حول الشعور السلبي إلى قوة دافعة
قوة دافعة إيجابية تدفعك إلى تدارك أخطائك وتسويب وضعك وفتح صفحة جديدة مع ربك سبحانه وتعالى. في الواقع يا إخواني، هذه الطريقة في التعامل مع الندم ينبغي أن تكون قاعدة في التعامل مع المشاعر السلبية بشكل عام. هناك مواقف كثيرة تولد مشاعر سلبية، تعالوا نستعرض نماذج منها والطريقة الخاطئة في التعامل معها، ثم الطريقة الصحيحة في تحويلها إلى قوة إيجابية دافعة.
التعامل مع المشاعر السلبية
تساؤلات القدر
أولًا، قد تُبتلى فيلقي الشيطان في نفسك تساؤلات عن القدر ليزعزع بها طمأنينتك وتسليمك. الخطأ أن تسترسل مع هذه التساؤلات وتنفر عن ربك سبحانه وتعالى، ثم أنت مع ذلك مستمر في معاصيك وأخطائك. ماذا استفدت؟ لا أصلحت وضعك ولا سلم قلبك لربك سبحانه وتعالى.
بل الصواب أن تحسن الظن بربك وتدع سؤال "لماذا" هذا الذي لن ينفعك بشيء. تستجمع قواك الإيمانية وتستعين بالله تعالى لطرد هذه الخواطر الشيطانية التي تهدد إيمانك. تقرأ القرآن وكتب العلم، وتتأمل وتذكر الله وتدعوه، وتتخلص من ذنوبك وأخطائك. ماذا سيحصل حينئذ؟ سيتحول هذا الشك إلى يقين، وهذا البعد عن الله إلى إقبال عليه.
تجربتي الشخصية
إخواني، هذا الكلام نتاج تجربة مررت بها. كنت أغبط إخوة لي في الأسر يعانون أشد من معاناتي، كنت أحس بأن نفسياتهم أكثر استقرارًا من نفسيتي. فأسائلهم لأسبر غورهم وأستخرج كوامن صدورهم لأرى إن كان الشيطان يهجم عليهم ليزعزع طمأنينتهم وتسليمهم. استنتجت أن بعضهم كان يتمتع برضا مستمر، ولم يكن الشيطان يورد في خواطرهم هذه التساؤلات عن القدر.
كنت أغبطهم وأتضايق من نفسي وأقول لها: ففي كل مرة كان الشيطان يهجم فيها على قلبي ليحاول تعكيره تجاه القدر، كنت أستجمع ما أعرفه من كتاب وسنة ومواقف وأشعار وتأملات لأصد هجومه. فأؤلف قصيدة أو خاطرة أثبت بها نفسي وأصد بها هجوم الشيطان أولًا، ثم أفيض بها على من حولي. فما أن ينقشع غبار المعركة حتى أرى عدوي قد ولى منهزمًا، ومحبتي لخالقي قد زادت، وإيماني قد تمحص، واليقين بحكمة الله ورحمته قد ضرب جذوره أكثر عمقًا في قلبي.
الشعور السلبي ذاته إن تركته عكّر على علاقتك بالله، وإن تعاملت معه بشكل سليم تحول إلى محبة وإيمان ويقين. بهذا تقلب سلاح الشيطان عليه وترد كيده عليه، فلعله يقول بعدها: يا ليتني لم أوسوس له أصلًا.
الاستدلال من القرآن والسنة
آية سورة الحج
ذكرت قصتي هذه مع وساوس الشيطان لأحد إخواني في الأسر، فقال لي: هذا المعنى يمكن أن يُلتمس ويُستوحى من كتاب الله. فقلت له: أين؟ قال في قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52-54].
لاحظ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. يبطل الله عز وجل فعل الشيطان ويبقى قول الله الحق والعلم النافع في الصدور. بينما {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}. قاس القلب ومريض القلب يفتن بشبهات الشيطان وغاراته، قلب خالطته الشهوات والتعلق بالدنيا ولم يعتنِ صاحبه بالعلم النافع الذي يصد به الوساوس.
وفي المقابل، يخاف أن تبقى في قلبه فتفسد عليه إيمانه، فهو يريد أن يأتي الله بقلب سليم. فيستجمع إيمانه ليصد الهجوم، فيزيد يقينًا بصدق آيات الله تعالى وأنها الحق، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}. يخر القلب ساجدًا مخبتًا مطمئنًا لحكمة الله تعالى، ولا يزيغ بصر القلب إلى شبهة أو وسوسة بعد ذلك. لم يعد إيمانه تسليمًا مجملًا من إنسان لم ترد عليه شبهة أصلًا حتى يردها، بل وردت الشبهة لكنه لم يدعها تستقر في قلبه، بل ردها وسد مسلكها. وبعد أن كانت مصدر اضطراب أصبحت مصدر يقين.
كلام ابن القيم
هناك كلام جميل لابن القيم بنفس المعنى قال: "وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه، فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شك، بل ازداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له وكراهية لها" -يعني للأشياء الباطلة- "ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه".
تأمل معي يا أخي كلام جميل ومعنى عميق: "وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه، فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولا تورثه شبهة ولا شك، بل ازداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له وكراهية لها" -للأشياء الباطلة- "ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه".
ولنلاحظ إخواني، لا يعني هذا أن كلامنا حكر على العلماء الذين تبحروا في التفسير والفقه وعلوم الدين فحسب، بل عبادة الله والخوف منه ورجاء رحمته هذا كله علم. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. فهذه عبادة وخوف ورجاء تدفع جميعها إلى القيام بالواجبات وترك المحرمات. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201-202].
فإذا اقترنت هذه التقوى بالتبحر في علوم الدين زدت أهلية لتملك هذه المهارة، مهارة تحويل الوسواس إلى يقين. الشعور السلبي ذاته، تساؤلات وشكوك يطرحها الشيطان، إن تركتها نخرت وعكرت وأفسدت ودمرت، وإن أحسنت الظن بالله انقلبت قوة وانشراحًا ويقينًا وطمأنينة.
قال الدكتور محمد دراز رحمه الله في كتابه القيم "النبأ العظيم": "كل شبهة تقام في وجه الحق الواضح سيحيلها الحق حجة لنفسه يضمها إلى حججه وبيناته".
حديث الفتن
وختامًا، حديث عظيم رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا" -يعني بشكل متتابع- "فأي قلب أشربها" -يعني القلب المريض بالشهوات- "نُكت فيه نكتة سوداء" -بقع سوداء- "وأي قلب أنكرها" -قلب المؤمن- "نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواها".
تصرف مع الوساوس بطريقة صحيحة لتصل إلى مرحلة يصبح فيها قلبك أبيض كالصفا، لا تضره فتنة ولا شبهة ولا وسواس ما دامت السماوات والأرض. وكما يقول المثل: "الضربة إن لم تقتلك قوتك".
الخلاصة
هل بقي هناك مشاعر سلبية أخرى يمكن أن نحولها إلى قوة إيجابية دافعة؟ نعم، لكن حتى لا أطيل عليكم سنعرض لها في الحلقة القادمة بإذن الله.
خلاصة الحلقة: لا تدع وساوس الشيطان حول حكمة الله ورحمته تستقر في قلبك، بل الجأ إلى الله وادعه وعبده وتخلص من معاصيك وتسلح بالعلم النافع وأحسن الظن بربك تعالى. وحينئذ ستكون هذه الوساوس سببًا في زيادة يقينك ومحبتك لله تعالى. والسلام عليكم ورحمة الله.