→ عودة إلى رحلة اليقين

الحلقة 56 - فانظروا كيف بدأ الخلق-هل أشار القرآن لتطور الإنسان؟

٩ أكتوبر ٢٠٢٠
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله أيها الكرام.

مقدمة: هل أشار القرآن لتطور الإنسان؟

يستدل البعض بآيات من القرآن ليؤيد بها تطور الإنسان عن كائنات أدنى، فهل استدلالهم هذا صحيح؟

بدايةً، هل العلم الرصدي التجريبي (الساينس) أثبت تطور الإنسان عن كائنات أدنى؟ أجبنا عن هذا السؤال بالتفصيل في حلقة "أصل الإنسان".

طيب، وهل البحث في نشأة الإنسان أصلاً هو من اختصاص الساينس؟ بيّنّا أن أصل الإنسان أمرٌ غيبي ليس خاضعًا للرصد ولا للتجريب، وبالتالي فهو خارج اختصاص الساينس. إذن فكيف نعرف أصل الإنسان؟ بيّنّا أن الأمور الغيبية من هذا النوع لا سبيل إلى معرفتها إلا بالدليل العلمي الخبري.

حلقة اليوم بناءٌ على هذه المفاهيم التي أثبتناها، فالذي عنده اعتراض على هذه المفاهيم عليه أن يرجع للحلقات المذكورة. وحلقة اليوم هي أيضًا للمؤمنين بأن القرآن من عند الله.

منهجية التعامل مع نصوص الوحي

فبدايةً يا كرام، ضروري نتحرر من ضغط محاولة التوفيق بين الآيات وفكرة تطور الإنسان التي لا دليل عليها من الساينس، لننظر في نصوص الوحي نظرةً متحررة فنفهمها فهماً صحيحاً غير متأثر بأوهام مسبقة.

فإن أصل انحراف كثير من المسلمين قديماً وحديثاً في التعامل مع القرآن هو أنه مستقر في أذهانهم أوهام باطلة ومقررات مسبقة، ثم راحوا يطوعون نصوص القرآن لهذه المقررات، فقادهم ذلك إلى تحريف معاني القرآن، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه. والله تعالى حين أخبرنا بأخبار أهل الكتاب أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به، فقد أخبرنا بأخبارهم لنحذر أن نفعل مثل فعلهم.

ومرة أخرى نقول يا كرام: هل الله قادر على تطوير الإنسان عن كائنات أدنى؟ نعم، هذا ممكن في قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيء. لكن سؤالنا الآن: ما الذي أخبرنا به الوحي؟ أي ما هو الدليل العلمي الخبري عن أصل الإنسان؟

خطوات المنهجية

  1. التحرر من المقررات المسبقة: هذه الخطوة الأولى في منهجيتنا، التحرر من مقررات مسبقة لا دليل عليها.
  2. الآيات المحكمات: سنرى هل بيّن الله تعالى خلق الإنسان في آياتٍ مُحكماتٍ واضحةٍ المعنى لا لبس فيها؟ أم أنه تعالى ترك كيفية خلق الإنسان مفتوحةً للاحتمالات؟
  3. الاستعانة بالسنة: سنلتزم بما يأمرنا به إسلامنا من أن نستقي الأخبار الحقّة من القرآن والسنة معاً، فنستعين بأحاديث صحيحة على تأكيد الجواب عن نشأة الإنسان.
  4. وضع الآيات في سياقها: سنرى الآيات التي يستدل بها "مُؤسلمو التطور" على أن الإنسان تطور عن كائناتٍ أدنى. سنضع هذه الآيات في سياقها القرآني ونفهمها على ضوء الآيات الأخرى، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً.

وسنرى في مقابل ذلك ملامح طريقة "مُؤسلمي التطور" من التعامل مع القرآن بمقررات مسبقة موهومة، ثم تحريف دلالات الآيات المحكمة، والإعراض بالكلية عن الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، وبتر الآيات أو حتى أجزاء منها عن سياقها، شعروا بذلك أم لم يشعروا.

بدايةً، هناك من دراوينة العرب من يأخذ الخرافة كما هي فيقول بتطور الكائنات بالتغيرات العشوائية والانتخاب الأعمى ومجموع الصدف دون قصد من خالق، وتراهم يتخبطون، بل بالتطوُّر الموجَّه أنَّ الله طوَّر الكائنات بعضها إلى بعض.

الرد على استدلالات مؤسلمي التطور

طيب، تعالوا نستعرض الآيات التي يستدلون بها.

1. الآية الأولى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"

بدايةً، أكثر آيةٍ يستدلون بها على مبدأ التطوُّر عموماً هي قول الله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20]. يقولون: ماذا تريد أوضح من ذلك؟ الله يأمرنا أن ننظر كيف بدأ الخلق، يعني كيف بدأت الحياة على هذا الكوكب، ونظرية التطور هذا هو موضوعها.

أها، لحظة! هل هذه الآية دليل على صحة نظرية التطور موجه أو غير موجه؟ لا، تمام. إذن لماذا تستدلون بها؟ لأنها تدل على أنه بالإمكان معرفة أصل الإنسان والمخلوقات بالسير في الأرض وباستخدام الساينس. هل هذا معناها الذي يدل عليه سياقها؟ إن لم يكن هذا معناها فما معناها إذن؟

آها، تعالوا نرى سياق الآية. الآية هي من سورة العنكبوت، وسياقها إقامة الحجة على منكري الإحياء بعد الموت أن الله الذي يبدئ الخلق بشكل متجدد مستمر قادر على أن ينشئهم بعد مماتهم للحساب يوم القيامة.

اسمع لسياق الآية، قال الله تعالى: ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ [العنكبوت: 18-21].

﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ [العنكبوت: 18] إن تكذبوا بالبعث والحساب فقد كذبت أمم أخرى بائدة. ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [العنكبوت: 18-19]. لاحظ! تركيب الكلام شبيهٌ بالآية بعدها ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20]. وهنا ﴿يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 19].

هل المقصود بالآية ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 19] كيف يُنشِئُ اللهُ الكائنات من أصلٍ مشترك بالتطور الموجه؟ لا علاقة لهذا المعنى بالسياق. وإنما أولم يروا كيف ينشئ الله المخلوقات من عدم، يعني بعد أن كانت معدومة، البشر والنباتات والحيوانات، يوجدها بعد أن لم تكن موجودة. وهي بمعنى قوله تعالى: فإعادة المخلوقات أهون من خلقها أول مرة. لذلك قال هنا: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [العنكبوت: 19].

لكن الإنسان قل ما يتعظ بالمخلوقات التي اعتاد عليها من حوله لأنه أليفها، ولأن حواسه كانت تعمل من الطفولة قبل أن ينضج لديه التفكر والتأمل، فاعتاد على هذه المشاهد وكان بحاجة إلى تجديد يجدد لديه ملكة التأمل والتفكر والاتعاظ. كيف يحصل هذا التجديد؟ ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20]. بأن يسير الإنسان في الأرض فيرى مخلوقات أخرى، يرى حيوانات ونباتات وجبالاً وأنهاراً ومشاهد لم يعتدها تدله على عظمة الخالق وقدرته على البعث. وفي الثانية ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20] لأنك في بلدك وبين أهلك ترى المواليد يولدون ويكبرون عبر السنين، ترى النبتة تخرج وتنمو شيئاً فشيئاً، بينما عندما تسير في الأرض لا تكون مستقراً لتشهد هذه المراحل، وإنما ترى مخلوقات بدأها الله من قبل.

تعالوا الآن نقرأ الآية في سياقها لنرى اتساق المعنى مع ما ذكرنا. آخر الآية 17 من سورة العنكبوت ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17]. بعدها ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ [العنكبوت: 18-21].

السؤال الآن: أليس هذا المعنى واضحاً؟ لائحاً؟ متسقاً؟ مقنعاً؟ أليس معنى فهمه العرب عبر القرون؟ فلم يستشكلوا الآية. وللعلم فهذه خلاصة أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية: الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي ومن آخرهم السعدي وابن عاشور وغيرهما ممن جاءوا بعد دارون ولم يتأثروا بأوهامه ولم يتخذوها مقررات يعيدون تفسير القرآن بناءً عليها.

هل فهم أحد من علماء المسلمين الكرام الأذكياء الأذقياء عبر الأربعة عشر قرناً أن الآية تدل على وجوب البحث عن النشأة الأولى للكائنات في الزمان الأول المغيب عنا والخارج عن نطاق السير والنظر والتأمل، ثم بناء الفرضيات والتخرصات التي لا سبيل إلى برهنتها عما إذا كانت الكائنات من أصل مشترك أم لا؟ هل هذا المعنى هو ما يناسب البرهنة على قضية يقينية يريد الله أن يزرعها في النفوس أنه تعالى قادر على البعث بعد الموت؟ أم أنه معنى غامض ملتف جدلي يجل عنه القرآن وفي مثل هذا السياق بالذات؟

فهذه الآية هي في سياق الاحتجاج على الكفار بالاستناد إلى أمر بدهي يدركه الإنسان بالسير والتأمل في الأرض، حتى وإن كان خاملاً لم يتعظ بما رآه في بيئته. ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20] يعني بمجرد أن تسيروا وتنظروا سيتحصل لكم هذا العلم، قطعيات يقينية لا داروينيات مُؤسلمة أو غير مُؤسلمة.

ثم اسأل نفسك: الآية تتضمن أمراً من الله ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ [العنكبوت: 20] فهل استجاب المسلمون لهذا الأمر وساروا في الأرض فنظروا كيف بدأ الله الخلق؟ الصحابة الذين أنزلت الآية عليهم، ﴿وَالَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ مِعْيَارًا فَقَالَ لَهُمْ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: 137] ومن بعدهم قرونٌ من المسلمين عبر ثلاثة عشر قرناً قبل دارون، هل فهموا الآية واستجابوا فساروا في الأرض فنظروا كيف بدأ الله الخلق؟ أم أنّ الأمة كلها لم تستجب لهذا الأمر الإلهي بل ولم تفهمه أصلاً حتى جاء دارون فأفهمها كيف تسير وتنظر وأفهمها ما معنى كيف بدأ الله الخلق؟

أهمية قصة خلق آدم

دعونا من الماضي، ركزوا لنا على الحاضر، وماذا يهمني معرفة أصل الإنسان؟ الله سبحانه وتعالى لا يكرر قصة آدم في سبعة مواضع من القرآن فضلاً عن ذكر اسمه خمساً وعشرين مرة إلا لأمر جلل. فخلق آدم هو من الحقائق الكبرى التي أراد الله أن يرفع الغموض عنها بشكل قطعي يقيني في كتابه ابتداءً وتأكيداً في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

فقصة آدم تجيب عن سؤال من الأسئلة الوجودية الكبرى: من أنا؟ وما أصل البشر الذين أنتمي إليهم؟ فلا يدعوها الله سبحانه وتعالى لحالة من عدم اليقين. قصة خلق آدم تخبرنا عن أصل الإنسان، طبع الإنسان، وظيفة الإنسان، أمر جلل عظيم. قال الله فيه: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [ص: 67-69].

قصة خلق آدم ترتبط بالغيبيات الكبرى: الله، الملائكة، الجن، الجنة، النار، الروح، أصل الحياة، غاية الحياة. ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، وهي الغيبيات التي ينفيها الإلحاد متكئاً على الداروينية.

تتساءل: وماذا يهمنا أصل الإنسان ونحن نعاني سياسياً واقتصادياً ونتجرّع الظلم من مجرمي الأرض؟ فأقول لك: من مصلحة مجرمي الأرض أن يعتقد الناس بأنهم ما هم إلا شكل حيواني ظهر بمجموع صُدَف، فتنظر لنفسك كحيوان جاء عبثاً، وما أسهل إذلال من ينظر لنفسه بهذه النظرة. بينما يخبرك الله تعالى بنشأة أبيك آدم لتعلم أنك مكرّم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، أنزلت لمهمة عظيمة ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30] فلا تخضع لأحد إلا له سبحانه. ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38].

ثم إن المسألة تتجاوز أصل الإنسان إلى القرآن كله. فإذا كانت قضية محسومة محكمة كخلق آدم قابلة للتأول بل لتحريف المعنى بناءً على نظريات العلم الزائف، فما الذي يمنع أن يكون القرآن كله رموزاً مائع الدلالة؟ تميع دلالة آيات خلق آدم يفتح الباب لتمييع دلالة آيات الحقائق وآيات التشريع معاً، ولا يعود هناك معنى لوصف القرآن بالكتاب المبين، ولا لقول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89].

بل وصل الأمر ببعض محاولات توفيق الدارونية مع القرآن إلى الدعاء أن آدم ليس أباً للبشر الحاليين كلهم، بل عرق منهم. وبالتالي فلك أن تتصور كيف تصبح الآيات المبدوءة بـ "يا بني آدم" كأنها خطاب لجزء من البشر، لعرق معين، بينما الآخرون غير مخاطبين بها. مما تقدم تفهم لماذا كان العبث بدلالة آيات خلق آدم بناءً على خرافة التطور خنطرةً لضياع قدوسية الوحي في نفوس عددٍ من شباب المسلمين. بينما دراوينة العرب يقولون مقالة من قبلهم: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: 62].

الخلق الخاص لآدم عليه السلام

تعالوا بدايةً يا كرام نرى ما المحكم في شأن خلق آدم عليه السلام، ثمّ نناقش تفسير مُؤسلمي التطور للآيات التي يستدلون بها. هل الخلق الخاص لآدم أمرٌ محكمٌ قطعي؟ ونقصد بالخلق الخاص: الخلق المنفصل المميَّز عن باقي المخلوقات.

تعالوا نتلو بعض الآيات التي تضعك في أجواء هذا الحدث العظيم، ثمَّ نقف عندها متأمِّلين. لنرى، إن كنت تؤمن بالقرآن، فهل هذا الخلق الخاص هو أمرٌ يحتمل الإبهام واللَّبس والغموض والترميز؟ أم أنه واضحٌ محكَمٌ قطعي؟ هل ظهور آدم هو حدثٌ بيولوجي تمَّ بأسبابٍ مادِّيَّة؟ أم أنه حدثٌ استثنائي خارجٌ عن معهود الأسباب، مُحتفٌ بعالم الغيب بما فيه من ملائكة وجن وكلام الله لآدم واختباره له؟

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة: 34-36].

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 71-72].

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: 28-31].

فأولاً، فصل الله تفصيلاً في المراحل التي مر بها خلق الإنسان: التراب والطين والصلصال من الحمأ المسنون والصلصال كالفخار، إلى أن تكون هذا الجسم الذي نُفِخت فيه الروح.

الرد على تفسيرات مؤسلمي التطور لآيات خلق آدم

ماذا تفعلون بهذه الآيات يا مُؤسلمي تطوُّر الإنسان؟ كيف توفِّقون بينها وبين أوهام داروين؟ ستجد منهم من يقول: المقصود بهذه الآيات هو أن الله خلق الكائن الأول أو الخلية الأولى التي تطوَّرت عنها الكائنات، ثم بعد ذلك اشتغل التطوُّر فأخرج لنا كل الكائنات الحيَّة ومنها الإنسان عبر ملايين أو مئات الملايين من السنين.

فبناءً على قولهم، كأنَّ الله فَصَّلَ تَفْصِيلًا في المراحل الأولى لخلق الكائن الذي سيكون منه الإنسان، ولم يذكر المراحل الكثيرة بعد ذلك ولم يُشر إليها في القرآن ولو مرة واحدة. انظر إلى التكلَّف حين تفرض علينا سيناريوهات مُؤسلمي الخرافة ونقحمها في الآيات: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 28] مرورًا بكائنات انتقاليَّة ومخلوقات شبه حيوانيَّة عبر ملايين السنين ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29].

عندما يقول الله تعالى "سويته" أي سويت هذا البشر، و "نفخت فيه" أي في هذا البشر. لكن كان مُؤسلمي الخرافة يضيفون إلى الآيات: سويت سلفاً حيوانياً للبشر ونفخت فيه من روحي!

ماذا تفعلون يا مُؤسلمي الخرافة بالأحاديث الصريحة الصحيحة المؤكدة لمعنى الآيات؟ كالحديث في صحيح مسلم ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ومسند الطيالسي ويَعْلَى وغيرهم عن أنس رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك".

ثانياً: لو كان القرآن يتكلَّم في هذه الآيات عن خلق الكائن الأول أو الخلية الأولى التي منها انحدر الإنسان وبقية المخلوقات، لوضَّح القرآن أن هذه مراحل خلق الكائنات الحيَّة كلِّها لا آدم فحسب. وكان مُقتضى التبيان أن يقول القرآن: إني خالق الخلق كله من طين، وليس بشراً من طين.

ثالثاً: الآيات تُبَيِّنُ شَرَفًا خاصًّا في خلق آدم. قال الله تعالى في سورة ص: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ [ص: 75]. "لما خلقت بيدي". لو كان المعنى أنه خلق الكائن الأول بيديه ثم بعد ذلك اشتغل التطور فأخرج لنا كل الكائنات الحيّة ومنها الإنسان، فمعنى ذلك أن كل الكائنات الحيّة على كوكب الأرض مخلوقة بيدي الله. وبالتالي فيشترك في هذا التشريف النمل والخنازير والفئران. ولما كان لخلق آدم بيدي الله ميزة، ولقال إبليس: يا ربي ما الميزة في أن تخلق آدم بيديك وقد اشترك في ذلك مُحقَّرات المخلوقات؟ بينما ذكر الله الخلق بيديه في سياق إظهار شرف آدم وتميُّزيه عن غيره. قال: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]. وفي حديث الشفاعة الذي رواه البخاري ومسلم أن الناس يأتون إلى آدم فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده. ولو لم يكن لخلق آدم بيدي الله ميزة لما كان لذكر الناس له يوم القيامة أي معنى، فكل الأنبياء خلقهم الله بل وكل الناس وكل المخلوقات.

رابعاً: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]. هذه الآية جاءت في سياق الرد على النصارى الذين ادعوا أن مجيء عيسى من غير أب دليل على أنه ابن الله. فبيّن الله لهم أن آدم جاء من غير أب ولا أم ومع ذلك فهم لا يقولون ببنوة آدم لله. فعيسى هو كآدم من حيث الخلق المعجز لكليهما. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59]. وخلق آدم أظهر في الإعجاز وأبعد عن معهود البشر إذ أن الله خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

قال مُؤسلمو التطور: لا لا، خلقه من تراب تعود على عيسى، والمعنى أن عيسى كآدم في أنهما من تراب. وبما أننا نعلم أن عيسى وُلد من أم، فمعنى الآية أن الأسلاف الحيوانية لكليهما هي المخلوقة من تراب. فنقول: بهذا الفهم الخاطئ لا يكون في الآية أيَّة حجَّة على النصارى، لأنَّ معناها يُصبح: إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم الذي خلقه الله من أبوين شبه بشريَّين، وهؤلاء كلهم أصلهم من تراب. وهذا الإخبار ليس فيه حجَّة عقليَّة ملزمة للمخالفين الذين ألَّهوا عيسى لعدم وجود أبٍ له. وهذا مثالٌ على بتر مُؤسلمي التطور للآيات عن سياقها. فالآيات التي تلزم النصارى بحجة عقلية جعلوها وكأنها آيات تتكلم عن أصل الجنس البشري بما لا علاقة له بموضوع سورة آل عمران ولا هذا الموضع منها.

خامساً: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1]. ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: 1] كيف منها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "إن المرأة خلقت من ضلع". يقولون: أنت تؤمن بأن حواء خلقت من ضلع؟ هل هذا كلام علمي؟ نعم، بينا أن الظهور الأول للإنسان لابد أن يكون خارجاً عن مألوف الناس. فالتوالد بالطرق المعتادة لا يمكن أن يتسلسل إلى ما لا بداية. وكل المحاولات لتفسير ظهور الرجل الأول والمرأة الأولى بتفسيرات مادية تستثني الخالقية ستقودنا لتخاريف العلم الزائف. فلا تستغرب في قدرة الله أن يخرج زوج آدم من ضلعه أو مما شاء فيه، فهذا مما لا يعلم إلا بالدليل العلمي الخبري.

إذن، فمُؤسلمو تطور الإنسان لن يصطدموا بالنصوص الدالة على خلق آدم فحسب خلقاً خاصاً بلا سوابق، بل وخلق زوجه منه أيضاً. كل ما سبق يا كرام يدل دلالة قطعية على أن الله خلق آدم أبا البشر والإنسان وزوجه، خلقهما خلقاً خاصاً، وأن الإنسان لم يأتِ نتيجة تطور من أنواع حيوانية أخرى سابقة عليه.

ستجد من يقول: يعني أنتم تتصورون أن الله شكل آدم ونفخ فيه الروح هكذا فصار بشراً؟ ما المستنكر في الأمر؟ قد أعطانا الله تعالى مثالاً للإيمان بذلك في معجزة من معجزات عيسى عليه السلام إذ قال: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 49]. فهل كان عيسى ينفخ في الطين فيتحول لكائنات انتقالية عبر ملايين السنين قبل أن يصبح طيراً أمام قومه؟ هذه هي القصة المحكمة لخلق الإنسان.

تعالوا الآن نناقش ما يستدل به مُؤسلمو تطور الإنسان عن كائنات أدنى.

2. الآية الثانية: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"

أولاً: قالوا حين أخبر الله تعالى الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30]. قال مُؤسلمو التطور: كيف عرفت الملائكة أن البشر الذين لم يخلقوا بعد سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء؟ إذن لا بد أن الملائكة رأت الأسلاف التي تطور منها الإنسان تفعل ذلك في الأرض، وعلى أساسه قالت الملائكة ما قالت.

لا معلش، خلينا نقسم الكلام لنصفين. أنتم افترضتم أنه لا سبيل للملائكة إلى معرفة ذلك إلا برؤية من أفسدوا في الأرض من قبل، ثم افترضتم أن الإنسان يجب أن يكون تولد من هؤلاء المفسدين السابقين. وكل الافتراضين لا دليل عليهما. بغض النظر كيف عرفت الملائكة، هل جعل الله تعالى في نفوسها علماً بما سيكون من الإنسان دون سابق مثال؟ أم أن الملائكة رأت أفعال الجن؟ أم أنه كانت هناك مخلوقات سابقة تفسد في الأرض بالفعل؟ ما دليلكم أن هذه المخلوقات التي أفسدت وسفكت الدماء إن وجدت هي أسلاف للإنسان؟ بل وما دليلكم على أنها كانت لا زالت حية لم تهلك حين أنبأ الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة؟

ثم جاءت مراحل انتقالية من كائنات شبه بشرية تناسلت بالماء المهين، ثم انتقى الله منها الكائن الذي سواه ونفخ فيه من روحه، وبذلك خلق آدم. والآيات ترتب المراحل كما ذكرنا. فنقول: مشكلتكم أنكم جعلتم هذه الآيات كلها متكلمة عن الإنسان الأول، بينما الآيات تتكلم عن جنس الإنسان. بدأ خلق الإنسان من طين، فبدأ خلق جنس الإنسان من آدم الذي خلقه الله من طين كما تبين الآيات المحكمات. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، تناسل الإنسان بعد آدم من الماء المهين (النطف). ثم سواه ونفخ فيه من روحه، سوى كل إنسان في رحم أمه ونفخ فيه من روحه، كما قال في الآية الأخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [الانفطار: 6-7].

أما على تفسيركم الغريب فيصبح هناك اضطراب في الضمائر. "بدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله". نسله هذه تعود على من؟ حسب كلامكم تعود على الحيوانات وأشباه البشر، وهم غير مذكورين في الآيات قبلها ولا مفهوم وجودهم من السياق. "ثم سواه" أيضاً حسب كلامكم يعود الضمير على شبه بشر كانوا قبل الإنسان. تكلّف وإقحام لمعاني غريبة ومخالفة لقواعد اللغة. كل هذا للانتصار لفكرة لا دليل عليها، بل وتخالف المحكم القطعي من القرآن. فهذه الآيات أيضاً دالة على الخلق الخاص للإنسان لا على تطوره عن كائنات أدنى.

3. الآية الثالثة: "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين"

ثالثاً: قال الله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: 133]. قال مُؤسلمو تطوّر الإنسان: هذه الآيات تشير إلى أننا نشأنا نحن البشر من ذرّية قوم آخرين غير البشر. وهذا استدلال عجيب حقيقة.

الآية تهديد للمشركين أنه سبحانه قادر على أن يفنيهم ويأتي بقوم لا يكونون مثلهم في العناد والعصيان. فالدنيا لن تدوم لهم كما أنها لم تدم لآبائهم، فقد أنشأهم الله من ذرّية أجدادهم قوم آخرين. هذا سياق الآيات، وليس متعلقاً ببيان أصل الجنس البشري كله كما يدعون.

وذكر الإمام الطبري معنىً آخر أنَّ "من" في الآية بمعنى التعقيب، كما يقال في الكلام: أعطيتك من دينارك ثوباً، بمعنى مكان الدّينار ثوباً. فيصبح معنى الآية: كما أنشأكم أيها المخاطبون مكان أو بدل آخرين هم ذريّة لقوم هلكوا قبلكم. فإنه كان من سنة الله تعالى أن يُهلِك الأمم المكذِّبة إلا ذُرِّيَّة ممن آمن حتى يَدِبَّ فيهم الفساد عبر القرون فيهُلِّكَهم وتقوم بدلاً منهم حضارات ويظهر أقوام يبقون إلى ما شاء الله قبل أن تحلَّ فيهم سُننه. فما علاقة هذا كلِّه بتطوُّر الإنسان عن كائناتٍ أدنى؟

4. الآية الرابعة: "إن الله اصطفى آدم ونوحا..."

رابعاً: قالوا: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]. قالوا: الاصطفاء هو الاختيار، والله لا يختار آدم إلا من بين أقران له وهم أشباه البشر الذين كانوا قبله.

فنقول: أولاً ليس في اللغة ما يلزم بأن يكون الاصطفاء من نفس الجنس. فالله اصطفى آدم على الملائكة والجن بخلقه بيديه وبتعليمه الأسماء كلها وبإسجاد الملائكة له. وحتى من بين البشر فإن آدم قد اصطفي بالفعل بالنبوة على أبنائه الذين كانوا في حياته وعلى من جاء بعده من البشر، كما اصطفى من ذكروا بعده في الآية. فالله اصطفى نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ممن كان قبلهم وفي زمانهم وبعدهم.

5. الآية الخامسة: "وقد خلقكم أطوارا"

خامساً: قول الله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 13-14]. قال بعضهم: هذه الأطوار هي المراحل الانتقالية في التطور. وهذا الاستدلال هو أشبه بالكوميديا لكنها غير مضحكة بل مسيئة لاجترائها على كتاب الله عز وجل. فمن الجهل المدقع أن تأتي لتفسر لفظاً قرآنياً بلفظ مستحدث لم يكن موجوداً وقت نزول القرآن. تصور لو أن مغفلاً قال: القرآن ذكر الأطباق الفضائية! كيف ذلك؟ ألم تر إلى قول الله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 19]!

الأطوار هي كما فهمها العرب عبر القرون مراحل تخلق الإنسان، 13 13. ولاحظ أنهم يضطرون لمخالفة كل القواعد فيقطعون الآية عن سياقها ولا يفسرونها بالآيات الأخرى في الموضوع ولا يجيبون عن الآيات التي تضحض دعواهم وطبعاً لا يلتفتون للسنة الثابتة. كل هذا من أجل ماذا؟ من أجل علمٍ زائفٍ أثبتنا بطلانه، من أجل موافقة المجتمع العلمي الغربي، أو بالأصح الصوت الطاغي فيه، الذي يحاول تفسير الكون والحياة تفسيراً ماديًّا مع إقحام غيبياتٍ غبيَّة من أجل تجنّب الإقرار بالغيب الصحيح.

أنتم بذلك يا مُؤسلمي التطور ترحلون المشكلة، فإنكم ستصطدمون مع هذا المجتمع العلمي في مرحلةٍ ما. فحتى لو قمتم بأسلمة فكرة تطور الإنسان وقلتم أن الإنسان تطور عن الكائن الأول أو الخلية الأولى بإرادة الخالق، فإن المجتمع العلمي الغربي يفسر هذه الخلية الأولى بنظريات العلم الزائف كقولهم أن أشعة كونية ضربت مواد عضوية في المحيط وأخرجت منها شريط الحمض النووي، ثم بمجموع صدف خرجت خلية بكل ما فيها من إبداع وتناسق وتكامل وتعقيد. ويسمون هذه المكابرات الإلحادية والغيبيات الغبية يسمونها تفسيراً علمياً. وتقعون فيما حاولتم التَّهرُّب منه؟

لا يلزمنا تقليدهم ولا موافقتهم، فهم عندهم خللٌ جوهريٌ قادهم إلى هذه التفسيرات، ألا وهو حصر العلم في السَّيَنس، وتعطيل دلالة السَّيَنس عقلاً على وجود الخالق، مما اضطرَّهم إلى غيبيَّاتٍ غبيَّةٍ نسبوها إلى العلم، وهو منها براء. فغيبيَّاتهم هذه لا هي رصديَّة ولا تجريبيَّة ولا علمٌ عقلي ولا فطري، بل حقيقة المادية أنها ستارٌ لعقيدةٍ إلحاديةٍ متعصِّبةٍ عمياء، كما بيَّنَّا في حلقة المخطوف.

الخلاصة والتحذير

كل هذا النقاش، إخواني، في حلقة اليوم، كان يُغني عنه الحلقات الماضية، التي بيَّنَّا فيها أنَّ نظريَّة تطوُّر خُرافة. فبعد إثبات بطلان خرافة التطور يُصبح سُؤال: طيب لماذا لا نحاول التوفيق بينها وبين ديننا؟ مساوياً لسؤال: لماذا لا نحاول أسلمة الخرافة؟ لماذا لا نحاول التوفيق بين كلام الله تعالى وخرافات العلم الزائف؟ سؤال يُجيب عن نفسه بنفسه. وما طرحنا نقاش اليوم إلا زيادة في الحجة وبياناً للمحجة.

إذا فهمت ما تقدّم علمت كمية المغالطات في قول بعضهم: "والانتخاب الأعمى بلا قصد ولا إرادة من فاعل عليم قدير كما هو الوصف لخرافة التطور عند أصحابها". فقولكم: "إذا ثبت هذا في المستقبل" مساوٍ لقول: "إذا ثبت في المستقبل أن اللا ممكن ممكن وأن ما يحكم العقل السليم باستحالته يحصل"، وحينئذ فلا عقل ولا علم ولا برهان.

وأما إن كنتم تقصدون بالتطور مجرد فكرة النشوء الأول للكائنات من أصل مشترك، فقولكم: "إذا ثبتت نظريّة التطور في المستقبل" يخالف طبيعة العلم الرصدي التجريبي ويخالف بداهة من بداهيات فلسفة العلم. فإنما كان قبل التاريخ الإنساني لا يقع تحت الحس ولا التجريب، فلا دليل عليه إلا من خبر المصادر التي دلّت الأدلة على صدقها. أما العلم الرصدي التجريبي فإنه لن يثبت لك في الحاضر ولا المستقبل شيئاً خارجاً عن نطاق بحثه، وتكون تستخدم أداة الاستدلال الخطأ.

وأما قولهم: "فيمكن حينئذ إعادة تفسير آيات القرآن لتناسبها" فهو يشعر بأن الآيات المتعلقة بأصل الإنسان مبهمة المعنى قابلة للقولبة. وقد رأينا أن من حكمة الله تعالى أن جعلها محكمات واضحات بينات مفصلات بما يمنع الحيرة والتردد، فلا تحرف دلالاتها لخرافات العلم الزائف.

نسأل الله أن يهدينا لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.