بَس تربية؟
السلام عليكم. لماذا أنجب أصلاً وأتحمل تعب الأولاد؟ هل لمجرد أن أبدو طبيعية كباقي الناس؟ هل الأولاد نعمة بالفعل وهم في صغرهم مصدر إرهاقي وشد أعصابي؟ ثم إذا كبروا قليلاً عاشوا في عالمهم الخاص في عزلة عني؟ ثم إذا استقلوا وتركوا البيت تركوني لحزني واكتئابي ولزوج توترت علاقتي به لأجلهم؟
هل يُعقل أن أُرسل أبنائي للمدرسة حتى إن أحسست أنها لا تقوم بدورها، لكن من قبيل أن أرتاح من دوشتهم لبضع ساعات أشوف فيها حال شويّة؟ تقولون أن من أهم أعمال المرأة تربية أبنائها، بس تربية؟ قدراتي وطاقاتي ووقتي ومواهبي، أشغل معظم ذلك بالتربية فقط؟ ألا يكفي أني وضعت أولادي في مدرسة نصرف عليها مبالغ ضخمة؟ إذا أردت أن أبرِّ ذمتي تجاه أولادي؟ ما الأمور التربوية التي يمكن أن أذهب بها إلى المدارس عند تسجيل أبنائي، وأسألهم عن برامجهم لتحقيقها؟
ما هي قصة الطبيبين الذين كانا يعطيان مرضى السرطان ماءً وملحًا؟ وما علاقة ذلك بالتربية؟ تحذروننا من الألعاب الإلكترونية وتوفير الموبايلات للأولاد يفتحون فيها على ما شاءوا. طيب، وكيف أملأ فراغهم؟ هل المطلوب أن أملأ فراغهم كله بنفسي وأنسى حالي؟ ماذا إذا كنت لا أجد نفسي في زوجي وأولادي، وإنما في العمل التطوعي والتثقيفي، بل والدعوي؟ أليست هذه أهدافًا سامية؟
زوجي لا يتعاون معي على تربية أولادنا، هل من العدل أن أتحمل الحمل وحدي؟ حاولت أن أصلح ابني أو ابنتي لكنه ضلَّ وانحرف، وأنا محبطة حزينة عليه، فماذا أفعل؟ لماذا يظهر موضوع التربية عميقًا وليس بالسهل؟ أليست المسألة أبسط من ذلك وكل مولود يولد على الفطرة؟
الغاية العظمى من الوجود
بداية القصة يا كرام، خلق الله الخلق لغاية العبودية لله بمفهومها الشامل الذي تكلمنا عنه المرة الماضية. هذه العبودية تحتاج نفوسًا شريفة، عبَّر عن تشريفها الحفاوة باستقبال الإنسان وسجود الملائكة له، ثم تسخير كل شيء لخدمته: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
كل شيء هو لأجلك وفي خدمتك لتحقق هدف وجودك من العبودية لله بمفهومها الشامل. ستحتاج اكتساب صفات الشرف والكرامة لترقى نفسك لمهمة العمل للغاية العظمى، ولتحصيل العزة والتمكين والاستخلاف اللائق بأولياء الله. لذلك: {مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}. فأنت المستفيد في عملية تأهيلها هذه، بالإضافة إلى النعيم المقيم في جنات الخلود.
في المقابل، من تغافل عن غاية وجوده ونسي ربه، حُرم هذا الشرف: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}. أنساهم أن يعملوا لخير أنفسهم وأن يزكوها ويبنوا منها إنسانًا يعمل للغاية العظيمة التي أوجد من أجلها.
عندما أستحضر أن غاية وجودي هي العبودية لله وما يتبعها من نعيم، فإن أفعالي كلها تصب في تحقيق هذه الغاية، حتى الأفعال الفطرية كالزواج والإنجاب. ومن جمال العبودية لله أنها تعزز لنا الاستمتاع الفطري بنعمة الأولاد: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. قرة أعين في الدنيا وفي الآخرة.
مقابل الذين نسوا الله فانقلبت قرة العين عذابًا: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. أبنائي امتدادٌ لمشروعي بعد وفاتي أو ولدٌ صالحٌ يدعو له. لكن حتى يكونوا كذلك لابد من أن أبني فيهم الإنسان الشريف الكريم كما أحبَّ الله له أن يكون، وهذه هي التربية. كل هذا يجعل أبنائي وتربيتهم في بؤرة اهتماماتي. يصبحون أهم مشاريعي.
تبدأ مشكلة إخواني إذا نسينا الغاية العظمى من العبودية لله في هذا كله. وبما أن هذه الكلمة هي ضمن سلسلة "لك أنتِ أيها المسلمة"، فسيكون تركيزنا فيها على نفسك أنتِ ودورها في التربية. لأنها ضمن دائرة النجاح في الأساسيات التي تكلمنا عنها، قبل أن تنطلقي لمحاولة النجاح والبحث عن الذات في مجالات أخرى تائهة عن خارطة الأساسيات والأولويات التي تكلمنا عنها.
ما هي التربية؟
أولاد يذهبون للمدارس وقد حرصت أن أسجلهم في مدارس محافظة وبيئات آمنة نسبيًا، سيتربون كما تربيت أنا، ماذا علي أكثر من ذلك؟ طيب تعالي نستعرض معًا ماذا تعني التربية، ثم نرى إن كان ابنك يحصلها في المدارس أو المجتمع بالفعل.
بناء القيم والأخلاق
التربية تعني أن تربي أبنائك على معاني الحياء، الشهامة، النخوة، الرحمة، الكرامة، العزة، رفض الظلم، الغضب لله، الغيرة على الحرمات، النهي عن المنكر، قوة الشخصية في هذا العالم الذي يحاول سحق هذه المعاني بكل الوسائل ومنها التعليم والإعلام وأفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية بما فيها من إيحاءات مدروسة تهدم الحياء وتنمِّي العنف.
تنمية التفكير النقدي
التربية تعني أن تعلم ابنك كيف يفكِّر، كيف يطرح الأسئلة الصحيحة، كيف يعبِّر عن نفسه، كيف يميِّز بين العلم الحقيقي والعلم الزائف، كيف ينقض الأفكار التي تعرض عليه، كيف يعرف المغالطات في النقاش التي يستخدمها المبطلون ليشككوه في دينه، كيف يتحقق من المعلومة.
اكتشاف الذات وتحديد الأهداف
التربية تعني أن تعيني ابنك وبنتك على اكتشاف نفسه واستثمار جوانب قوته، ومن ثم على اختيار الأهداف التي تناسب قدراته وظروفه ويساهم بها في إعزاز أمته. أن تعلمي الولد أن "كن نفسك، تقبل نفسك، لا تتقمص شخصية غيرك، ولا تحس بالفشل إن لم تحقق ما حققه غيرك، ولا ترسم أهدافًا لا تناسبك، فلكل شخصيته"، لأن ابنك بغير ذلك لن يقنع ولن يسعد.
الإجابة عن الأسئلة الوجودية
التربية تعني أن تدلي أبنائك على الإجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى: من أنا؟ من خلقني؟ إلى أين المصير؟ ما الغاية من وجودي؟ لماذا أنا مسلم؟ ما الأدلة على أن القرآن من عند الله؟ ما الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ كيف حفظ القرآن والسنة اللذين أرجع إليهما في حياتي؟
التربية تعني ألا يصير الولد عمره 22 سنة أمضى منها 18 سنة في المدارس والجامعات وهو لا يعرف إجابة هذه الأسئلة، بل ولا يعرف كيف يفكر، فكلمة تجيبه وكلمة توديه، ومقال تافه أو مقطع فيديو يخلعه من دينه بكل سهولة ويناقش بكل سذاجة فاقدًا لأدنى مقومات التفكير الصحيح والنقاش العقلاني والنقد العلمي، وهو ما خدع بنفس مقلب أنه متعلم بل وربما مهندس أو طبيب أو دكتور جامعي.
ربط الأبناء بالهوية الإسلامية
التربية تعني أن تربطي أبنائك وبناتك بالرموز الحقيقية في تاريخهم الإسلامي، وتعرفيهم بتاريخ أمتهم ليعلموا أن لهم جذورًا عميقة ويعتزوا بها، بدل أن يكونوا طحالب، إمعات مقلدين للزونات والمخمورين، وتائهي مشاهير السوشيال ميديا في لباسهم، وقصات شعرهم وحركاتهم.
تنمية الوعي والمسؤولية
التربية تعني تعويد ابنك أن يطرح سؤال "لماذا أفعل ذلك؟" في كل ما يفعل، فهو ليس قطيعيًا مقلدًا تقليدًا أعمى. التربية تعني أن تنمي في طفلك ملكة التنبه للمدخلات، فينتبه لحيل وسائل الإعلام وطرقها في محاولة إعادة صياغة نفسيته وقيمه. وأذكر كيف كان أبي رحمه الله ينبهنا على ذلك بمناقشة بعض ما نشاهد، وكان لذلك أثر كبير.
حب العلم النافع
التربية تعني أن تُحبِّبي إلى ابنك وابنتك طلب العلم النافع في كل المجالات، وعلى إمساك الكتب ومتابعة السلاسل وشعارهم: "احرص على ما ينفعك"، ويشعر بالامتلاء العقلي والروحي بدل الفراغ الذي يدفعهم إلى متابعة توافه اليوتيوبرز، أو الإدمان على المقاطع الإباحية، أو العيش في وهم الألعاب الإلكترونية.
إتقان أدوات العصر
التربية تعني أن تُولِّد لدى ابنك الحافزية ليتعلم ما يُعينه على إتقان أدوات عصره، ليكون مؤثرًا وناجحًا كمسلم. فيتعلم استخدام التقنية، إدارة المال، مهارات الإقناع، مهارات القيادة والعمل في فريق.
الصحبة الصالحة
التربية تعني أن تربطي أبنائك بالصحبة الصالحة، وتبحثي لهم عن رفاق الخير بحثًا حتى وإن احتجت أن تعملي علاقاتٍ مع أمهات، لتوفير المحاضنة الآمنة ورفاق الصلاح لأبنائك.
حقوق وواجبات الأسرة
التربية تعني أن تعلمي أبنائك وبناتك ما نبثه هنا من حقوق كل فرد من أفراد الأسرة، وواجباته وأولوياته. وتعلمي ابنك أن يصل إخوانه ويحن على أخته.
الجدية وتحمل المسؤولية
التربية تعني أن تعلمي أولادك الجدية وتحمل نتائج أفعالهم وتوقع الألم في الحياة والتعامل معه بصبر ورضا، وأنهم ليسوا في هذه الحياة للراحة والركون إلى الدنيا وأنها دار بلاء لا دار جزاء.
الارتباط بالقرآن
التربية تعني أن تربطي أبنائك بالقرآن وتنمي لديهم ملكة فهمه والاستدلال به في زمن يراد لدين الله أن يحصر في شعائر محدودة، ويكون التقديس والتعظيم لأهواء البشر.
توحيد الله وتعظيمه
التربية تعني أن تجعلي أعظم قيمة لدى أبنائك توحيد الله، تعظيم الله، محبة الله ورسوله، لتكون فوق كل محبة، وتجنبيهم ما يشوب التوحيد.
الانتماء للأمة الإسلامية
التربية تعني أن تعلمي أبنائك الانتماء إلى أمتهم الإسلامية والاهتمام بأحوالها وتحويل الهم لها إلى العمل بإيجابية دون يأس ولا إحباط.
بناء علاقة قوية مع الأبناء
التربية تعني بناء العلاقة الوطيدة مع أبنائك والمحبة والثقة والاهتمام بهم وسماع مشاكلهم والصداقة معهم، وبغير ذلك لن تحققي الأهداف التي ذكرنا.
فهم خصائص المراحل العمرية
التربية تعني أن تتعرفي على خصائص كل مرحلة عمرية لأبنائك وما يلزم لها مع تنويع الأساليب كالقصة واللعبة والنشاط الجماعي.
معالجة المشكلات الشخصية
التربية تعني أن تعيني ابنك وابنتك على معالجة المشاكل التي تعرض لهم في طريق بناء شخصياتهم كما تحرصين على علاج أمراض أجسادهم بل وأكثر.
القدوة العملية
التربية تعني أن تكوني قدوة عملية تتمثلين هذه المعاني كلها في ذاتك قبل أمر أولادك بها، فدمعة صادقة منك عند قراءة آية أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفعل فعلها في قلب أولادك أكثر من ألف درس دين في المدرسة. إصرارك على ولدك أن يقوم إلى صلاة الفجر أكثر من إصرارك عليه أن يقوم إلى المدرسة يبني تعظيم الله في قلبه ويجعل الله أولًا في حياته بالفعل. أداؤك لدورك في غياب والدهم كما هو في وجوده يعلمهم أن يجعلوا مراقبة الله نصب أعينهم.
بِرُّك بوالديك وخدمتُهما، قراءتُك كتبًا منهجيَّةً أمام الأولاد ومعهم، وعدم الاقتصار على متفرِّقات مواقع التواصل تجعلهم يألفون القراءة، ولن تحتاجِ بعدها أن تملئي وقتَهم بنفسِك ما دمتِ قد وضعتِ قدمَهم على الطريق. في المُحَصِّلة، تربية تعني أن تبني الإنسان الذي يعملُ لغاية تحقيقِ العبودية بمفهومِها الشَّامل لصلاحِ الدنيا والآخرة.
أعرفتِ يا كريمة ما معنى تربية؟ ما معنى بناء الإنسان؟ أعرفتِ ما معنى "وهي مسؤولة عن رعيتها"؟ ومعنى قول نبينا في الحديث الذي أخرجه البخاري وهو حديث مخيف يشعرك بعظم المسؤولية: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة". انظري إلى التعبير النبوي: "فلم يحطها بنصحه". مطلوب منك تحيطي أولادك من كل مكان، ليس بكثرة النصائح والانتقادات فهي تحدث السآمة والنفور من أولادك تجاهك، وإنما بالقدوة العملية والتوجيهات عند الحاجة وحمايتك لهم مما يضرهم وحزمك في ذلك مع عطفك وودك، تحيطيهم حتى تحميهم من سهام الشهوات والشبهات اللي جاي عليهم من كل حدب وصوب.
أنت المؤهلة لبناء هذا كله في ابنك. أنت المؤهلة لترسيخ الأمانة في قلوب أبنائك بسلوكك العملي، كما في حديث حذيفة بن اليمان قال: "حدثنا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة". الأمانة الصدق مع النفس التي إن رسختها في قلوب أبنائك نفعهم القرآن والسنة، وإن لم تزرعيها لم ينفعهم شيء وكانوا أرقامًا في ظاهرة الغثائية والنفاق.
سفيان الثوري قالت له أمه: "يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي" يعني أحيك الملابس وأبيعها وأنفق عليك، لكن أنت تفرغ لطلب العلم. "يا ابني إذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشوعك وحلمك ووقارك" يعني في الأخلاق، "فإن لم تر ذلك فاعلم أنه يضرك ولا ينفعك". لم تقل له: "جيب علامة علشان نفاخر بيك وتكون أحسن من ابن عمك"، وإنما أرادت للعلم أن يؤثر في أخلاقك، تعلمه أمانة العلم.
نشأ الإمام أحمد بن حنبل والشافعي يتيمين وتولت أم كل منهما تربيته فأصبحا من سادة الأمة في العلم والعمل. أنت المؤهلة لهذا كله لأنهم أبنائك، لن تعوض المدرسة ولا الحضانة ولا الروضة ولا الشغالة عنك أنت. فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة. فلا تستغربي لما الإسلام كرم الأم وجعل الجنة عند رجلها.
تصوري بعد هذا كله لما كنت تقولي لنفسك "بس تربية" وتحطي بعد سؤالك استفهام وتعجب، بينما كلمتك هذه بحاجة إلى ألف تعجب. كل هذه الأركان لتربية النفس البشرية أصبحت الثقافة السائدة أنها تيجي لحالها وهم يتشربون هذه الغفلة يوميًا من سلوكنا. يعبر عن ذلك تعليق إحدى الأخوات على حلقة "المرأة والبحث عن الذات" إذ قالت: "أعتبر نفسي ضحية هذا التفكير. فتربيتي كانت على هذا: ذاكري وفقط، يعني ادرسي فقط، لا نريد منك إلا الانكباب على الكتاب لتحصلي على أعلى الدرجات وتدخلي كلية مميزة. دخلت ثم تزوجت بدون أي تأسيس أو تعليم لكيفية إدارة البيت أو التعامل مع الزوج أو تربية الأبناء. وفوق كل هذا إحساس قاتل بالذنب لأني لم أكمل دراسات عليا بعد الجامعة. الأهل يوصلون رسائل أن قيمتك فيما وصلت إليه من مركز وما حققتيه من إنجاز في مجال العمل، أما بيتك فهذا تحصيل حاصل كل النساء يفعلنه، لا يهم كيف ولا يهم النتيجة، المهم نفتخر بك إذن".
أما بيتك فتحصيل حاصل كل النساء يفعلنه، المهم نفتخر بك. والأخرى تعلق بأن زوجها يعيرها: "لماذا لا تكونين كفلانة تشتغل وتأتي بالمال؟ البيت والأولاد كل الزوجات عندهن بيت وأولاد". تصوري كم اشتغلوا علينا حتى تشوهت عبارة "عمل المرأة في بيتها" وانحصرت في أذهاننا بالجمادات من المجلى والغسالة والمكنسة والثلاجة.
لما نسمع باستمرار عن أبناء وبعضهم من عوائل تصنف على أنها ملتزمة يلحدون أو يميلون للشذوذ وأباؤهم مستغربون، من ماذا تستغربون؟ هل حصنتم أبنائكم وأحطتموهم بنصحكم كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم؟ أم أن أعداءكم زرعوا في أبنائكم وأنتم غافلون، فهم أعداؤنا يحصدون.
ممكن تقولي لحضرتك المدارس كم من هذه الأهداف تحقق؟ بل هل هي تحقق هذه الأهداف أم تدمرها إلا من رحم ربي من معلم هنا أو معلمة هناك؟ وكتطبيق عملي إذا ذهبت لتسجلي ابنك أو ابنتك في مدرسة فأرجو أن تأخذي معك قائمة الواحد وعشرين مقومًا من مقومات التربية التي ذكرناها وتسألي المسؤولين في المدرسة: "ممكن تقولولي كم من هذه الأهداف تحققون وما البرامج والأساليب التي تستخدمونها لتحققوها؟"
من سنوات اكتشفت حالة لطبيبين في أحد المستشفيات الحكومية الكبرى في بلد عربي، يأتي مريض السرطان فيصرف له دواء، لكن وبالتنسيق مع بعض الممرِّضين في المستشفى لا يعطي الطبيبان الدواء للمريض بل يباع في السوق السوداء، وأما المريض فيوضع له حقن وريدي "نورمال سلاين" يعني ماء وملح. مؤلم أليس كذلك؟ ما يحصل لعامة أبناء المسلمين هو الشيء نفسه، هم بحاجة لعلاج إنسانيتهم من الجهل والهوى، لكن الذي يعطى في كثير من المناهج التعليمية هو نورمال سلاين، بل وفي كثير من الأحيان سموم. والأبوان يعتبران أنهما أديا ما عليهما بإرسال الأولاد إلى هذه المدارس. أخطر شيء لا أن تترك المريض دون علاج، بل أن تدخل لجسمه نورمال سلاين أو سمومًا وأن تتوهمه وأهله أنك تقدم له علاجًا.
قد تقولين: "لكن كلامك عن دوري في التربية غير واقعي، فأنت كأنك تريد من كل أم أن تكون عالمة في كل هذه المجالات". فأقول لك: المطلوب منك يا كريمة أن تبني الأساس وتضعي قدمي ولدك على الطريق الصحيح وتولدي لديه الحافزية للتعلم والعمل بما يتعلم، ثم يكون دورك بعد هذا أن تعينيه وتشجعيه. طرأت عليه شبهة سمعها، تعال يا ابني نبحث عن الجواب، وتتعاوني معه في التعرف على المصادر والمراجع الموثوقة والأشخاص الذين يسمع لهم. عانت ابنتك من مشكلة نفسية، تعالي نستشير مختصة. أبناؤك هم في صلب مشروعك.
دور الأب في التربية
قد تقولين: "أراك وضعت حمل التربية علي وماذا عن الأب؟" بداية ليست حملًا بل شرفًا. التربية، التزكية، بناء الإنسان، هذه وظيفة الأنبياء عليهم السلام، وشرف العامل على قدر شرف العمل. وبما أن عبء النفقة يقع على الرجل مع ما يتطلبه ذلك من إنفاق ساعات في العمل خارج البيت عادة، فبطبيعة الحال سيكون الوقت الذي تمضينه مع أبنائك أطول بكثير وستكون فرصتك في التربية أكبر. ومع ذلك فعلينا أن نذكر بأنَّ التربية مسؤوليَّةٌ مشتركة بين الأب والأم، فمسؤوليَّةٌ بهذا الحجم تحتاج تعاونكما.
في التعليق على حلقة "أنا مشتغلة البيت"، اعترض بعض الرجال قائلين: "يعني تريدنا أن نكدَّ ونتعب في العمل، ثم المرأة تجلس مُدلَّلة في البيت، لا تعمل شيئًا، بل وتقول لنا ساعدوها كمان في عمل البيت؟" بل نقول أخي نحن نطالبك بمعاونتها في عمل البيت والتقليل من المتطلبات لتفرِّغها للمهمة الأعظم: بناء الإنسان. وعليك أن تعينها على هذه المهمة أيضًا، لا أن تقصر في واجبك في التربية تحت عنوان "أنا أعمل لأجلكم لتحصيل قوتكم، تكاليف الحياة عالية، أيامنا صعبة". وحتى الوقت الذي تمضيه في البيت ليس وقتًا نوعيًا تكون فيه متفرِّغ الذهن لأبنائك بل تنشغل عنهم بالموبايل والاتصالات وغيرها من لوازم القوامة التي تكلمنا عنها.
أن يكون الأب قدوة البيت في التوازن وإعطاء كل ذي حق حقه، وبالتالي نحمله المسؤولية الأولى عن تحقيق ذلك. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في من لم يحط رعيته بنصحه "لم يجد رائحة الجنة" موجه لك أنت أيضًا أيها الرجل. وهناك أدوار في تربية الأبناء لا يصلح لها إلا أنت بما فضل الله بعضهم على بعض، ومن المرهق جدًا للمرأة والظلم لها مطالبتها بها. فعليك أنت قيادة مشروع التربية وتذليل عقباته.
مشوار تربية الأبناء بدايته الحقيقية هي من اختيار الزوجة واختيار الزوج الذي يشاركك في تحقيق الهدف الأعظم كما ذكرنا. لكن نقول لك أنتِ يا كريمة: افترضي أن الأب لم يقم بدوره في التربية، طالبته بذلك وذكرته بالله لكنه لا يتجاوب، هل ستتركين أولادك؟ إذا الأب لم يأخذ الأولاد إلى مطاعيم شلل الأطفال والحصبة والجدري وغيرها، هل ستقولين هو قصر فلن أتحمل الحمل وحدي؟ أم ستدفعك رحمتك إلى أخذهم؟ أليست نفس طفلك وروحه أولى؟ "أقبل على النفس واستكمل فضائلها، فأنت بالروح لا بالجسم إنسان". لن تكون مهمة سهلة، لكنك تبرئين ذمتك أمام الله، ولعلك تستعينين بمحاضنة تربوية كالمراكز والدورات النافعة والصحبة الصالحة، لتساعد في سد الفجوة التي أحدثها الأب المقصر، وتعينك على المهمة.
التربية الذاتية للأم
قد تقولين: "لكن بصراحة أنا نفسي فاقدة لكثير من معاني التربية ومقوماتها التي ذكرتها، فكيف أنشئ عليها أبنائي وفاقد الشيء لا يعطيه؟" صحيح، نحن نحتاج أن نتربى على هذه المقومات أولًا ثم نربي عليها أولادنا، وهذا مشوار حياة، يحتاج تعلّمًا مستمرًّا وجهدًا ضخمًا واستعانةً بالله. عامة ما نبثه في المقالات والسلاسل هو محاولة لبناء المقومات التربوية المذكورة في أنفسنا سواء في رحلة اليقين أم في سلسلة المرأة أم في مسابقات الاستدلال بالقرآن أم في غيرها، بالإضافة إلى سلاسل وكتب سنحيل عليها لمربين فضلاء تسد الثغرة وتعطي خارطة الطريق. ما نحاول وصاله ما هو إلا ألف باء الحياة الذي كان يجب أن نتعلمه بدءًا من سنواتنا الأولى.
فالحل يبدأ من تعظيم أهمية بناء الإنسان. نحن الآن نخوض معركة استعادة السوية النفسية، تحرير الروح والنفس والفطرة وإعادة إحياء الهدف. لكن الجميل في الأمر في المقابل هو أنك ستكتشفين وأنت تربيين ابنك أنك تربيين نفسك. نفسك بين جنبيك لا ترينها، لكن سترين عيوبها وحيلها وجمال نتائج تربيتها، ترين ذلك كله في ابنك وابنتك. وكأنها من حكمة الخلق وسنة الحياة أننا في مشوار التربية نكتشف أنفسنا، نكتشف جمال النفس البشرية التي وهبنا الله إياها وجمال زرع البذور فيها وسقيها بماء الوحي وحصاد النتائج وجمال تحريرها من الاحتلال. وبإمكانك أن تري الإحساس بهذا الجمال في التعليقات على الحلقات من إخوة وأخوات ذاقوا لذة اكتشاف الشريعة واكتشاف نفوسهم بفضل الله.
التربية بين البساطة والتعقيد
قد تقولين: "لكن ألا ينبغي أن تكون مسألة التربية أبسط من ذلك؟ أليس كل مولود يولد على الفطرة؟ هل الأجيال المسلمة الأولى احتاجت كل هذا التعقيد؟" فنقول يا كريمة: من أخطر ما حدث للمسلمين حين انسحب الاحتلال العسكري من بلادهم أنهم ظنوا أنهم مستقلون، لأنهم ما عادوا يرون جنود العدو يتجولون في الشوارع، وبالتالي فلا يدركون الاحتلال النفسي والفكري والروحي والقيمي الذي يعيشونه، فلا يسعون للتحرر. كما عبر أحدهم بشكل بليغ: "وأقول كل بلادنا محتلة، لا فرق إن رحل العدا أو ران. ماذا نفيد إذا استقلت أرضنا واحتلت الأرواح والأبدان؟ ستعود أوطاني إلى أوطانها إن عاد إنسانًا بها الإنسان".
ستعود أوطاني إلى أوطانها دون تكلف بالاتجاه الصحيح. نفوس معتزة بالوحي تثق به ثقة مطلقة وتنفر من الجاهلية الماضية والجاهليات المحيطة بها وتحتقرها وتسد منافذها إلى القلوب، وتعيد النظر في كل موروثاتها وتُحاكمها للمعايير الرَّبَّانيَّة. تعاودها نزغات من الجاهلية بين الحين والآخر لكنها تُدرك أنها جاهلية فتُجاهدها وتتخلَّص منها. تقع في معاصٍ لكن تُدرك أنها معاصٍ. بينما مولود اليوم يُلَد على الفطرة فما تلبث منظومة الاحتلال الناعم أن تطمِسه وتشرِّقه وتغرِّبه نفسيًا وفكريًا وقيميًا وتغرِقه في سيلٍ متتابعٍ من الفتن والشبهات وتلبِّس الحقَّ له بالباطل، ومغناطيس العبودية لله والذي يجمع الشتات غير موجود، فتبدو العملية صعبة لأننا نجعل شتات النفس المتفلت الذي يتجاذبه الدعاة على أبواب جهنم. كان القرآن مفهومًا يحدث أثره البليغ في النفوس والآن يشكل فهمه على عامة العرب.
دورك يا كريمة أن تنفضي هذا الركام عن فطرة أبنائك وتنصبي أمام أعينهم الهدف الذي يجمع شتاتهم وتقربي إليهم الوحي.
الخوف من المستقبل والتردد في الإنجاب
قد تقولين بعدما ذكرته: "فإني أخاف على مستقبل أبنائي، بل وقد أتردد في الإنجاب من أصله". فنقول لك: من قدر الله لهذه الأمة أن تكون هي الغالبة في النهاية. فاتح روما المبشر به، دخول الإسلام كل بيت. هذا كله سيكون على يد ذريّة من أبناء المسلمين. لن ينقرض المسلمون ويأتي أناس من كوكب آخر لينصر الدين. بشريات نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاصدها سكب هذه الطمأنينة في قلوبنا وأن نعلم أننا نقارع في جولتنا ونسلم الراية لأبنائنا بحسن تربيتهم ليستكملوا مشوار النصر. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
أخطر ما يحصل في تربية الأبناء أيتها الكريمة والسبب الرئيس في ضياعهم وتحولهم إلى مصدر الشقاء للوالدين هو نسيان الوالدين لهذه المعاني، نسيان أن الأبناء وتربيتهم يجب أن تكون من مشروع تحقيق الغاية العظمى: العبودية لله. يتزوج الشاب والفتاة ينجبان لأن الناس ينجبون لا أكثر، وأحيانًا للاستمتاع بغريزة الأبوة أو الأمومة والاستئناس بصوت الأطفال في البيت، ثم ماذا؟ لا شيء. أنت تبحث عما تهواه نفسك وتستمتع به أكثر من أداء واجبك الأسري، وأنت تبحثين عن تحقيق ذاتك ورسم قصة نجاحك بعيدًا عن الأولاد.
هذا النوع من الآباء والأمهات سيجد نفسه يصطدم بأولاده، سيراهم عقبة في طريق طموحاته أو هواياته، لأن أولاده هؤلاء ليسوا جزءًا من طموحاته. سينفعل ويتأفف عندما يأخذون من وقته لأنهم يعيقونه عن تحقيق مشاريعه التي ليسوا هم جزءًا منها. وهذا الانفعال والتوتر يضاعف الفشل في التربية. الأبناء الضائعون بين أبوين لا يجدان متعة في تربيتهم سيبدأون بعامل المشاكل، وستتوتر علاقتهم بكما أيها الأبوان، بل سيصبحان مصدر توتر العلاقات بينكما كزوجين، فكل منكما يتهم الآخر أنه السبب، وكل منكما يلقي بحمل الأولاد الثقيل على الآخر، وأولادكما ينظرون ويحفر في صدورهم كيف أنكما تتعاملان معهم كحمل مزعج، بدل أن تستمتعا بالقرب منهم.
هنا ماذا يفعل كثير من الآباء والأمهات؟ يقدمون أخطر رشوة للأولاد، يوفرون للأولاد ما يهوونه حتى وإن كان ضارًا بهم، ولسان حال الأب أو الأم: "ابني أنا مشغول عنك، لا تأخذ من وقتي وذهني الكثير. ماذا تريد؟ طعامًا؟ خذ حلويات ولو ضارة. خذ مصروفًا زائدًا ولو كان مفسدًا. خذ موبايل، تابلت، آيباد. خذ إكس بوكس، بلاي ستيشن. خذ خذ ما تريد وحل عني لا تزعجني". إبر لتخدير نفس الولد التي تصرخ من الجهل والفراغ الروحي مطالبة بما يضرها ولا ينفعها.
علَّقت إحدى الأخوات على الحلقة الماضية قائلة: "زوجي طيب وملتزم لكنه لا يساهم في تربية أولاده إلا بتلبية رغباتهم وإرضائهم وملاعبتهم حتى لا يحس بالنقص عن غيرهم من الأولاد كما يقول. وإلى متى والطفل ينجذب للترفيه والتدليل، وينفر من الإلزام والإجهاد الذي أمثله؟" فنقول: نعم يا أختي الكريمة استمري مع تنويع الأساليب ومزج ما تقومين به بالعطف وإظهار الاهتمام واطلبي من زوجك الكريم أن يحضر الحلقة أيضًا، ولك بإذن الله على صبرك وجهادك الأجر العظيم.
الاهتمام المدمر والتوازن في التربية
في مقابل الإهمال هناك الاهتمام المدمر. الخطورة أننا إذا قلنا للمرأة اهتمي بأبنائك ولم نشرح كيف يجب أن يكون هذا الاهتمام، فستظن أن احتراق أعصابها لأجلهم والتصاقها النفسيَّة بهم هو الاهتمام المطلوب. وتظن أن تفريغهم للدراسة دون إشراكهم في واجبات البيت وتسميع الدروس لهم والصراخ عليهم ليحلوا واجباتهم المدرسية وتحمل مسؤولياتهم عنهم حتى على مستوى ترتيب الفراش وقتل قدرتهم على الاستقلالية هو الاهتمام، وأنها بذلك أدت ما عليها تجاههم بل وزيادة. وهي في الحقيقة تفرّغ شحنة الإحساس بالمسؤولية في المكان الخطأ تمامًا، فتؤذي نفسها وتؤذيهم وتحسب أنها تحسن صنعًا.
عندما يكون هدفنا العبودية لله فإن هذا الاهتمام سيتخذ الأشكال الصحيحة في بناء الإنسان، بغير ذلك سيكون الاهتمام مؤذيًا. أريد لابني أن ينجح في حياته، ما مفهوم النجاح؟ ما معايير النجاح؟ إن أردت أن تساعدي أبنائك في دراستهم فحببي إليهم العلم، علّميهم كيف ينظّمون جدولهم، كيف يفكّرون في مسائل من هذا النوع، كيف يحلّلون ويربطون، لا على طريقة "تعال أسمّع لك" وهي أشهر كلمة في ثقافتنا التدريسية، ثم بعد ذلك دعيهم يتحمّلون المسئوليّة عن تقصيرهم في واجباتهم، ولا تدعي ذلك يفسد علاقتك بهم أو يشحن جوّ البيت بالتوتر والصراخ.
من أهم مبادئ تربية أولادك أنت كأم هو أن تتخلّي عن رحمتك المؤذية وتدخلاتك وتُصبحي أكثر عقلانيَّةً وهدوءً واعتناءً بنفسك، لا أن تكوني أمَّا محترقة تعانين من التوتر والقلق تحت شعار الاهتمام بالأولاد، أعصابك مشدودة على أهبة الاستعداد، مستنزفة نفسيًا، سريعة الانفجار معهم ومع الزوج. فكم من امرأة بعد الإنجاب وبعد أن يكبر الأولاد قليلًا تصبح أمَّا فقط لا زوجة، تتوتر علاقتها مع زوجها فيرى أبناؤها الذين يفترض أنها احترقت من أجلهم يرون أمًّا فاشلةً في العلاقة الذاتية مع نفسها ومع زوجها ومعهم، محترقة متوترة. فترسم الأم بذلك لأولادها وبناتها صورةً بائسةً للحياة ولمؤسسة الأسرة، فينفرون من الزواج الحلال بل ومن الإسلام الذي شرعه وحث عليه وحرم غيره، ويبحث الأولاد والبنات عن الإشباع العاطفي في العلاقات غير الشرعية لأنهم لا يريدون تكرار تجربة الزواج الفاشلة.
شعار "كوني شمعة تحترق لتضيء الدرب للأولاد" شعار خاطئ. ديننا يعلمنا "ولنفسك عليك حقًا"، فأعطي كل ذي حق حقه. إذا احترقت فلن تنيري حياة الأولاد بل ستسوّدين برماد هذا الاحتراق حياتهم. لا تحترقي بل أضيئي حياتهم بتوازنك واطمئنانك. أعطي نفسك حقها وفق دوائر الأولويات التي تكلمنا عنها. انبسطي مع نفسك ورفهي عنها ثم انبسطي مع زوجك وأعطيه حقه وستنصلح أمور أولادك بعد ذلك بإذن الله. لا تعلقي نجاحك بنجاح أولادك فيما يفرضه المجتمع من معايير مثل الدراسة المدرسية والشهادة الجامعية والعلامات. لا تنشغلي بالآخرين ورأيهم وصورة أولادك أمامهم على حساب نفسك وحظها من الخير وأن يكون الله أولًا في حياتك وحياة أولادك. كوني نموذجًا للتوازن والسعادة فهذا يعين أولادك على نجاح حقيقي في الدين والدنيا وأن ينشئوا هم أيضًا أسرًا متوازنة سعيدة.
التعامل مع إحباط التربية
طيب جعلت العبودية لله هدف حياتي وأنا مهتمة بهداية أبنائي وعبوديتهم لله وبآخرتهم، أو أني تنبهت لهذه المعاني بعدما كبر أولادي وحاولت أن أتدارك ما فات لكن أولادي لا يستجيبون وأنا أشعر الآن بالإحباط والفشل مما يؤذي نفسي. هنا تأتي الشريعة لتُرسِّم الحدود، وتمنع هذا الاهتمام من أن يطغى على اهتمامك بنفسك، وتمنعك من إحراق نفسك حسرة عليهم، وليذكرك بأن نبي الله نوحًا لم يستطع أن ينقذ ابنه وقضاء الله نافذ. فلا يطغى الاهتمام بابنك أو ابنتك على اهتمامك بنجاة نفسك.
من انحرف ابنها أو ابنتها أو عاشوا حياة الغافلين فنعم. صحيح عليها أن تراجع نفسها وتفكر ما الأسباب يا ترى وتسعى إلى تدارك ما فات وتصلح فيما تبقى قدر الإمكان، لكن دون إحباط ومع حذر شديد من أن يدخل الشيطان إلى قلبها من باب محاسبة النفس ومن ثم المبالغة في جلد الذات.
قد تقولين: "أنا مقتنعة عقليًا بما تقول لكن نفسيًا لا أجد نفسي مع زوجي وأولادي وإنما في العمل التطوعي أو التثقيفي أو حتى العمل الدعوي، أليست هذه أهدافًا سامية؟" فنقول يا كريمة: يعلمنا ديننا أن أحدنا لا يعمل ما يستمتع به فقط، بل ما يجب عليه. ومن الهوى أن تخالفي سلَّم الأولويات، وتقدمي محبوب نفسك على محبوب الله، حتى وإن كان ما تحبِّينه طاعة. وهذا من معاني قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}.
شرع الله الذي يأمرك أن ترعي أبنائك وتغالبي نفسك في ذلك إن كنت لا تجدين متعة في هذه الرعاية والتربية، هو ذاته شرع الله الذي يأمر ابنك أن يرعاك عند برك ويغالب نفسه حتى وإن كان لا يجد نفسه ومتعته في خدمتك وتلبية حاجاتك ويجد ذلك مملًا بالنسبة له، وحتى وإن كان يريد أن ينشغل عنك بطاعة. نبينا صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية السلمي الذي جاء يريد الخروج للجهاد مع النبي: "ويحك إلزم رجلها فثم الجنة" يعني أمه. جريج العابد ابتلاه الله لأنه شغل نفسه بصلاته عن نداء أمه كما في البخاري ومسلم. أويس القرني منعه من نيل شرف الهجرة إلى النبي وصحبته بره بأمه ولزوم خدمتها. الأعمال المذكورة في هذه الأحاديث الصحيحة: جهاد الطلب، يعني الفتوحات، صلاة النافلة، الهجرة، هي من أشرف الأعمال. لكن الله قدم عليها بر الأم، ولعل أصحابها كانوا ممن تعتمد عليهم أمهاتهم.
الله الذي يأمرك أن ترعي أولادك وتحققي عبوديتك في ذلك، هو الذي يأمرهم أن يبروك عندما تكبرين، ويحقق عز عبوديتهم في الذل لك: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}. ولنا عبرة فيما يحصل بكبار السن في أوروبا مع وباء فيروس كورونا وما يتعرضون له من إهمال. وأيقني أختي أنك إن قدمت محبوب الله على محبوب نفسك ومارست بناء الإنسان بهذه الأهداف العظيمة وعلى أسس تربوية سليمة فإن الحملة سينقلب إلى متعة ورضا عن النفس واحترام للذات أكثر من أي متعة أخرى يمكن أن تحصليها.
ثمار التربية العظيمة
هل علمتِ يا كريمة ما معنى تربية؟ مشوار طويل يحتاج صبرًا فهو بناء الإنسان الذي يستحق الخلود في جوار الله بدل أن يكون وقود جهنم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}. ابنك وابنتك وقاية لك من النار: "من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن كن له سترًا من النار". ابنك وابنتك امتداد نافع لك بعد مماتك: "إنَّ الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول يا ربي من أين لي هذا؟ فيقول باستغفار ولدك لك". وهو وهي مع هذا كله قرة عين لك في الدنيا إن أحسنت تربيتهما.
مشوار ليس بالسهل، لكن ثماره عظيمة جدًا، قد تتعثرين أحيانًا، يثقل الحمل عليك أحيانًا، لكن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. الله معك يجبر نقصك ويعينك: "فسددوا وقاربوا وأبشروا". مقام عظيم بحيث لما سأل السائل: "يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك". {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. والسلام عليكم ورحمة الله.