→ عودة إلى سيكولوجيا الانحراف

الحلقة 3 - عندما يكون الخطأ خيانة!

٢ فبراير ٢٠١٣
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقدمة: مراجعة العوامل السابقة

إخوتي الكرام، ذكرنا في الحلقة الماضية دور عاملي التوثيق والالتزام العلني في حرف الدعوات عن مسارها، بحيث يبدأ الأمر بتصريحات تبدو عديمة التبعات، لكنه ينتهي بتغير النفسيات بحيث تتنكر للشريعة وتتقبل المناهج الوضعية وتتحالف مع أعداء الأمة. وربطنا ذلك بأسلوب الالتزام والتوافق، ذلك الأسلوب النفسي الذي استخدم من قبل في تغيير نفسيات الأسرى.

سنتابع اليوم بالحديث عن عاملين مهمين آخرين لإنجاح أسلوب الالتزام والتوافق في حرف الدعوات، ألا وهما: الاختيار الذاتي وبذل الجهد الإضافي.

العامل الثالث: الاختيار الذاتي

أما الاختيار الذاتي، فقد رأينا أن المحققين الصينيين كانوا يقدمون للأسير الأمريكي جائزة تافهة مقابل كتاباته التي قدم فيها شيئاً من التنازل، وذلك حتى يحس الأسير أن كتاباته هذه ملكه ونابعة من ذاته، بدون أن ينظر لنفسه على أنه كتب ما كتب من أجل جائزة كبيرة، أي لئلا يشعر بأنه غير مبادئه من أجل مقابل مادي. إذ أن المراد لهذا الأسير هو أن يتقبل المسؤولية الذاتية الداخلية عن عمله وكتاباته، ويشعر بأنه صاحب القرار فيها وملزم بها ومضطر للدفاع عنها.

تطبيق الاختيار الذاتي على الحركات الإسلامية

ما إسقاط ذلك على واقع الحركات الإسلامية؟ عندما قدمت هذه الحركات التنازل تلو التنازل، هل وعدت في مقابل ذلك بدولة إسلامية والتمكين الفعلي للشريعة، أو التحرر من التبعية والاعتماد الاقتصادي والغذائي على الغرب؟ لا. إذ لو وعدت بذلك، لاستشعر عدوها يساومها على مبادئها في مقابل هدف يعلم أهميته عند هذه الحركات. وحينئذ فإنه سيصعب على هذه الحركات التخلي عن هذه المبادئ التي أحست باستهداف عدوها لها، لأن الصفقة ستكون واضحة: "قومي أيتها الحركات بعمل لا يتفق مع دينك وعقيدتك كي تخدمي دين الله".

صفقة لشراء الذمم وخوض الوحل في سبيل الوصول إلى غاية نظيفة، وهي صفقة تنفر منها النفوس مهما كانت الغاية عظيمة. فحتى لو قبلت الحركات الإسلامية هذه الصفقة، فإنها لن تقبل المسؤولية الداخلية عنها، ولن ترى التنازل الذي قدمته جزءاً من كيانها، ولن توافق نفسياتها لتتناسب مع هذه التنازلات. إذ أنها سترى هذه التنازلات حينئذ شيئاً منفصلاً عن سلوكها ومنظومتها النفسية، قامت به كحالة استثنائية من أجل تحصيل هدف عظيم، ثم سترفضه وتتبرأ منه بمجرد تحصيل هذا الهدف.

وليس هذا هو الذي يريد الأعداء تحقيقه، بل هم يريدون لمنتسبي الحركات الإسلامية أن لا يحس بالاستدراج، بحيث إذا نظر إلى نفسه في المرآة مساءً لا يحس أنه يرى صورة رجل غير مبادئه.

إيهام النفس بمغافلة العدو

فإذا قالت له نفسه: "أجبت أعداءك إلى ما طلبوه منك"، رد عليها: "بل أنا صاحب القرار، وأنا اخترت أن أفعل ما فعلت بقناعة منبثقة من نفسي وذاتي". وإن قالت له نفسه: "إنك تتنازل"، رد عليها: "أتنازل من أجل ماذا؟ الذي يتنازل يغرى عادة بشيء يحرص عليه، إنما أنا أتلمس فلتات العدو وسهواته ونقاط الضعف في نظامه وقانونه لأحقق منفعة ديني. والتصريح الذي صرحت والموقف الذي اتخذته لا يشكل خرقاً كبيراً لمبادئي وعقيدتي". إذاً فهو يوهم نفسه بأنه يغافل العدو وينسل من خلال ثغرات نظامه، لا أنه يساوم على مبادئه.

كان هذا فيما يتعلق بعامل الاختيار الذاتي، وهو كما في كتاب "التأثير وسيكولوجيا الإقناع" أهم عامل لإنجاح أسلوب الالتزام والتوافق.

العامل الرابع: بذل الجهد الإضافي

العامل الرابع والأخير هو بذل الجهد الإضافي. رأينا في الحلقة الأولى إخواني من سيكولوجيا الانحراف أن الشخص الذي يخوض ألماً وعناءً شديدين في سبيل الحصول على شيء ما، فإنه يعطي هذا الشيء أهمية أكبر بكثير ممن حصل عليه بجهد قليل.

في حالة الحركات الإسلامية، فقد كان واضحاً تماماً أنه يراد لها بذل جهد كبير في الانتخابات البرلمانية، وصرف الأوقات والأموال والجهود في حشد الأصوات وتنظيم الحملات، ثم بذل الجهد الكبير لتحصيل منصب الرئاسة، إذ جاء بعد استثناء بعض المرشحين، ثم الزج بمرشحين جدد ظاهري الفساد. ولم يكن تحصيل المنصب من الجولة الأولى، ثم لم يكن بفارق كبير. وكذلك الأمر بالنسبة للدستور وفرض العسكر لشخصيات في تأسيسه.

تضخيم الإنجازات الهزيلة

وفي كل محطة من هذه المحطات تثور فزاعة العلمانيين والفلول، ويصل سيف المحكمة الدستورية لتقطيع الحبال وإلجاء الحركات إلى حبل نجاة جديد موهوم. كل هذا حتى تعطي الحركات الإسلامية قيمة كبيرة للإنجازات الهزيلة التي وصلتها بشق الأنفس. فمنصة الرئاسة التي وصلتها الحركات الإسلامية بعد كل هذا الجهد، يجب أن تكون في نظرها من أعظم الإنجازات، بل هي من أعظم الإنجازات، ويجب الدفاع عنها والاستماتة في سبيلها.

وتستمر الحركات الإسلامية في بذل الجهد الإضافي في ثنايا دهاليز الفشل، فمرة يسمح لها بتغيير قيادات الجيش، ومرة توهم بلعب دور تاريخي في حرب غزة.

دور الإعلام في تضخيم الإنجازات

ثم تضخم هذه الإنجازات من الطرفين: فالإعلام العميل ودوائر السياسة الصهيوصليبية تتظاهر بالارتجاف والهلع من هذه الإنجازات، تظاهر الأب بالخوف من السيف البلاستيكي الذي أشهره طفله في وجهه، مع أن الأب هو من جاء له بهذه اللعبة. ولو كانت دوائر السياسة خائفة من النتائج بالفعل، لحركت الجيوش دون روية كما فعلت في مالي.

ومن ناحية الحركات الإسلامية والإعلام الخاص المتعاطف معها، فإنها تضخم هذه الإنجازات وتبحث عنها بالمجهر في زوايا الدهليز، لأنها لا تريد أن تصحو على حقيقة الفشل المُر، ولا أن تقتنع بخطأ مسلكها وضرورة الاستدراك وقرع باب الفرج الحقيقي الذي لا تريد الآن هذه الأحزاب تحمل تبعاته.

الخطأ يصبح خيانة

بعد هذا نقول إخواني: ما سبق كله إنما هو مصداق قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]. والقائل سبحانه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

متى يكون الخطأ خيانة؟

عندما نبين أخطاء بل معاصي الحركات الإسلامية، يرد علينا: "يا أخي هل تشك أنهم يريدون الإصلاح؟ هل أنت تخونهم؟" والجواب إخواني أنه عندما يحيد الإنسان عن أمر الله وهو يعلم، فإن الخطأ يساوي الخيانة مهما كان الهدف. فإن من يبرر لنفسه أن يختار في غير موطن الاختيار، ويخالف الأدلة، ويترك المنقول للمعقول، فإن هذا الزيغ هو بحد ذاته الخيانة. حتى لو كان الهدف بمعصية الله خدمة دين الله، يصبح الخطأ خيانة لأن النتيجة واحدة: هدم الإسلام ونقض عراه وتشويه الدعوة وشماتة الأعداء.

الخطأ ليس مجرد معصية فردية

يصبح الخطأ خيانة لأنه لا يتعلق بمعاصٍ فردية يمارسها الفرد في الخفاء ثم يتوب منها فيتوب الله عليه، بل معاصٍ تؤثر في حياة شعوب بأكملها وتضر بدنياها وآخرتها. يصبح الخطأ خيانة لأن الله عز وجل حذر من قليل الميل والركون إلى الأعداء وطاعتهم، فعصى هذا المخطئ ربه. يصبح الخطأ خيانة لأن الله أمر بالأخذ بالإسلام كافة وحذر من اتباع خطوات الشيطان، فعصى هذا المخطئ ربه.

الخطأ في الغرف المغلقة

لذا فإني لا تستهويني نظرية أن هذا الحزب أو ذاك باع ذمته وعقد صفقة مع أمريكا أو غيرها في الغرف المغلقة، بل لا أظن أن أعداء الأمة سيواجهون الأحزاب بطلب صريح أن تخون أمتها، إذ هم يريدون ضمان عامل الاختيار الذاتي كما أسلفنا. لكن في المحصلة لا فرق، فالخطآن سيؤديان المهمة ذاتها.

ما يحدث في الغرف المغلقة ليس شرطاً أن يكون اتفاقاً على الخيانة، وإنما يدخل هؤلاء وقد خسروا المعركة نفسياً ابتداءً، وفقدوا البوصلة الشرعية، وتملكتهم فكرة إعطاء صورة معتدلة عن أنفسهم. وهذا كله يقود إلى أن يصبح التنازل مبدأً، والخيانة اختياراً ذاتياً.

الخاتمة: النوايا والمنهج الشرعي

ولذا فحين نخاطب الناس بأن هذا الفعل أو ذاك من الأحزاب مخالف لـ "قال الله وقال رسوله وأجمع المسلمون"، فإنه من العجيب أن يكون الرد: "لكن يا أخي نيتهم خدمة الإسلام". ما شأننا والنوايا إخواني؟ ومن قال إننا نتهم النوايا بإرادة الخيانة وأذية الإسلام؟ إنما نتهم بما ظهر من مخالفة الدليل الشرعي، وحينئذ فالخطأ خيانة إخواني.

فقد حاولنا في هذه الحلقات تناول موضوع الانحراف عن منهج الله من الناحية النفسية كبعد جديد متكامل مع البعد الشرعي الذي يتم تأصيله في سلسلة "نصرة للشريعة". وليس الهدف من هذا التناول هو تحديد الموقف بناءً على الأدلة العقلية والدراسة النفسية، فهي معرضة للآراء والاجتهادات والخطأ والصواب، وإنما تحدد المواقف بناءً على الأدلة الشرعية. ومن أعظم الخير أن نمتثل لأمر الله تعالى انقياداً وتسليماً ويقيناً بحكمة الله وعلمه ورحمته. وإنما تناولنا الموضوع من الجانب النفسي استئناساً ومحاولة لفهم شيء من حكمة الله عز وجل إذ غلظ عقوبة التنازل عن ثوابت الدين وحرم قليله وكثيره.

نسأل الله عز وجل أن يهدي الضالين ويرد الأحزاب إلى صراطه رداً جميلاً. والسلام عليكم ورحمة الله.