→ عودة إلى فن حسن الظن بالله

الحلقة 18 - لطف الله في البلاء

١١ مايو ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

لطف الله في البلاء

تأملنا حكمة الله وتودده وإعانته ورحمته ومغفرته عندما تكلمنا عن مغفرة الله، وكيف أن علينا أن نحول ندمنا إلى قوة دافعة لإصلاح أوضاعنا. استطردنا بالحديث عن تحويل المشاعر السلبية عمومًا إلى قوة دافعة بما يحفظ علينا حسن ظننا بالله عز وجل.

ذكرنا تحويل الوساوس إلى يقين، وتحويل الألم على أوضاع المسلمين في سوريا وغيرها إلى قوة دافعة للانتهاء عما يسخط خالقنا وحبيبنا عز وجل. أود أن أختم هذا المحور من السلسلة، وهو تأمل أسماء الله وصفاته، بالحديث عن صفتين من صفات ربك سبحانه وتعالى تتأملهما في البلاء، لننتقل بعدها إلى ركيزة ثانية من ركائز محبة الله سبحانه وتعالى. هاتان الصفتان هما لطف الله تعالى وستره على عباده.

لطف الله تعالى

نتكلم اليوم بإذن الله عن لطف الله تعالى. قال ربي سبحانه: "الله لطيف بعباده". مهما اشتد بلاؤك فلا بد أن ترى من ربك تعالى لطفًا فيه إن أحسنت الظن به.

لطف الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم

تأمل لطف الله بنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات حياته حراجة. وما هي هذه اللحظات؟ عندما عاد من الطائف وقد سخر منه ساداتها ورماه بالحجارة سفهاؤها، وهو الآن في طريق العودة إلى مكة حيث تنتظره الشماتة والتكذيب والتضييق. وقد ماتت الوفية العطوف خديجة رضي الله عنها، وأبو طالب الذي كان يحمي النبي ويفديه بنفسه وأولاده. وزاد الألم أن أبا طالب مات كافرًا.

وكان هذا كله بعد عشر سنوات من البعثة. عشرة سنوات من البعثة أصحابه فيها يعذبون ويشردون ويقتلون، ولا يدري عليه الصلاة والسلام كم ستمتد هذه المعاناة. كانت هذه أشق لحظات حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفها بقوله في الحديث المتفق عليه: "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب". قرن الثعالب منطقة تبعد حوالي 35 كيلومترًا من الطائف، سارها النبي صلى الله عليه وسلم في حر الشمس ووحشة الصحراء دون أن يشعر بها من شدة الهم.

طيب، أين كان لطف الله عز وجل بنبيه في هذه اللحظات؟ انظروا إلى لطف الله سبحانه وتعالى في هذه اللحظة، كأن الله تعالى وضع الكفار جميعًا في قفص الاتهام، وأعطى رسوله مطلق الحرية في القضاء لينفذ فيهم الحكم الذي يشاء. ففي تتمة الحديث المتفق عليه الذي ذكرناه قال عليه الصلاة والسلام: "فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم".

فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: "يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين". سبحان الله! نفس النبي كسيرة بما لقي من أهل مكة والطائف، وقدماه لا زالتا تدميان، فيجعل الله تعالى حبيبه بهذا العرض في مقام الحاكم نافذ الأمر، بينما الكفار جميعًا كأنهم قيدوا بالسلاسل أذلة صاغرين ينتظرون حكم النبي. ملكان ينتظران كلمة من شفتي النبي تنهي المعاناة وتشفي الصدر وتذهب بغيظ القلب. فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال للملكين بمنتهى السمو الإنساني والعظمة البشرية: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا". بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

أليس هذا لطفًا عظيمًا من الله بنبيه أن يسلمه زمام الأمر ويجعله صاحب القرار؟ ثم النبي من نفسه يختار الصبر على أذاهم، لا عن عجز بل عن عظمة ورحمة. فبدل أن يشعر النبي بالقهر وانعدام الحيلة تجاه هؤلاء المعاندين، يصبح في لحظة كالأب الذي اختار هو بنفسه الصبر على هؤلاء الأولاد العاقين. وقد روى أهل السير حديثًا مرسلًا أن غلامًا نصرانيًا اسمه عداس أسلم على يد النبي في هذه الرحلة أيضًا.

لطف الله في البلاء

عندما تبتلى يا أخي، تأمل كيف أن بلاءك كان من الممكن أن يأتي أشد، ثم تأمل وجوه لطف الله تعالى بك. عندما تعرض صاحبكم لبلاء الأسر، فتح الله عليه بتأمل وجوه اللطف الرباني، فكتبت في بداية الأسر قائمة بعنوان "أمور خففت البلاء"، وصلت فيها إلى سبعة وثلاثين أمرًا خفف الله بها هذا البلاء، ثم اكتشفت كثيرًا غيرها بعدها.

يخفف الله عنك باللقاء برجل ابتلي قبلك فصبر، ببسمة تراها على وجه أخيك، برعاية الله لعيالك ومن يهمك شأنهم، بمحبة أناس نبلاء لك ومساندتهم لك، بكتاب تقرأه، بذكرى جميلة، بأمل في الفرج ينبعث في قلبك، بصورة جميلة للمستقبل ترتسم في ذهنك، بتوسيع الله لك في جانب آخر من حياتك غير الجانب الذي ضاق عليك، بتعريضك قبل البلاء لبلاء أصغر يمرنك ويعودك على الصبر، بكشف اللائق بحظالمك، وغيرها الكثير.

ومن لطائف اللطف الرباني أنك تكون في بلاء تضيق به، ثم يأتيك بلاء آخر جديد يزيد همك أكثر فأكثر، وكم صبرت من مبتلى وهدأت نفسه لطف لا يكون في حساباتك ولا يخطر ببالك قبل وقوعه عادة.

أين اللطف في البلايا الشديدة؟

قد تقول في نفسك: لكن هناك بلايا لا نرى فيها لطفًا، فأين اللطف فيما يحصل مع إخواننا في سوريا وهم تنتهك حرماتهم ويعذبون ويحرقون ويدفنون أحياء؟ فالجواب: بل أعظم مظاهر اللطف نراها في بلائهم. نعم، أعظم مظاهر اللطف الرباني نراها في بلائهم، ألا وهو تثبيتهم على الإيمان في لحظات تعذيبهم وقتلهم، بدلًا من موتهم على معصية.

إنسان على وشك مفارقة الدنيا والرحيل إلى ربه عز وجل، مثل هذا لا يحتاج تخفيف البلاء بل مضاعفته ليتضاعف الأجر وينحط الوزر، لأنه على وشك قطاع العمل وطي كتاب الحسنات والسيئات. وعامة إخواننا هؤلاء في سوريا وغيرها ممن خلط من قبل عملًا صالحًا وآخر سيئًا كحالتنا، وممن تراوح إيمانه بين نشاط وفتور، فأي لطف أعظم من أن يعصمه الله من شؤم سيئاته ويقذف في قلبه إيمانًا ينطقه بالشهادتين وبعبارات التفويض إلى الله: "ما لغيرك يا الله، ما لغيرك يا الله"، بينما كثير غيره يموت في بيته وقصره على سريره ميتة سوء ولا يوفق للنطق بمثل هذه العبارات.

روى أبو نعيم في حلية الأولياء أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "ما أحب أن تهون علي سكرات الموت، لأنها آخر ما يكفر به عن المسلم". ما أحب أن تهون علي سكرات الموت لأنها آخر ما يكفر به من السيئات عن المسلم.

الخاتمة

ختامًا، قال ابن القيم: "اصدق مع الله تعش بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيك ما تحذره، ولطفه يرضيك بما يقدره".

خلاصة الحلقة: مهما اشتد البلاء، أحسن الظن بالله وسترى حينئذ أشكالًا من لطف الله فيه. والسلام عليكم ورحمة الله.