→ عودة إلى مرئيات

سوء الظن بالناس-أربع قواعد في العلاج

٢٩ أكتوبر ٢٠١٤
النص الكامل للمقطع

سوء الظن بالناس - أربع قواعد في العلاج

السلام عليكم. سوء الظن، ذلك المرض الذي استشرى في الأمة فأفسد العلاقات وفتح أبواب الشر. كم حصل سوء الظن بين النساء في العوائل: "فلانة لا تحترمني"، "قصدت بابتسامتها الاستهزاء"، "لم تهنئني بنجاح أخي لأنها تحسدنا". وهكذا يستجيب النساء لنزغات الشيطان، ولا مصارحة بود، ولا تطيب خواطر، ولا تقدير ظروف، ولا التماس أعذار. وينتهي الأمر بفساد العلاقات بين الرجال وتقطيع الأرحام ووقوع الطلاق وتشتت الأولاد من أمور الأمة العظام.

كم حصل سوء ظن في ساحات الجهاد، فشغل المسلمين بقتال بعضهم عن أعدائهم، وضاعت آمال النصر، ودفع المستضعفون الثمن، وتمكن الأعداء مع وجود عوامل أخرى ساهمت في الانتكاسات ولا شك. لذا إخوتي، سنقف وقفات مع آية عظيمة نستنبط منها قواعد في علاج هذه الظاهرة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.

الوقفة الأولى: منع سوء الظن من الوقوع ابتداءً

عليك أن تمنع سوء الظن من أن يقع في نفسك ابتداءً، لا أن تدعه يقع ثم تحاول دفعه وعلاجه. {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}. مسلم ظاهره الخير، سمعت من يتهمه بسوء دون دليل، ماذا يجب أن تكون ردة فعلك المباشرة؟ علمنا ربنا فقال: {لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}. وأكدها سبحانه بعدها بآيات فقال: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

وبهذا تخرس الألسنة الثرثارة، وتخفي بضاعة سوئها، وتحسم أنت الفتنة من أساسها. ليس رد الفعل المناسب أن تذهب لأخيك المذكور بسوء فتقول له: "يقال عنك كذا، ما ردك؟ ما جوابك؟". هذه نقطة مهمة إخواني، فنحن نعلم أن نشر الإشاعات عن المسلمين حرام، لكن بعضنا يظن أن الصواب هو في مواجهة المسلم بما يقال عنه للتأكد، وليس هذا صواباً دوماً.

فكل ذي نعمة محسود، ومن كثر خيره كثر أعداؤه. فإذا طلبنا من الخيرين أن يردوا على ما ينسب إليهم، فسوف تستنفد جهودهم في الرد على هذا وإنكار ما قاله ذلك، وتتعكر قلوبهم، وينشغلون عما هم فيه من خير ونفع للناس. نتبين دون أن ننشر الإشاعات، ودون أن يدفعنا الشك إلى تحقير الناس وغيبتهم والاستهانة بحقوقهم.

الوقفة الثانية: سوء الظن بلا دليل عمل قلبي محرم

نهانا الله عز وجل في هذه الآية عن مجرد الظن حتى وإن لم يؤدِ إلى عمل. {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ}، ما قال: "اجتنبوا العمل المترتب على سوء الظن". فسوء الظن بلا دليل عمل قلبي هو بحد ذاته حرام، كأعمال قلبية أخرى مثل كره الإسلام أو حب أعداء الدين.

قال الغزالي رحمه الله: "اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك".

الوقفة الثالثة: سوء الظن مفتاح الشرور

نستشعر من الآية أن سوء الظن هو مفتاح الشرور، فبعد أن نهى الله عنه قال: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}. فالإنسان إذا أساء الظن بأخيه فإنه يتجسس عليه ليتأكد من ظنه، ويستهين بحرمته فيغتابه. كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً".

كل هذه الأمور التي نهى عنها نبينا صلى الله عليه وسلم ناشئة أصلاً عن سوء الظن الذي يؤدي إلى تنقيبك عن سيئات أخيك فيثير ضغائنه إذا اكتشف ذلك، ويقع التباغض، ويتهدم بناء المجتمع الإسلامي ويضعف أمام أعدائه.

سوء الظن بأخيك المسلم يجعلك تحتقره، والاحتقار باب إلى استباحة الدم والمال. انظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، ماذا قال بعدها؟ "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".

الوقفة الرابعة: الأخذ بالظاهر وحسن الظن

وهي قاعدة مهمة جداً: أخذ الناس بالظاهر قد يؤدي إلى إفلات كثيرين فعلوا محرمات من العقوبة، لكننا مع ذلك مأمورون به، وفوائده أكثر من مضاره على مستوى المجتمع. الهاجس الذي يدفع كثيرين إلى سوء الظن وتخوين الآخرين احتياطاً هو خوفهم من أن يفلت فاعل الحرام من العقوبة وأن يفسدوا في المجتمع.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} لماذا؟ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. لاحظ أنه تعالى أمر باجتناب الكثير من أجل البعض، وعلى هذا المفهوم شواهد كثيرة منها:

1. النهي عن تتبع العثرات

أولاً: الحديث الذي رواه مسلم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يلتمس عثراتهم". العائد من سفر قد يخطر بباله أن يتأكد من عدم خيانة زوجته له، فلا يخبرها بموعد عودته ليباغتها ليلاً ويتأكد هل خانته أم لا، أو يتأكد هل أدخلت إلى بيته من يكره من محارمها أو أهملت في العناية بأولادها، أي يلتمس عثراتها. هذا كله مع أنه لم يظهر له من زوجته ما يريب، لكنه يريد فعل ذلك احتياطاً. لا يجوز له أن يفعل ذلك إخواني. أليس من المحتمل ولو بنسبة ضئيلة أن زوجته تخونه؟ بلى. ومع ذلك فالحفاظ على شعور الزوجات وإظهار حسن الظن بهن والثقة في أخلاقهن يجب أن يشاع في المجتمع لترتفع سويتهن بالفعل، ولو أدى ذلك إلى عدم انكشاف خيانة نسبة ضئيلة منهن، فمنافعه أكثر من مضاره.

2. الأخذ بظاهر النطق بالشهادة

ثانياً: في حديث البخاري عندما همّ أسامة بن زيد رضي الله عنه بقتل المشرك المقاتل، فقال المشرك: "لا إله إلا الله". لكن أسامة قتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة: "يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟". قال أسامة: "يا رسول الله إنما كان متعوذاً"، يعني قالها حتى لا أقتله لا عن قناعة بها. فلا زال النبي صلى الله عليه وسلم يكرر: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟". هذا الرجل كان مشركاً يقاتل المسلمين ويغلب على الظن بالفعل أنه قالها متعوذاً. ولو لم يقتله أسامة فلعله يندس في المجتمع المسلم يفسد فيه. ومع هذا كله، فالأخذ ومن نطق الشهادة مثله على ظواهرهم أعظم نفعاً للمجتمع المسلم وللبشرية. فكيف بأخيك المسلم الذي يصلي ويصوم سنوات طويلة؟

3. تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين

الشاهد الثالث: كان المنافقون يتكلمون بسوء عن رسول الله وأصحابه، ثم يخافون أن يبلغ ذلك النبي، فيقول أحدهم: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}. أي إنما يذم من يقبل من الناس إذا كان قبوله يؤدي إلى تصديقهم في شهادتهم الباطلة على إنسان فيقع من المصدق ظلم على هذا الإنسان. أما النبي فقد ألزم نفسه بالخير فيسمع عنكم ما يسوء فيتجاوز، وتأتونه تظهرون خيراً فيقبل منكم الظاهر. وإنما يفعل ذلك لأنه يؤمن بالله الذي أمره بهذا لا عن تصديق لكم، وإنما تصديقه واطمئنانه للمؤمنين، فهو يؤمن للمؤمنين. ومنكم أيها المنافقون من سيؤمن بعد حين فيكون إمهال النبي له بذلك رحمة. {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}. والمصرون الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. أفلت هؤلاء المنافقون من العقوبة إذ أخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بظواهرهم، فكيف بإخوانك المسلمين الذين لم يؤذوا النبي كما كان يفعل هؤلاء؟

4. نصاب الشهادة على الزنا

الشاهد الرابع: لاحظ النصاب الذي وضعه الإسلام للشهادة على الزنا، فلو رأى ثلاثة أتقياء رجلاً وامرأة يزنيان فيحرم عليهم نشر ذلك، إذ لا بد من أربعة. سيفلت الزانيان من العقوبة، لكن تحصين المجتمع من الافتراء على الطاهرين والطاهرات أعظم نفعاً من عقوبة هذين الزانيين، إذ لو فتح باب الاتهام لتهم أهل العفة. فنقول للذي يسيء الظن احتياطاً: من ماذا أنت خائف؟ أن يفلت بعض من فعل محرماً من العقوبة ويفسد في المجتمع؟ نفع الأخذ بالظاهر وحسن الظن أكبر بما يشيعه في المجتمع من مودة واطمئنان المسلمين لبعضهم وبما يسده من أبواب الشياطين.

قد يقال: لكننا في زمان كثر فيه الخبث. نعم، ومع ذلك فلاحظ أن في الشواهد التي ذكرناها أخذاً بظاهر منافقين ومن كان للتو كافراً محارباً. كيف نستخرج من الناس أحسن ما فيهم بحسن الظن؟ كيف يدل سوء الظن على نفسية صاحبه وطريقة تفكيره؟ كيف نعين الناس على أن يحسنوا الظن بنا؟ يقول قائل: أحسنت الظن فعاد هذا علي بمصيبة. هل هناك حالات يجوز فيها سوء الظن؟ كيف يكون حسن الظن بالرعية في الدولة الإسلامية؟ هذا ما سنناقشه في الكلمة القادمة بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله.