إن لم تستوقفك هذه الآيات فجدد محبتك
اشتركوا في القناة. هذا المعنى أن الله تعالى يتودد إلى عباده حقيقة، هو معنى ينبغي أن نقف عنده، لأنه معنى لطيف كثيراً ما نغفل عنه. انظروا كيف يتودد الله تعالى إلينا وهو الغني عنا، أليس من أسمائه الودود؟
تودد الله لعباده
انظر إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ۚ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}.
الله تعالى يتودد في هذه الآيات إلى المؤمنين بتذكيرهم بأنه يهديهم ويرحمهم وسيلقاهم يوم القيامة بأجر كريم، يعبر عن محبته لهم. وكأنه يقول لهم: ما دمت أفعل ذلك كله لكم، ألا أستحق منكم أن تحبوني فتذكروني كثيراً كما يذكر المحب محبوبه؟
لا ينبغي أن تكون علاقتنا بالله تعالى محصورة في انتظار النعيم الدنيوي، بل ولا الأخروي فحسب. لابد أن يكون رضا الله تعالى مطلباً في ذاته. لابد أن نحب الله ونحرص على أن يحبنا سبحانه وتعالى، وأن لا نطيق الحياة دون هذه المحبة.
محبة الله لنا كغاية
ألا ترى أن الله تعالى ختم كثيراً من آيات الأوامر ببيان أنه يحب من يفعل كذا وكذا؟ ماذا نستفيد من هذه الخواتيم؟ إن كنا أوفياء لله تعالى وصادقين في محبتنا له، فإن هذه الخاتمة "والله يحب كذا" ينبغي أن تكون كافية في تشجيعنا على تنفيذ الأمر لنحصل على هذه الجائزة العظيمة: محبة الله لنا.
انظر كيف تكررت هذه الخواتيم في القرآن الكريم:
- {إن الله يحب المحسنين}
- {والله يحب الصابرين}
- {إن الله يحب المتقين}
- {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}
- {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}
- {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً}
- {إن الله يحب المتوكلين}
ألم تقف عند هذه الخواتيم من قبل؟ ألم تشعر بالسعادة الغامرة إن كنت من أصناف الناس الذين يحبهم الله تعالى؟
إن لم نحرص على أن نكون من أهلها، إن لم تكن محبة الله تعالى كافية في أن نكون من المحسنين والصابرين والمتقين والمتطهرين والتوابين والمتبعين للرسول الأمين والمتوكلين وفي سبيل الله من المقاتلين، إن لم تكن محبة الله كافية في أن نبذل جهدنا في التخلق بهذه الأخلاق، ألا يدل ذلك على أن هناك جفافاً في محبتنا لله ونقص اهتمام بمحبته تعالى لنا؟
بغض الله لنا كعقوبة
وفي المقابل، ترى أن الله تعالى نهى عن أمور وأتبع النهي بأنه تعالى لا يحب من يفعل كذا:
- {والله لا يحب الظالمين}
- {إن الله لا يحب المعتدين}
- {إن الله لا يحب المسرفين}
- {إن الله لا يحب الخائنين}
أخي، راجع نفسك، هل كنت كلما قرأت هذه الآيات تفكر بالطريقة التالية: إن لم يحبني الله فسيعرضني لبلاء أو يحرمني من نعيم؟ هل هذا هو كل ما يهمك؟ هل تجري عملية حسابية لتحسب ماذا سوف تخسر من نعيم الدنيا إن أبغضك الله أو لم يحبك؟ هل كل ما يهمك أن يستمر النعيم ويدفع البلاء؟
ألم تشعر بوخز وألم أن لا يحبك الله تعالى؟ أليس هذا شيئاً مرعباً وعقوبة كافية في ذاتها أن لا يحبنا الله؟ ألا تكفي هذه العقوبة في أن تحرصك كل الحرص على البعد عن الظلم والعدوان والإسراف والخيانة، لأن الله تعالى لا يحب من اتصف بهذه الصفات؟ أن تفتش في أقوالك وأفعالك وتحاسب نفسك حساباً دقيقاً خشية أن تفقد محبة الله لك وأنت لا تشعر.
مقارنة بين شخصيات
اسأل نفسك هذه الأسئلة لتعرف إن كنت أقرب إلى شخصية رامي الجاف أم غسان الذي لم يطق أن يرى العبوس في وجه أبيه، ولم يتصور العيش وهو يحس بنقص محبة أبيه له لوفاء ونبل في نفسه. ألا ترى كيف أن الطفل الصغير يستمد ثقته بنفسه من محبة والديه له؟ لا يشعر بالاستقرار والطمأنينة إلا إذا عبر والداه عن محبتهما له. إذا قال له أبوه: لا أحبك، فإن هذا يهدد استقراره ويدمر ثقته بنفسه ويعطيه نظرة سوداوية للحياة.
ألسنا نحن الخلق عيال الله تعالى؟ ما لنا معيل ولا ملجأ إلا هو سبحانه وتعالى. إذا قال الله لك: لا أحبك، ألا يخيفك ذلك؟ ألا يجعلك ترتعد؟ ألا يسود الحياة في وجهك؟ ألا يهدد ذلك استقرارك وطمأنينتك؟ ألا ينبغي لك أن تحاسب نفسك على كل قول أو فعل يمكن أن يجعلك من هؤلاء الذين ذكر الله تعالى أنه لا يحبهم؟
بشارة الله لعباده المحبين
عندما يتشرب قلبك هذا المعنى، التودد إلى الله وأن الله يتودد إلينا، {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}.
تأمل هذه الآية كلمة كلمة لترى كيف تنبع منها محبة الله: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}.
وفي المقابل، الآيات والأحاديث التي تذكر أصنافاً من الناس لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم، فكفى بها عقوبة أن لا يكلمك حبيبك ولا ينظر إليك إن كنت صاحب قلب حي.
رضوان الله أكبر النعم
تأمل معي كذلك الحديث الذي رواه البخاري أن الله تعالى يقول لأهل الجنة: "يا أهل الجنة"، فيقولون: "لبيك وسعديك والخير في يديك"، فيقول: "هل رضيتم؟" فيقولون: "وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك"، فيقول: "ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟" فيقولون: "يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟" فيقول: "أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً". أي أن هذا الرضوان الذي أحللته عليكم سيكون سرمدياً أبدياً.
يصعب على جاف الشعور أن يفهم لماذا هذه أعظم النعم. فما دام أهل الجنة في ظل ممدود وفاكهة كثيرة وحور العين، فماذا يضيف إليهم رضوان الله في نظره؟ أما صادق المحبة فيعلم أن رضى المحبوب أسمى الأمنيات ومنتهى الطموحات. {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}.
نعم، رضوان الله أكبر من النعم الأخرى كلها، أكبر من الجنات والأنهار والمساكن الطيبة. إنه رضا أعظم محبوب، الله سبحانه وتعالى.
فاذكروني أذكركم
تأمل معي كذلك قوله تعالى: {فاذكروني أذكركم}. يتودد إلينا ربنا ويطلب منا أن نذكره ويعدنا حينئذ بجائزة. ما هي هذه الجائزة؟ أن يذكرنا تعالى. ضعيف المشاعر لا يفهم ما الميزة في أن يذكر الله العبد. فالإنسان النبيل يكفيه دافعاً إلى التوبة علمه بأنها ستفرح من؟ ستفرح أعظم محبوب، الله سبحانه وتعالى.
بل هناك بعد آخر جميل أيضاً: إذا أهداك من تحب هدية، فبأيهما أنت أفرح؟ بالهدية ذاتها أم بدلالتها على محبة من أهداها لك؟ بل تفرح أكثر بأن من أهداها إليك يعبر بذلك عن حبه. لذا ففرحة أهل الجنة مضاعفة، فهم ليسوا فرحين بما آتاهم الله من فضله فحسب، بل وبدلالة هذا الإنعام على حب الله لهم ورضاه عنهم. فلا تنسى استشعار هذا المعنى كلما قرأت الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الإنعام: {لله يبشرهم ربهم}، {أعد الله لهم}، {وعد الله الذين آمنوا}، {آتاهم الله}. رضا الله الذي يدل عليه هذا النعيم أهم من النعيم نفسه.
طبعاً لا يعني ما تقدم أن المؤمن يطيع الله تعالى ويعبده محبة فحسب دون انتظار ثواب أو خوف عقاب. هذه مبالغة ترفضها نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}، وقوله تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه}. لابد أن نحب الله ونطيعه ونلتزم أمره خوفاً وطمعاً أيضاً. إنما المقصود هنا التنبيه على معنى كثيراً ما يغيب عن الأذهان، ينبغي أن يحتف بالخوف والرجاء، ألا وهو طاعة الله تعالى حباً له والحرص على حبه لنا ورضاه عنا.
الخاتمة
هل اقتنعت الآن أن الله تعالى يتودد إلينا؟ هل استوقفتك هذه الآيات والأحاديث من قبل؟ هل كنت حريصاً على أن تبادل الله الود وداً أم أنك التهيت بالنعم عن المنعم؟ إذا كنت التهيت فلا تعجب عندما يبتليك الله تعالى ليذكرك أن تبادله الود وداً، حتى لو كان الابتلاء شديداً فلن يكون أشد من جفاف الروح وقسوة القلب بخلوه من تذوق تودد الله ومبادلة هذا الود وداً. فإذا دفعك البلاء إلى هذا التذوق فقد ربحت كل شيء ولم تخسر شيئاً مهما كانت خسارتك كبيرة في الظاهر.
إذن إخواني أخواتي، هناك معنى مهم جداً: الله تعالى رحيم حتى في عقوبته، حتى في الابتلاء رحيم ودود حتى في ابتلائه. فخلاصة هذه الحلقة هي خلاصة الحلقة الماضية ذاتها: الله سبحانه وتعالى يتودد إلينا، فاحرص أن تبادل الله الود وداً ولا تكن فقير المشاعر مع ربك سبحانه وتعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ترجمة نانسي قنقر.