→ عودة إلى سلسلة المرأة

الحلقة 14 - المدارس..تعليم أم تعليب؟

٨ يوليو ٢٠٢٠
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله أيها الكرام، لازلنا نسير في سلسلة المرأة وقد وصلنا محطة المرأة والتعليم.

دعونا نعود لتاريخ التعليم المدرسي الحديث والذي هو مقدمة للتعليم الجامعي. لكن لماذا الانتقال إلى موضوع آخر غير المرأة؟ ليس انتقالاً، بقدر ما هو تأسيس لنرى هل التعليم المعاصر يفي بحاجات الفتاة التي ستكون امرأة المستقبل؟ هل يعينها على أداء أدوارها وما خُلقت من أجله؟ هل هو نافع لها؟ يحقق لها الطمأنينة والسعادة وخير الدنيا والآخرة؟

الكلام اليوم عام في تعليم الولد والبنت والشاب والفتاة. سنستعرض ميزات التعلم والتعليم في الإسلام بدءاً من نزول الوحي لنبقيها في أذهاننا، ثم نستعرض على ضوئها نشأة التعليم المدرسي المعاصر المنتشر في العالم ومنه عالمنا الإسلامي. فإن من حقنا أن نعرف ما الذي جاء بنا إلى هذه الغرف الصفية التي نمضي فيها 12 إلى 14 سنة من عمرنا، المرحلة الأهم التي يتم فيها صياغة شخصياتنا.

ومن حقنا أن نتساءل: ماذا كان إسهام المدارس في وجود الطبيب الفاسد والمهندس الغاش والبائع السارق والمسؤول المختلس والفيزيائي المتشكك والبيولوجي الملحد والدكتورة النسوية وغيرهم؟

التعليم في الإسلام: رؤية ومنهج

أول آية أنزلها الله تعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم: "اقرأ باسم ربك الذي خلق". أيها الإنسان اقرأ وتعلم عن الكون والحياة وافهمهما باسم ربك، منطلقاً من الإيمان به رباً يربيك، خلقك من علق وهداك إلى تناقل العلوم وبناء المعرفة بالقلم، وبما أعطاك من فطرة وعقل قادر على التعرف على الحقائق، لأنه من صنع إله مطلق الكمال، ليس عقلاً جاء صدفة خط عشواء، بل عقل مهيئ من الخالق الأكرم الذي يريد للإنسان أن يتعلم ما لم يعلم.

اقرأ لتنتفع بعلمك وتنفع الناس، ولتستدل بعلمك على عظمة الله فتشكره وتحقق ما خُلقت من أجله من العبودية له بمفهومها الشامل فتسعد في الدنيا والآخرة. رؤية كونية تجعل الإنسان منسجماً روحاً ونفساً، عاطفةً وعقلاً، فتنخرط قواه كلها في تحقيق الهدف الأسمى. رؤية تنطلق من توحيد الله، فتخرج لنا نفساً موحدةً لخالقها، موحدةً في نظرتها، لا نفساً مشتتةً مفككة.

انطلق المسلمون بهذه الرؤية، وأنتجوا في العلوم بأشكالها نتاجاً ضخماً. وقد ذكرنا في رحلة اليقين بعض المصادر الدالة على الأصول الإسلامية لكثير من العلوم والاختراعات، بل والمنهج التجريبي برمته، الأمر الذي يعترف به منصفون غربيون.

عوامل حصانة التعليم الإسلامي

النظام التعليمي في الإسلام فيه عوامل حصانة ومناعة ضد الإصابة بالفساد:

  1. التعليم تعبدي: أولاً أن التعليم تعبدي، سواء كان في علوم الشريعة أو علوم الطبيعة، وبالتالي فثقافة "اقرأ باسم ربك" كانت مبثوثة في المجتمع على مستوى الأسرة، من المؤدبين في الكتاتيب، في المساجد، في حلق العلم، في المدارس التي نشأت في العصور الإسلامية.
  2. المسؤولية المشتركة: وهذا يقودنا إلى العامل الثاني للحصانة، ألا وهو المسؤولية المشتركة. الكل يشارك في تحمل مسؤولية التعليم ولا يلقون بها على كاهل الدولة. كذلك تحمل المسؤولية يعطي مناعة من انتشار الفساد حتى لو أصيبت مؤسسة الحكم بالفساد، لأن مكونات المجتمع توطدت على "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". فسيسعى كل راع تقي إلى تخفيف الأضرار على من يراهم إذا فسد رأس الهرم، وسيبقى الأبوان والمربون يمارسون التعليم عبودية لله، وهذا يحافظ على سلامة جذور المجتمع المسلم حتى وإن أصاب الفساد الفروع، فتنبت الجذور فروعاً سليمة من جديد.
  3. صحة المرجعية وثباتها: ثالثاً صحة المرجعية وثباتها. "اقرأ باسم ربك"، الوحي هو المرجعية. فالقيم والمعايير الضابطة للعلم ثابتة لا تتغير انطلاقاً من الوحي. توفر الدولة البيئة اللازمة لبث العلم الصحيح، تصدر المؤهلين، تحمي الناس من المتلاعبين والعابثين الناشرين للجهل والضلال، لأن حفظ العقل من ضرورات الشريعة الخمسة. الدولة تضع الأطر ثم بعد ذلك هناك مرونة منضبطة بالوحي. في المقابل الناس يحاسبون الحاكم بناء على الوحي أيضاً. هناك مرجعية، مرجعية الوحي لا يستطيع الحاكم المساس بها ولا تغييرها، بل هو مكلف بالقيام على مصالح الناس بحسب هذه المرجعية، وإذا خالفها وأمر بتعليم ما يخالف مصلحة الناس فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، بل يؤخذ على يده ويحمل على الالتزام بالوحي، فسلطته ليست مطلقة، بل "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول".
  4. مراكز الثقل المالي في المجتمع: رابعاً مراكز الثقل المالي في الوضع الإسلامي الصحيح موجودة في المجتمع، ليست منهوبة ولا متحكماً بها من زمرة حاكمة، ولا من طبقات رأسمالية. فالإسلام يحارب تركز المال في يد فئة "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم". في هذه الأجواء الحرة كان للأوقاف الإسلامية دور كبير عظيم في التعلم. يخصص مسلم يمتلك المال جزءاً من ماله ويبقيه أوقافاً جارية بعد وفاته على تفريغ أشخاص لطلب العلم. وهذا كان من عوامل محافظة المحاضن الشعبية على قوتها ودورها في تخريج العلماء في شتى المجالات حتى في فترات انحدار مؤسسة الحكم. الأزهر مثلاً قبل أن يفسده الاستعمار البريطاني كان ينفق عليه من الأوقاف. توزيع المال في الناس يمنع من أن يسخر التعلم لمصلحة طغمة من أصحاب رأس المال، بل يكون المعنى التعبدي في التعلم هو الحاضر وبقوة، هدفه أن تحقق الأمة العبودية لله بمعناها الشامل كما بينا.
  5. مخرجات التعليم: وهذا يأخذنا إلى الميزة الخامسة في منظومة التعلم الإسلامية. أن مخرجات التعليم لا تقاس بتأهيل أفراد لخدمة أصحاب رأس المال والشركات العالمية في عبودية مقنعة، بل تقاس بتحقيق أهداف الوحي، صلاح دنيا الناس وآخرتهم وصلاح نفوسهم وأرواحهم وأخلاقهم. فيكون للفقيه قيمته وللأم المربية قيمتها، مع أن هؤلاء لا قيمة لهم في المنظومة الرأسمالية لأنهم لا يخدمون المنظومة المادية. كل هذا يهيئ الأجواء لكون السلطان بأيدي المسلمين ووجود أهل الحل والعقد من المسلمين، ولظهور أجيال من الأحرار الذين تلقوا تعليمهم من مراكز الثقل المجتمعية التربوية وأمانهم الاقتصادي مرتبط بمراكز الثقل المجتمعية الاقتصادية، فمقياسهم في قبول أو رفض ما يطلب منهم هل هو حق أم باطل؟ فحسب، إذ لم يعلموا العبودية لغير الله ولا يهددون في أرزاقهم.

إذن تعليم باسم الله وهو تعبد يمارسه الجميع ويتحملون مسؤوليته. الوحي فيه مصدر الحقائق الكبرى والمحرك والاستكشاف العلوم ومرجعية ثابتة لا تتغير. تعليم تنسجم فيه مكونات الإنسان والهدف منه تحقيق الاستخلاف والعبودية لله بمعناها الشامل، مرتبط باقتصاد عادل لا تحتكره فئة، وفيه عوامل مناعة من أن ينحرف ومن أن يملى فيه على الأجيال أهواء طغمة من البشر.

نشأة التعليم المدرسي المعاصر في أوروبا

طيب ما الذي كان يحدث في أوروبا في تلك الفترة؟ يهمنا أن نعرف لأن شكلاً آخر تماماً من التعليم كان يتشكل هناك في تلك الفترة. ثم لما ضعف تمسكنا بالوحي واحتل الأوروبيون بلادنا استطاعوا أن يفككوا منظومة التعليم التي شرحناها، يقضوا على عوامل قوتها وحصانتها ويحلوا محلها منظومتهم، لكن مع تشويه ممنهج يضمن تبعيتنا لهم وتخلفنا عن ركبهم.

كانت أوروبا تعيش بداية النظام الإقطاعي الطبقي: أسياد وعمال. والتعليم حكر على الطبقة الأرستقراطية، وإذا علم العمال شيئاً فإنما يعلمون بالقدر اللازم لزيادة الإنتاجية للأسياد.

ثم جاء عصر النهضة والذي بدأ في إيطاليا ما بين 1400 و 1600 للميلاد، حصلت فيه ثورة على السلطات القديمة وتشكلت دول فيها مواطنون لا أسياد وعمال. تنفس الناس الصعداء قليلاً قبل أن تظهر شيئاً فشيئاً طبقية ثانية هي طبقية الرأسمالية.

بعد اقتصار التعليم على طبقة خاصة، ظهر أن الحل الأمثل الممكن اقتصادياً لتعليم الشعوب الأوروبية مجانياً هو إنشاء المدارس النظامية. والهدف منها ترسيخ عقيدة الدولة في الأجيال وزيادة القدرة الإنتاجية للقوى العاملة ليقووا الدولة ويشغلوا المصانع ويسيطروا على الدول التي يحتلونها وينهبون خيراتها.

وفي سبيل ذلك تم إنشاء ما يسمى بالمدارس المصنعية التي تنتج إنساناً منصاعاً مقولباً ليعمل في المصنع. ظهرت أولى هذه المدارس في مملكة بروسيا في ألمانيا عام 1717، وبإمكانك القراءة عن هذا النموذج من المدارس تحت عنوان "The Prussian Education System".

ثم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت الثورة الصناعية الأولى وخرجت المرأة من بيتها ووزع على النساء حبوب منع الحمل لتفريغهن لوقت أطول للعمل في المصانع.

وفي عام 1807 صدر القرار بإلزام المدارس في بروسيا بالخضوع لوزارة الداخلية ليدرس فيها ما يريده النظام.

فلسفة التعليم القولبي: فيشته وماكولي وهاريس

يقول الفيلسوف الألماني يوهان جوتليب فيشته في كتاب "الطابع العام للتعليم الحديث": "على المدارس أن تقولب الشخص، تقولبه بحيث لا يرى سوى ما تريده أنت". وذلك لأن ألمانيا كانت في صراعات مع فرنسا خسرت فيها الكثير. فيشته اعتبر أن الخطأ الأكبر المتسبب في ضعف التنشئة للألمانيين هو الإرادة الحرة للتلاميذ، لأن الشخص يبقى فيها متردداً بين الخير والشر، فعلى العكس يجب أن تكون التنشئة الجيدة على أساس إعدام الإرادة الحرة، فالهدف الذي يجب أن يقولب من أجله الطلاب هو تقوية الدولة.

توماس بابنجتون ماكولي ولد عام 1800 وتوفي عام 1859. وسبب إنشائها أن أمه ماتت تزوج أبوه فعاش مهملاً من كليهما، من أبيه وزوجة أبيه في طفولة بائسة. في هذه الفترة، في عام 1835، وبينما كانت بريطانيا تحتل الهند التي كانت قبلها تحت حكم المسلمين، وجه المؤرخ والسياسي البريطاني تقريراً للحاكم البريطاني في الهند بعنوان "تقرير عن التعليم في الهند". وكان مما جاء فيه: "يجب علينا في الوقت الحاضر أن نبذل قصارى جهودنا لإيجاد فئة تشكل جسراً بيننا وبين ملايين الناس الذين تحت حكمنا، فئة من الهنود الذين ما زالوا هنوداً بلونهم ودمائهم لكنهم إنجليز في أخلاقهم وآرائهم وملكاتهم الفكرية وأذواقهم. وقد نترك لهذه الفئة مهمة تنقيح اللهجات العامية للبلاد بحيث يتم إثراء هذه اللهجات بمصطلحات علمية مستعارة من التسميات الغربية فتصبح هذه الفئة بدرجاتها المختلفة ناقلات مناسبة تقوم بنشر المعارف بين الكتلة الأكبر من السكان".

إذن فهذا هدف إنشاء المدارس في المستعمرات: الإبقاء على احتلال البلاد ثقافياً حتى بعد انجلاء المحتل عسكرياً. أبقِ هذا الوصف الدقيق الذي نطق به توماس ماكولي لتستحضره عند حديثنا عن المدارس الدولية حالياً في بلاد المسلمين.

أثناء هذه التطورات كلها تم نقل كثير من العلوم من المسلمين إلى أوروبا لكن مبتورة عن أصولها العقدية، مقطوعة عن جذور "اقرأ باسم ربك". وأصبح الشعار "اقرأ باسم الدولة وقوتها" والذي أصبح في واقع الأمر قراءة باسم الإنسان وشهواته وطغيانه.

عام 1843 انتقلت فكرة المدرسة المصنعية من بروسيا إلى أمريكا وأوروبا. ثم ما بين عامي 1852 و 1917 تم إقرار التعليم الإلزامي والمدرسة الحكومية في الولايات الأمريكية، أولها ماساتشوستس وآخرها ميسيسيبي.

عام 1892 في أمريكا أقر عشرة أشخاص فيما يعرف بـ "الكوميتي أوف تن" جعل التعليم المدرسي بشكله المعروف حتى الآن اثني عشرة سنة، متضمنة لمنهج اليونان معدلاً مع اللغة الإنجليزية الحديثة والعلوم والتاريخ. وبقي نظام الاثني عشر عاماً إلى يومنا هذا في عامة دول العالم.

ولنا أن نسأل: عندما استنسخ هذا النظام الذي وضعه هؤلاء العشرة إلى دول العالم الإسلامي اليوم، هل تم طرح التساؤل من هؤلاء وما مرجعياتهم؟ ولماذا نعتمد نحن ما اعتمدوه؟ ما الأهداف التي كانوا يسعون لتحقيقها حين أقروا هذا النظام التعليمي؟

في الإجابة عن هذه التساؤلات عدنا إلى سيرة أحد أهم هؤلاء العشرة وهو ويليام توري هاريس، مفوض الولايات المتحدة الأمريكية للتعليم، والذي قدم لرسالة بعنوان "تعليم الهنود" يعني الهنود الحمر الذين كانوا يعيشون في أمريكا. وقرأنا الوثيقة الأصلية للرسالة كخلفية تاريخية. الأراضي الأمريكية كان سكانها الأصليون من الهنود الحمر، غزاها الأوروبيون وقاموا بحملات إبادة ضد السكان الأصليين قتل فيها الملايين من الهنود الحمر في تاريخ أليم تكلمنا عنه في كلمة "نماذج السعادة البشرية". بعدما استتب الأمر نسبياً للأوروبيين بقيت تقع مناوشات بينهم وبين من تبقى من قبائل السكان الأصليين من الهنود الحمر.

في هذه الرسالة كان مفوض التعليم هاريس ورجل الحرب الجنرال توماس مورغان يقدمان حلاً لتذويب أبناء الهنود الحمر حضارياً في الحضارة الأمريكية الجديدة بحيث لا يعودون يشكلون خطراً على الغزاة الذين هم الآن السكان الشرعيون لأمريكا. الحل الأمثل الذي اقترحه الكاتبان هو فرض نظام جذري للتعليم وذلك بعزل أطفال الهنود الحمر منذ سن مبكرة قدر الإمكان عن محيطهم القبلي وإخضاعهم جماعياً للتعليم الإجباري.

ويقول هاريس أن سنة أو سنتين أو ثلاثة لا توفر على الأمريكيين بالقدر الكافي مصاريف الصراع مع الهنود مثل خمس أو عشر سنوات من التعليم المدرسي، لأن مدة التعليم القصيرة لا تؤثر كثيراً على الحياة القبلية للهنود ولا تحولهم إلى مجتمع منتج صناعياً، مما يضطر الدولة لحماية نفسها من خطر الهنود بإنفاق مصاريف باهضة باستمرار لدعم القوة العسكرية اللازمة لمواجهتهم، أو أن تضطر الدولة لخيار سياسة الإبادة القاسية. فيقترح هاريس التعامل مع الهنود بروح تبشيرية تنصيرية وفرض تعليم إجباري عليهم وإبعادهم عن أهلهم لمدة تصل إلى عشر سنوات كشكل من الانخراط الحضاري.

هذا هو ويليام هاريس أحد أهم العشرة الذين وضعوا النظام التعليمي المعمول به عالمياً حتى الآن. إدخال الأطفال في المدارس مبكراً وإبقاؤهم فيها لمدد مطولة من أهم أهدافه إضعاف القوى القبلية وإضعاف تأثير آبائهم عليهم وإملاء سياسة الدولة عليهم.

أقر هاريس بوجود قولبة للناس عبر نظام التعليم المدرسي، حيث قال في كتابه "فلسفة التعليم": "إن تسعة وتسعين بالمئة من الناس في كل أمة متحضرة هم كائنات آلية، أوتوماتاً حريصون على السير في المسارات المحددة، وحريصون على اتباع العادات المملات عليهم، وهذا ليس صدفة، بل نتيجة للنظام التعليمي المكثف والذي إن أردنا تعريفه بشكل علمي هو عبارة عن تقييد الفرد وتذويبه ونزع فردانيته". ثم ذكر مقترحات لعلاج هذه القولبة.

قد يقول قائل: يا أخي وما شأننا وهاريس وفيشته؟ هذا الكلام زمان، الآن الغرب يعلي من قيمة حرية التفكير، هذه القولبة ونزع حرية الإرادة كانت زمان. ما قولك إذن في القولبة وغسل الأدمغة الذي يتعرض له الطلاب في العالم اليوم فيما يتعلق بملف الشذوذ الجنسي مثلاً؟ بعدما تم نزع الإرادة وغسل الأدمغة من قبل بتحويل الزنا إلى حرية شخصية. إذا أصبح مبرراً أن تنتزع إرادة الطلاب، كما يريد فيشته، ويتم إدماجهم حضارياً، وإملاء القيم عليهم، كما يريد هاريس، وكل هذا تحت عنوان تقوية الدولة، ولم تكن هناك مرجعية ثابتة صحيحة من الوحي تحكم القيم، فإن القيم ستتغير من زمن لآخر. فتقبل الشذوذ مثلاً هو الآن قيمة حضارية يجب قولبة الطلاب وغسل أدمغتهم لأجلها بعدما كان الشذوذ مرفوضاً رفضاً قاطعاً.

قارن هذا بالوضع الإسلامي الصحيح الذي يكون فيه الوحي هو المرجع والمسطرة التي لا تتغير ولا تتبدل مع مرور الزمن، والذي يكون فيه "اقرأ باسم ربك" شعار الجميع في مجتمع محصن من أن يملى على أطفاله أهواء أو آراء طغمة من البشر.

حتى عام 1954 لم يكن مسموحاً للأطفال السود في أمريكا أن يدرسوا في نفس الفصول مع الأطفال البيض. ثم قررت المحكمة العليا دمجهم مع البيض فثارت ثائرة الكثيرين وخرجوا في مظاهرات رافعين يافطات "أوقفوا دمج الأجناس، دمج الأجناس شيوعية". الطفلة روبي بريجز كانت إذا دخلت الصف يعترض الآباء ويخرجون أبناءهم البيض منه لتبقى وحدها، وروبي لا زالت على قيد الحياة. فتصوروا أننا نقلد هذه المنظومة، ونأخذ منها النظام التعليمي دون كثير غربلة، وهي التي بقيت لعهد قريب تتخبط بشكل صارخ في التمييز على أساس لون البشرة، مع أننا أمة "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، التي يقول فيها أمير المؤمنين القرشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا" يعني بلالاً الحبشي الأسود، كما روى البخاري.

انتقادات للنظام التعليمي المعاصر من الغرب

قد يقول قائل: أنت تذكر سلبيات هذا النظام التعليمي ولا تذكر إيجابياته وهذا انحياز. فنقول: هدفنا هنا يا كرام ليس العرض التاريخي الأكاديمي الذي يذكر كافة تفاصيل الموضوع، بل هدفنا التركيز على النقاط التي يفترق فيها هذا النظام التعليمي بشكل كبير عن مفهوم التعليم والتعلم في الإسلام والثمار المشؤومة التي يعانيها العالم من ذلك.

لسنا وحدنا من ينقد هذه المنظومة ونتاجها، بل تتعالى أصوات منهم هم أنفسهم بذلك.

تقرير "أمة في خطر"

عام 1983 وجهت اللجنة الوطنية للتميز التعليمي في أمريكا تقريراً للأمة الأمريكية ولوزارة التعليم بعنوان "أمة في خطر: حتمية إصلاح التعليم". وكان مما قاله جيمس هارفي كاتب التقرير: "إن الأسس التربوية لمجتمعنا تتآكل في الوقت الحاضر بسبب المد المتصاعد للرداءة التي تهدد مستقبلنا كدولة وشعب. فلو حاولت قوة أجنبية وعدوة فرض هذا الأداء التعليمي الرديء والفاشل الذي نراه اليوم على أمريكا لكنّا اعتبرنا هذا التصرف بمثابة عدوان حربي علينا".

طيب هل تم بالفعل إصلاح النظام التعليمي بعدها؟ لعل الجواب في كتاب جون جاتو الذي نشره بعد ثماني سنوات عام 1991.

جون جاتو وكتاب "تخويفنا أو إخراسنا"

جون جاتو كان قد عمل طويلاً في التدريس ونشر كتابه "Dumbing Us Down" يعني "تخويفنا أو إخراسنا: المنهج المخفي للتعليم الإجباري". ينتقد فيه المنهاج الأكاديمي في المدارس الأمريكية وانتشر الكتاب بشكل كبير وأصدرت منه نسخة ثانية عام 2002. وأود أن أترجم لكم مقتطفات مما جاء في هذا الكتاب لتدركوا حجم الأزمة.

يقول جاتو: "إن المدارس والتعليم المدرسي هي بشكل متزايد غير خادمة للمشاريع العظيمة على هذا الكوكب" يعني الأرض. "لم يعد أحد يصدق أن علماء الطبيعة يحصلون على التأهيل اللازم في حصة العلوم. ولا السياسيون في حصة التربية الوطنية. ولا الشعراء في حصة اللغات الإنجليزية". يعني أن الناس الناجحين في تلك الدول لم تكن المدارس هي سبب نجاحهم.

يقول جون جاتو: "إن الحقيقة هي أن المدارس لا تدرس أي شيء إلا كيف تطيع الأوامر". يعني الـ "Shaping" القولبة التي تكلمنا عنها. يتابع: "إن المؤسسة المدرسية سيكوباتية معتلة نفسياً، ليس لديها وعي وإدراك، يرن الجرس فيكون على الولد أن يقطع كتابة قصيدة شعرية ويغلق دفتره لينتقل إلى خلية أخرى، حيث عليه أن يحفظ أن الإنسان والقرد ينحدران من سلف مشترك". أي أن الطالب يتعلم معلومات متناقضة، فيرى بنفسه في حصة الآداب أو اللغة قدراته البشرية التي تميزه عن الحيوانات، ثم في حصة العلوم عليه أن يحفظ أنه أخ لهذه الحيوانات لأب مشترك. طبعاً لأنه ليس هناك رؤية موحدة منطلقة من الوحي الصادق، بل تفكيك لمكونات الإنسان ووعيه. هذا الفصام بين المواد هو الطابع الموجود الآن في عامة المناهج المدرسية عبر العالم. خاصة المناهج التي تدغدغ عاطفة الناس بمواد دينية، وفي الوقت ذاته تملي على الطلاب ما تريده الدولة أو ما يمليه العلم الزائف عن الكون والحياة.

يقول جون جاتو أيضاً في كتابه: "لن يحصل إصلاح على مستوى واسع لطلابنا المدمرين ولا لمجتمعنا المدمر إلا بتوسيعنا لمفهوم المدرسة ليشمل الأسرة كمحرك أساس للتعليم"، وهو ما تحدثنا عنه من تولي كل راع مسؤوليته في التعليم. ويقول عن التعليم بشكل عام: "يجب أن يجعلك غنياً روحياً، يجب أن يعلمك أمرين مهمين: كيف تعيش وكيف تموت"، وهو ما لا تعلمه المنظومة التعليمية التي تعنى بالمادة أكثر من الإنسان.

حتى من ناحية مادية إنتاجية، هل يعتبر هذا النظام التعليمي ناجحاً؟ بل لا زالت الأصوات تتعالى بقصوره حتى من هذه الناحية.

السير كين روبينسون وقتل الإبداع

عام 2006 المستشار الدولي السير كين روبينسون والذي منح لقب فارس لخدماته في التعليم، ألقى محاضرة على TED هي الأكثر مشاهدة في تاريخ البرنامج، حوالي 66 مليون مشاهدة حتى الآن، بعنوان "هل المدارس تقتل الإبداع؟". انتقد فيها النظام التعليمي للمدارس من حيث أنه يوجد رهبة من الخطأ مما يقتل في الطلاب الإقدام والقدرة على الإبداع، وأنه لا يراعي حاجة الأطفال للحركة واللعب، ومن حيث الجمود في التسلسل الهرمي للمواد فلا يستكشف المواهب بل يدفنها. ويقول روبينسون: "إن التعليم مثل أداة التنقيب التي تبحث وتنقب عن أشياء محددة فقط من منجم العقل وما دون ذلك فقد يوصم الطالب بأنه مريض".

عام 2013، في محاضرة أخرى له بعنوان "كيف نجتاز وادي الموت التعليمي؟". سيقول قائل: كيف يصف هؤلاء النظام التدريسي بقتل المواهب ونحن نشهد هذا التقدم الهائل في المخترعات والاكتشافات؟ فنقول لكم: القدرات التي منحها الله للإنسان هائلة، ومكتشفات اليوم هي نتيجة تراكم معرفي لقرون كثيرة كان للمسلمين فيها باع كبير كما ذكرنا. فالتقدم في الاكتشافات لا يعني أن النظام التعليمي في المدارس ناجح.

بل في كتاب "دعائم التميز" والمنشور عام 1962 تم استعراض طفولة أكثر من 400 شخصية مؤثرة في القرن العشرين، ووجد أن ثلاثة من كل خمسة منهم، يعني 60%، كانوا غير راضين عن المدارس ولا عن المعلمين المدرسيين. وللعلم، توماس أديسون كان مدرسوه قد وصفوه بأنه غير كفء للتعليم المدرسي، لم يكمل تعليمه المدرسي وتوقف عند المرحلة الابتدائية، ثم أصبح هذا المكتشف أحد أكبر المكتشفين في العصر الحديث، ولديه ألف وثلاثة وتسعون براءة اختراع أمريكية تحمل اسمه. ألبرت أينشتاين كان أستاذ اللغة الإغريقية قد أخبره أنه لن يفلح في شيء، وأنه يضيع وقت الجميع وعليه أن يغادر المدرسة مباشرة. والله أعلم كم من الأذكياء والموهوبين شرقاً وغرباً دفنت مواهبهم لعدم قدرة النظام التعليمي على اكتشافهم وتنمية مواهبهم.

بدائل معاصرة وإشكالياتها

هناك محاولات للخروج عن هذا النمط المدرسي المعروف مثل مدارس والدورف التي تتجنب استخدام التكنولوجيا وترفع شعار التركيز على تنمية المواهب، وعدد من موظفي ما يعرف بالسيليكون فالي في أمريكا يضعون أبناءهم فيها. مؤسس فكرة هذه المدارس هو رودلف ستاينر المتأثر بالفلسفة الشرقية، لذلك لا تستغرب عندما ترى أن البرنامج الذي يوزع على أولياء أمور الأطفال في الحضانات يتضمن في الـ "سناك تايم" أغنية يشكر الطلاب فيها الشمس. يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله. فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته. وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم له منفعة بها، ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة.

يعني قد يستغرب المسلم لماذا يأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين وعدم تقليدهم، تقليدهم في المناهج الثقافية مثلاً، لا نتكلم عن الاستفادة من المكتشفات، لكن تقليدهم في المناهج التي لها علاقة بالتصور عن الكون والحياة، تقليدهم في هذا متضمن لفساد قد تلاحظه وقد لا تلاحظه، فإن أعمالهم إما فاسدة وإما ناقصة. والجدير بالمسلمين أن يسوغوا هم طريقتهم في التعليم انطلاقاً من مرجعية الوحي.

من المحاولات للخروج عن النمط التدريسي الشائع محاولات الأمريكي بنغالي الأصل سلمان خان، الحاصل على شهادات متنوعة وصاحب أسلوب مبسط في الشرح، والذي انتقد النظام التعليم في كلمة له على TED وكذلك في مقابلة له بعنوان "تاريخ التعليم" وبعض معلومات حلقتنا مذكورة في مقابلته هذه. أسس سلمان خان منصة تعليمية مجانية عالمية تدرس الكثير من العلوم بما يفيده ذلك من مراعاة للفروقات الفردية في الاستيعاب، فتتيح للطالب أن يشاهد الموضوع الذي يريد دراسته ويعيد الموضع الذي لم يفهمه بأسلوب شرح مبسط.

لكن ما إن اشتهرت هذه المنصة حتى احتواها حيتان الرأسمالية مثل جوجل وبيل جيتس بمنح بملايين الدولارات، ومع المنح المالية تأتي الأجندات الفكرية والأخلاقية كالعادة. العام الماضي في العيد الخمسين للشواذ والذي احتفلت به جوجل ومايكروسوفت، عزفت خان أكاديمي على أنغامهم بتغريدات على انستجرام ترمز لشخصيات شاذة جنسياً، ورصدت كيف تقوم المنصة بالزج بهذه الأجندة في دروس الأطفال، شكل من أشكال غسل أدمغة الأطفال وإملاء ما يريده حيتان الرأسمالية. وعادت الأكاديمية فاحتفلت هذه السنة أيضاً بيوم الشواذ بتغيير شعارها على تويتر إلى ألوان علم الشواذ أثناء يومهم.

فما دام التغيير إنما هو في الأسلوب والشكل وليس في الدوافع والغايات والمرجعية فلن يحصل الإصلاح المنشود. وما دام كثير من الدول ليس همها الأكبر تعليم الطلاب ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وإنما القولبة وتكريس ما يراد للأطفال أن يقتنعوا به وتعليم الانصياع كما بين أيمن عبد الرحيم في محاضرته "مجتمع بلا مدارس"، فلن يحصل التغيير المنشود.

ظهرت أيضاً البرامج الدولية مثل "IB" و "IGCSE" لكن تبقى هناك عناصر مشتركة بين هذه الأشكال جميعاً، كل أشكال التعليم التي ذكرناها اليوم:

  • انقطاع العلم عن مرجعية الوحي.
  • قطع دلالة العلم على الخالق والإيمان به.
  • غياب المعنى التعبدي في طلب العلم.
  • القولبة وترسيخ الاعتقادات المراد للطلاب أن يعتقدوها بمرجعيات متغيرة يمليها أصحاب القوة أو رأس المال.
  • القابلية لتغيير القيم بشكل مستمر.
  • قياس مخرجات التعليم بالعلامة والتأهل لسوق العمل وليس ببناء الإنسان المتكامل المؤهل لتحقيق العبودية لله بمفهومها الشامل.
  • وفي كثير من المناهج انفصال المواد بعضها عن بعض وتعارضها فيما بينها بحيث يدرس الطلاب في حصة الأحياء ما يصادم الذي يتعلمونه في حصة الدين عن نشأة الكون والحياة مثلاً.

الختام

طيب ما البديل؟ ما التعليم الذي نريد؟ ما أركانه وما هو مكان المرأة من هذا كله متأثرة أو مؤثرة؟ هذا ما سنجيب عنه في الحلقة القادمة بإذن الله.

يجدر الذكر بأني حصلت على كثير من معلومات هذه الحلقة من مادة قام بتجميعها أخي الدكتور عبد الرحمن ذاكر، الطبيب والمعالج النفسي والتربوي المهتم بملف النفس والتعليم. وكذلك استفدت في إعدادها من مناقشة مع أخي الأستاذ أنس شيخ كريم المختص في الشريعة وعلم النفس التربوي، ومن جهود بعض الإخوة والأخوات الذين ساعدوني في التحري واستخراج المعلومات لحلقة اليوم فجزاهم الله خيراً جميعاً.

والسلام عليكم ورحمة الله.