مقدمة: تحويل الألم إلى قوة دافعة
اشتركوا في القناة. لكن ماذا بعد الألم؟ الشك في رحمة الله وحكمته؟ إذن قد وقعت في فخ الشيطان. بل نريد تحويل هذا الشعور السلبي إلى قوة دافعة.
الابتلاء سنة الله في خلقه
إخواني، الابتلاء سنة الله في خلقه، وليس أمرًا جديدًا. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.
أمثلة من القرآن والسنة
والله قد أخبرنا بقصة الأخدود وعباده الذين حُرقوا في سبيله، وسحرة فرعون إذ قال لهم: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. وبني إسرائيل الذين قتل فرعون أبناءهم واستحيى نساءهم على مرأى منهم. الواحد منهم يُربى ويُقتل أمامه، وامرأته وابنته تُؤخذ لتُغتصب، وهو بعد ذلك يُعذب.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأناس كانوا يُنشرون بالمناشير ويُمزق لحمهم عن عظامهم وهم أحياء، لا يصدهم ذلك عن دينهم. نحن عندما رضينا بالله ربًا، نعلم هذا كله. رضينا برب يبتلي ببلايا عظيمة، لكنه يُصبر عبده المؤمن عليها ويثيبه عليها، ما يجعله يتمنى يوم القيامة لو كان بلاؤه أشد.
نعيم الصابرين وعذاب الظالمين
متى أُحرق المؤمنون في الأخدود؟ يُقدر أن ذلك كان قبل 1500 سنة. متى عذب فرعون بني إسرائيل وقتل أبناءهم واستحيى نساءهم، وقطع أيدي السحرة وأرجلهم وصلبهم؟ قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
تصور، من آلاف السنين ومؤمنو الأخدود ومؤمنو بني إسرائيل وسحرة فرعون في نعيم. ومن آلاف السنين فرعون وجنوده ومن حرق المؤمنين في عذاب أليم. من آلاف السنين إلى الآن، وسيبقى عذابهم إلى يوم القيامة. فهل تشفق الآن على مؤمني بني إسرائيل أو على مؤمني الأخدود؟ أم تغبطهم على ما هم فيه؟
دروس من التاريخ الحديث
أبو جهل عذب ياسرًا وسمية، والدي عمار رضي الله عنهم، وقتلهما. ثم هلك أبو جهل بعدهما بسنوات. أكثر من 1400 سنة وياسر وسمية في نعيم، وأبو جهل في العذاب الأليم. ونحن الآن نغبط ياسرًا وسمية.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عُذب وأُعدم العلماء والدعاة في مصر، مثل سيد قطب وعبد القادر عودة رحمهما الله. ثم ما تقاتلوا بعدهم بسنوات أكثر من خمسين عامًا، والمجرمون يلقون جزاء أعمالهم وحربهم لدين الله، بينما الدعاة الذين عُذبوا وأُعدموا في نعيم البرزخ فيما نحسبهم والله حسيبهم. ونحن الآن نغبطهم.
كل مسلم يُعذب ويُقتل الآن في سوريا صابرًا محتسبًا، بمجرد أن يموت فهو يُنعم، بينما قاتله ينتظر العذاب الأليم لحظة هلاكه.
حكمة الله في الابتلاء
ألا ترى أن من حكمة الله تعالى أن جعل هناك نعيم قبر وعذاب قبر، وأعلمنا به وأخبرنا به ليكون في ذلك تصبير عظيم لنا؟ نحن لا ننتظر أن يُنعم المؤمنون ويُعذب المجرمون بعد قيام الساعة فحسب، بل هؤلاء الآن في نعيم، والآخرون الآن في عذاب أليم.
الآن يُقال لأخيك وأختك اللذين يُقتلون في سوريا على الإيمان: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
أخي، هل تتمنى أن يحصل معك كما يحصل مع أهلك في سوريا؟ لعلك انتفض وقشعر بدنك من هذا السؤال. في الواقع ستتمنى ذلك يومًا من الأيام، والذي يخبرك بذلك الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لَيَوَدَّنَّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِّضَتْ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ". ليودن أهل العافية يوم القيامة لو أن جلدك نُزع قطعة قطعة بالكماشة لما ستراه من إكرام الله تعالى لمن ابتلاهم. أسأل الله لي ولك وللمسلمين العافية.
لكن المعنى أن الله أرحم بعباده منا. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. نحن رضينا بالله ربًا، رضينا بالله ربًا. هل قال الله لنا أن هذه الدنيا دار جزاء لنتشكك مما يحصل؟ أبدًا. إنما هذه دار ابتلاء. إلى الديان يوم الحشر نمضي، وعند الله تجتمع الخصوم، هناك الجزاء. نحن رضينا برب يبتلي لكنه يُصبر ويثيب.
قصص البلاء مبثوثة في القرآن، لكننا لا نحس بفظاعة معاناة المؤمنين فيها، لأن هذه المعاناة انتهت من آلاف السنين وبقي النعيم والكرامة لهم. ستمر هذه الأيام ويأتي من يقول بعد سنوات طويلة: "يااه، من كذا سنة وأهل السنة الذين قُتلوا وعُذبوا في سوريا يُنعمون الآن في حياة البرزخ، وقَتَلتهم المجرمون يُعذبون الآن في حياة البرزخ".
ثبات المؤمنين
إخوتي، سؤال مهم: هل رأيت أحدًا من مسلمي سوريا وهو يُعذب تسخط على القضاء؟ لا، بل يقولون: "يا رب، يا الله، يا رب، يا الله". ومنهم من لا يأخذ بالرخصة ولا يسجد لصورة المجرم مع أن الله أباح له ذلك في الإكراه. والله يسمع نداءهم وسينتقم لهم ولو بعد حين. يُحس أنه يحصل معه كما حصل مع الصحابة، وجد لذة أن يُبتلى في الله.
طبعًا هذا كله لا يعني أن لا نتألم لوضع إخواننا وأخواتنا، وأن نقول: "بما أن الله يُصبرهم فلا داعي لنصرتهم". طبعًا لا. لكن هدف هذا الكلام أن نصل إلى الاستنتاج الآتي: الله تعالى أرحم بعباده منا، يبتلي لكنه يُصبر عباده المؤمنين ويثيبهم. فلا يُعقل أن يكونوا هم صابرين بينما أنت يا من تنظر من بعيد فاقدًا للصبر تشك في الحكمة والرحمة. أيعقل هذا؟ هم يُصبرهم ربهم عز وجل، أولى بهم وأرحم بهم سبحانه وتعالى. ونحن من مكاننا نتشكك ونتسخط نيابة عنهم والعياذ بالله.
لو أن أحدًا من إخواننا في سوريا قال في تعذيبه كلامًا فيه سخط على القدر، لفرح به هؤلاء المجرمون ونشروه. ألا ترى من لطف الله بعباده أن يُلهمهم التعلق به واللجوء إليه في هذه اللحظات العصيبة؟ كم من أخواتنا المصريات النصرانيات الأصل اللواتي أسلمن، فأسلمهن جنود حسني مبارك للهالك شنودة وأزلامه حتى يُعذبوهن ويُردوهن عن دينهن. كنا نتألم جدًا عندما نرى أخت لنا يُبث لها شريط فيديو وهي تقول: "والله لن أرتد، لن أرجع عن ديني، ويا مسلمين أنقذوني". ومع ذلك عندما أُلقي القبض عليهن وأُسلمن لشنودة وأزلامه، لم يظفروا بكلمة ردة واحدة من أخواتنا هؤلاء، ولو ظفروا لأتوا بها على الملأ لتُعلن ردتها. {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}.
الخلاصة: لا سوء ظن بالله
إذن يا أخي ويا أختي، إياك وسوء الظن. لا بد أن نتألم لإخواننا، لا بد أن نحزن لما يحصل مع إخواننا وأخواتنا، لكن إياك أن يتحول هذا الألم والحزن إلى سوء ظن في الحكمة والرحمة، بل حول هذا الألم إلى قوة دافعة إيجابية. كيف؟ هذا ما سنتكلم عنه في المرة القادمة بإذن الله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعز المسلمين وأن ينجي إخواننا وأخواتنا في سوريا ويهلك عدوهم. والسلام عليكم ورحمة الله.