّما كلامنا عن النَّظريَّة الَّتي ادَّعى دارون أنَّها تفسيرٌ لهذه المشاهدات. فيما عدا المشاهَدات، وصياغته لمصطلح الانتخاب الطَّبيعيِّ -خاطئ الدَّلالة عنده- فإنَّ جديد دارون ليس صحيحًا، وصحيحه ليس جديدًا. نعم؛ جديد دارون ليس صحيحًا.
لذلك -إخواني- فمن الخطأ أن يُقال: "نظريَّة دارون كان بها أخطاء"؛ بل نظريَّة دارون هي أصلًا مجموعةٌ من الأخطاء؛ خرافاتٌ أبطَلَها العقل والعلم، ومغالطاتٌ منطقيَّةٌ، وخيالاتٌ سخيفةٌ للتَّوصُّل إلى نتيجة أنَّ الإتقان والإحكام في الكائنات لا يحتاج قصدًا ولا إرادةً ولا علمًا!
أُعيد التَّذكير -إخواني- بأنَّ حلقاتنا هي حلقاتٌ منهجيَّةٌ لضبط البوصلة، قاعدةٌ منهجيَّةٌ تعلَّمناها اليوم: أنَّ الباطل لا يقوم إلَّا على باطل، ولا يمكن أن يستند إلى علمٍ صحيحٍ أو عقلٍ سليمٍ، وحيثما طبَّقتَ هذه القاعدة فستجدها منطبِقةً؛ رأينا نموذجًا منها اليوم مع خرافة دارون "أنَّ الكائنات جاءت بالصُّدف"!
أسئلة للمتابعة
سيتساءل البعض: لكنْ ألم يَسُدَّ مَن بعدَ دارون ثغرات النظريَّة، ويصحِّحوا أخطاءها؟! ما ردُّك على الأدلَّة من الأحافير؟! من البيولوجيا الجُزيئيَّة؟! من علم الأجِنَّة؟! من الأعضاء الضَّامرة؟! ألا يمكن التَّوفيق بين النَّظريَّة ووجود الله؟ إن كانت خرافةً -كما تقول- فلماذا يؤمن بها أكثر العلماء الغربيِّين؟!
سنُجيب -إخواني- وبشكلٍ منهجيٍّ بإذن الله، وسنبدأ بدعوى سدِّ الثَّغرات وتصحيح الأخطاء وهو موضوع حلقتنا القادمة المهمَّة، فتابعوا معنا... وبالله وحده التَّوفيق. والسَّلام عليكم ورحمة الله..
بالله وحده التَّوفيق. والسَّلام عليكم ورحمة الله..
الرد على دعوى سد الثغرات وتصحيح الأخطاء
في الحلقة الماضية، بيَّنا أنَّ أركان نظرية دارون الأساسية هي خرافاتٌ ساقطةٌ عقلاً وحسًّا وتجربةً. واليوم نُجيب عن سؤالٍ مهمٍّ: هل سدَّ مَن بعدَ دارون ثغرات النظريَّة، وصحَّحوا أخطاءها؟
الحقيقة أنَّ أتباع دارون أدركوا أنَّ نظريَّة دارون -بشكلها الأصليِّ- لا يمكن أن تصمد أمام النقد العلميِّ، فبدأوا في محاولاتٍ حثيثةٍ لإصلاحها وتعديلها. هذه المحاولات أدَّت إلى ظهور ما يُعرف بـ "النظرية التطورية الحديثة" أو "التوليف التطوري الحديث" (Modern Evolutionary Synthesis)، والتي حاولت دمج أفكار دارون مع مكتشفات علم الوراثة الحديثة.
1. دمج الوراثة المندلية
أولى هذه المحاولات كانت بدمج الوراثة المندلية، بعد إعادة اكتشاف أعمال مندل في أوائل القرن العشرين. فقد أدرك العلماء أنَّ آلية توريث الصفات ليست كما تخيَّلها دارون بـ "الجيمولز" أو بتوريث الصفات المكتسبة، بل هي تتم عبر الجينات التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء. هذا التصحيح ألغى تمامًا فكرة دارون عن توريث الصفات المكتسبة، والتي كانت ركنًا أساسيًّا في نظريته.
لكن السؤال هنا: هل هذا سدٌّ لثغرة أم هدمٌ لركنٍ أساسيٍّ؟ عندما تُثبت أنَّ ركنًا أساسيًّا في البناء خاطئٌ تمامًا، فهذا لا يعني أنَّك سددت ثغرة، بل يعني أنَّ البناء الأصليَّ كان معيبًا من أساسه.
2. الطفرات العشوائية كمصدر للتنوع
كما أنَّ النظرية الحديثة استبدلت فكرة دارون عن إحداث الطبيعة لصفاتٍ جديدةٍ في الكائن، بفكرة "الطفرات العشوائية" (Random Mutations). فبدلاً من أن تُحدِث البيئة صفاتٍ جديدةً تُورَّث، أصبح يُعتقد أنَّ التغيرات الجينية العشوائية (الطفرات) هي المصدر الأساسي للتنوع الذي يعمل عليه الانتخاب الطبيعي.
وهنا أيضًا، نحن أمام استبدالٍ لركنٍ كاملٍ من النظرية الأصلية. فدارون لم يتحدث عن الطفرات الجينية العشوائية كمصدر للتنوع، بل كان يعتقد أنَّ التغيرات تحدث نتيجة الاستعمال والإهمال وتوريث الصفات المكتسبة.
3. الانتخاب الطبيعي ودوره في التطور
أما الانتخاب الطبيعي، فقد احتفظت به النظرية الحديثة، لكن مع فهمٍ أعمق للآليات الجينية التي يعمل من خلالها. ومع ذلك، فإنَّ جوهر المشكلة التي أشرنا إليها في الحلقة الماضية، وهي قدرة الانتخاب الطبيعي الأعمى على بناء تعقيدات غير قابلة للاختزال، لا يزال قائمًا. فالنظرية الحديثة لم تُقدم تفسيرًا مقنعًا لكيفية نشأة الأنظمة الحيوية المعقدة جدًّا خطوة بخطوة عبر طفرات عشوائية وانتخاب طبيعي أعمى.
4. الأدلة من الأحافير
بالنسبة للأدلة من الأحافير، والتي يُقال إنها تدعم النظرية، فإنَّ الواقع يختلف عن ذلك. فالسجل الأحفوري -على الرغم من ضخامته- لا يُظهر السلاسل الانتقالية المتدرجة التي تتوقعها نظرية التطور. بل على العكس، يُظهر السجل الأحفوري ظاهرة "الانفجار الكامبري" (Cambrian Explosion)، حيث ظهرت معظم المجموعات الحيوانية الرئيسية فجأةً في فترة زمنية قصيرة نسبيًّا، دون وجود أسلاف انتقالية واضحة.
كما أنَّ الفجوات في السجل الأحفوري لا تزال ضخمةً، والعديد من "الأحافير الانتقالية" المزعومة هي في الحقيقة تفسيراتٌ جدليةٌ، أو تمَّ دحضها لاحقًا. فمثلاً، "الأركيوبتركس" (Archaeopteryx) الذي كان يُعتبر حلقةً انتقاليةً بين الزواحف والطيور، يُنظر إليه الآن على أنه طائرٌ كاملٌ بخصائص فريدة، وليس بالضرورة سلفًا لجميع الطيور.
5. البيولوجيا الجزيئية وعلم الأجنة
أما البيولوجيا الجزيئية وعلم الأجنة، فقد كشفا عن مستوياتٍ مذهلةٍ من التعقيد والتكامل داخل الخلية الواحدة، وفي مراحل تطور الكائن الحي. هذا التعقيد الهائل، والذي لم يكن دارون ليتخيله، يُصعِّب كثيرًا فكرة نشأة هذه الأنظمة المعقدة تدريجيًّا عبر طفرات عشوائية.
فمثلاً، الآلات الجزيئية داخل الخلية، مثل محرك ATP synthase أو نظام تخثر الدم، هي أمثلة على "التعقيد غير القابل للاختزال" (Irreducible Complexity) الذي تحدثنا عنه. إزالة أي جزء من هذه الأنظمة يجعلها غير وظيفية تمامًا، مما يعني أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت خطوة بخطوة.
أما علم الأجنة، فقد أظهر أنَّ التطور الجنيني للكائنات الحية هو عمليةٌ بالغةُ الدقة والتنظيم، وتتطلب توجيهًا دقيقًا للمعلومات الوراثية. فكرة أنَّ هذه العملية المعقدة يمكن أن تنشأ بالصدفة أو بتراكمات عشوائية تبدو بعيدةً عن الواقع العلمي.
6. الأعضاء الضامرة
بالنسبة للأعضاء الضامرة (Vestigial Organs)، والتي يُقال إنها بقايا لأعضاء كانت وظيفية في أسلافنا، فإنَّ هذا الادعاء قد تراجع كثيرًا مع التقدم العلمي. فكثير من الأعضاء التي كانت تُعتبر ضامرةً، مثل الزائدة الدودية أو اللوزتين، اكتُشفت لها وظائف مهمة في الجهاز المناعي أو غيره. وحتى لو وُجدت أعضاء ضامرة حقيقية، فإنَّ وجودها لا يُثبت آلية التطور الدارويني، بل يُشير فقط إلى تغيرات حدثت عبر الزمن، وهذا لا ينكره أحد.
التوفيق بين النظرية ووجود الله؟
أما سؤال: "ألا يمكن التَّوفيق بين النَّظريَّة ووجود الله؟" فالجواب هو أنَّه لا يمكن التوفيق بين نظرية التطور الداروينية -بجوهره الذي ينكر القصد والإرادة في الخلق- وبين الإيمان بالله الخالق المدبر الحكيم. فجوهر نظرية دارون هو أنَّ الكائنات الحية نشأت بالصدفة، دون قصدٍ ولا إرادةٍ من فاعلٍ مريدٍ مختارٍ يعلم ما يفعل. هذا يتناقض بشكلٍ مباشرٍ مع مفهوم الإله الخالق الذي يُتقن ويُحكم خلقه.
بعض المؤمنين حاولوا التوفيق بينهما بالقول إنَّ الله خلق الكون بقوانين طبيعية، ومن ضمنها قانون التطور. لكن هذا التوفيق لا يحل المشكلة الجوهرية، وهي أنَّ نظرية دارون -بشكلها الأصيل والحديث- لا ترى أيَّ حاجةٍ لقصدٍ إلهيٍّ في نشأة الأنواع وتعقيداتها. بل إنها تُقدم تفسيرًا ماديًّا بحتًا لا يترك مجالًا للتدخل الإلهي المباشر أو القصد في التصميم.
لماذا يؤمن بها أكثر العلماء الغربيين؟
أما سؤال: "إن كانت خرافةً -كما تقول- فلماذا يؤمن بها أكثر العلماء الغربيِّين؟" هذا سؤالٌ مهمٌّ، وله عدة أبعاد:
- الضغط الأكاديمي والاجتماعي: في الأوساط الأكاديمية الغربية، تُعتبر نظرية التطور هي التفسير المقبول الوحيد لتنوع الحياة. الخروج عن هذا الإجماع قد يُعرض العلماء للوصم أو حتى فقدان وظائفهم أو تمويل أبحاثهم. هناك ضغطٌ كبيرٌ لتبني هذا الإطار الفكري.
- الخلفية الفلسفية المادية: كثيرٌ من العلماء الغربيين ينطلقون من خلفية فلسفية مادية (Naturalism)، والتي تفترض أنَّ كلَّ ما في الكون يمكن تفسيره بقوانين طبيعية بحتة، دون الحاجة إلى أيِّ تدخلٍ خارقٍ للطبيعة. في هذا الإطار، تُعتبر نظرية التطور هي التفسير الأكثر اتساقًا مع هذه الفلسفة.
- الخلط بين المشاهدات والتفسير: كثيرٌ من العلماء يخلطون بين المشاهدات الصحيحة (مثل التغيرات الصغيرة داخل الأنواع، أو التكيف مع البيئة) وبين التفسير الدارويني لهذه المشاهدات. فوجود التغير لا يعني بالضرورة أنَّ آلية دارون هي الصحيحة.
- الجهل بالتفاصيل النقدية: بعض العلماء قد لا يكونون على درايةٍ عميقةٍ بالانتقادات العلمية والفلسفية الموجهة للنظرية، أو قد يركزون على مجالات تخصصهم الدقيقة دون النظر إلى الصورة الكبرى.
- عدم وجود بديل مادي مقبول: حتى لو وُجدت ثغراتٌ كبيرةٌ في نظرية التطور، فإنَّ المجتمع العلمي المادي يرفض أيَّ تفسيرٍ يتضمن تصميمًا ذكيًّا أو تدخلاً إلهيًّا، ويعتبره "علمًا زائفًا". وبالتالي، فإنهم يتمسكون بنظرية التطور كأفضل تفسير مادي متاح، حتى لو كان به قصور.
خاتمة
إذن، فدعوى سد الثغرات وتصحيح الأخطاء في نظرية دارون لم تؤدِّ إلى تقوية النظرية الأصلية، بل أدَّت إلى استبدال أركانها الأساسية بأخرى، ولا تزال تواجه تحدياتٍ علميةً وفلسفيةً عميقةً، خاصةً فيما يتعلق بنشأة التعقيد غير القابل للاختزال، وغياب السلاسل الانتقالية في السجل الأحفوري.
هذا يوضح لنا أنَّ الباطل لا يقوم إلَّا على باطل، وأنَّ محاولات ترقيعه لا تجعله حقًّا.
في الحلقات القادمة، سنُفصِّل أكثر في هذه النقاط، ونُقدم المزيد من الأدلة والبراهين على ضعف هذه النظرية، ونُبيِّن كيف أنَّ العلم الصحيح والعقل السليم يقودان إلى الإيمان بالخالق العظيم.
تابعوا معنا... وبالله وحده التَّوفيق. والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.