→ عودة إلى فن حسن الظن بالله

الحلقة 13 - الراحمون يرحمهم الرحمن

٢٦ مارس ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

اشتركوا في القناة

رحمة الله مصدر الفرح الأعظم

في رحم المعاناة يزداد حبك لخالقك ومولاك، إنها رحمة الله. تعالوا نتأمل جمال هذه الرحمة حتى نطمع فيها، ثم نعرف كيف نحصلها.

رحمة الله مصدر الفرح الأعظم. أمرنا الله أن نفرح بها فقال: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}. فبذلك أسلوب حصر، لأنها أولى ما يفرح به، لأن هذه الرحمة هي مصدر الفرح الحقيقي الذي لا ينضب ولا يتأثر بالظروف، أولى من متاع الدنيا الفاني.

عرف المفسرون هذا الفضل والرحمة بأنهما الإيمان والقرآن. هذان مصدر فرح تحمله في صدرك في السراء والضراء والشدة والرخاء: إيمانك بالله، تأملك لأسمائه وصفاته، شوقك إلى لقائه، اطمئنانك إلى معيته، وانتظار كرامته. {فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}.

هل يملك أحد أن يمسك هذه الرحمة أو يمنعها من الوصول إلى عبد من عباد الله؟ لا والله. قال الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}.

سيد قطب رحمه الله له تأملات جميلة جداً في هذه الآية: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}. الجميل أنه كتبها وهو يعاني من المرض والسجن الطويل في ظروف صعبة قبل أن يُعدم، لأنه كان ينادي بإفراد الله عز وجل بالحاكمية.

قال بالمعنى رحمه الله: "إن هذه الآية حين تستقر في القلب تحدث تحولاً جذرياً في مشاعر الإنسان وموازينه، فتُيئسه من كل رحمة في الأرض، وتُعلقه برحمة الله. تلك الرحمة التي يستشعرها قلب المؤمن في كل وضع ولو فقد كل شيء. فمن أنعم الله عليه بهذه الرحمة ينام على الشوك فإذا هو مهاد لين، بينما من فقد هذه الرحمة ينام على الحرير فيجده شوكاً".

كأن الله تعالى قال في الآية نفسها: {وما يمسك} يعني من الرحمة {فلا مرسل له من بعده}. أو يأسك منها أو شكك فيها، وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً. {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

إذن عندما تحس برحمة الله وترجو رحمة الله وتنتظر رحمة الله عز وجل وتتوقعها، فإن هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى.

رحمة الله لا تعز على طالب

ثم قال: "ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال". وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه.

ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته}. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار. ووجدها كل من آوى إليها يائساً من كل ما سواها.

أي طمأنينة وأي قرار وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟ آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة، وتنشئ في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها.

إذن أخي، أيّاً كان بلاؤك، انتظر رحمة الله وارجُ رحمة الله وتوقع رحمة الله وسيرحمك الله عز وجل.

تجربة سيد قطب مع رحمة الله

ثم قال سيد قطب -وهنا أنقل قوله باختصار-: "ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية. لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي وشقاء نفسي وضيق بضائقة وعسر من مشقة. ويسر الله لي أن أطلع منها -من هذه الآية- على حقيقتها، وأن تُسكب حقيقتها في روحي كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني، حقيقة أذوقها فكانت رحمة بذاتها. وقد قرأتها من قبل كثيراً ومررت بها من قبل كثيراً، ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها وتنزل بحقيقتها المجردة وتقول: ها أنا ذا".

نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها، فانظر كيف تكون. إنه لم يتغير شيء مما حولي -قال أنه في سجني- لم يتغير شيء مما حولي، ولكن لقد تغير كل شيء في حسي. إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية: {أنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}.

نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها، ولكنه قل ما يقدر على تصويرها أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها، وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وها أنا ذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق وأنا في مكاني. إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته. انتهى كلامه رحمه الله.

كلام جميل جداً من إنسان أحس فجأة برحمة الله فأغنته عن الدنيا كلها وهونت عليه المصاعب كلها.

إخواني، أنت في الأوضاع الاعتيادية عندما تحس بالفرح فإنك قد تعزو هذا الفرح إلى الأسباب المادية: صحتك، مالك، مكانتك، زوجتك، أولادك، ما تتلذذ به من طعام وشراب. لكن عندما تكون في بلاء شديد وتفقد كثيراً من الأسباب المادية ومع ذلك تحس فجأة بالفرح، فإنك تدرك حينئذ أن هذه الفرحة ما هي إلا من رحمة الله وبرحمة الله. واحة تجدها وسط صحراء العناء، هذه الرحمة إخواني، هذه رحمة الله سبحانه وتعالى. أرجو أن تكونوا قد طمعتم فيها.

كيف نحصل رحمة الله؟

طيب، ماذا نفعل حتى نحصلها؟ سهل. قال ربي سبحانه وتعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}. كن من المحسنين.

الواحد منا عادة إذا وقع في مشكلة ينشغل بنفسه وبمشكلته وكيفية التخلص منها، ويتحسر على ما فات ويخاف من المستقبل. ننسى في هذه اللحظات الحرجة أن نكون من المحسنين لنستأهل رحمة الله، لنستأهل رحمة الله عز وجل. {إن رحمة الله قريب من المحسنين}.

ارحم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

قصص من واقع الحياة

أحد إخواني كان معي في الأسر، عشت معه عدة أشهر. هذا الأخ كان قد تعود على بذل الخير وعلى أن يعيش للناس ويفرج كربات الناس، وهو في منطقته معروف بذلك. تعرف هذا الأخ أثناء الأسر على شاب قتل رجلاً فحكم عليه بالسجن المؤبد. ثم إن هذا الشاب القاتل استقام وصلح أمره في السجن، فنقل إلى جناح القضايا الإسلامية.

الأخ المحسن الرحيم تعرف عليه من وراء الجدران، لم يلتقِ به ولم يرَ وجهه، لكنه عرف أن الأخ القاتل يمكن الإفراج عنه إذا تصالح أهله مع القتيل على مبلغ من المال. فبدأ أخونا بالتنسيق مع زوجه وأشقائه لجمع المال لهذا الشاب ليفرج كربته. لم يُلهِه السجن عن فعل الخير، بل هو يسعى وهو أسير في تفريج كربات إخوانه. كان يوصي من الأسر بإعطاء مال من ماله لأرامل ومحتاجين. مثل هذا يحس برحمة الله عز وجل أينما كان وفي أي ظرف. فالراحمون يرحمهم الرحمن.

أخ آخر كان قد عانى من السجن ثماني سنوات ومر فيه بظروف صعبة للغاية ولا يزال في الأسر، فرج الله كربه وكرب أسر المسلمين. لكنه مع ذلك كان رحيماً بإخوانه. مرضت مرة أثناء الأسر فوضع رأسي في حجره وقرأ علي قرآناً ورقاني وعيناه تدمعان لرقة قلبه. هذا الأخ هو ذاته الذي كان يقول لي: "أريدك أن تستمتع بنعمة البلاء رضا وطمأنينة". فالراحمون يرحمهم الرحمن.

بعض الإخوة في الأسر كانت أحوالهم المادية ضيقة، فكانوا يعبرون عن رحمتهم بوضع قطع من الطعام المقدم لنا في صرر رميها للقطة المارة من فوق شبك غرف السجن.

تريد رحمة الله التي لا يمسكها أحد من الجن أو الإنس؟ تريد رحمة الله التي بها الفرح الحقيقي؟ عود نفسك على الرحمة والإحسان في كل الظروف. ألم ترَ أن الله تعالى امتدح من يؤثر إخوانه على الرغم من فقره فقال في الأنصار: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. يعانون من بلاء الفقر ومع ذلك يحسنون.

ألم ترَ إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

خلاصة الحلقة: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، وحينئذ {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}. والسلام عليكم ورحمة الله.