→ عودة إلى فن حسن الظن بالله

الحلقة 19 - ستر الله على عباده

٢٢ مايو ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

ستر الله على عباده

اشتركوا في القناة ويأتون عليك ثناءً عطراً. حينئذ إياك أن تغتر بنفسك، بل تذكر أن هذا كله إنما هو من فضل الله الذي أظهر الجميل وستر القبيح. فلو أظهر أقبح ما عندك، فلعلهم انفضوا عنك وقالوا عنك: إنما ابتلي بسوء أعماله. وتصور كم سيكون مؤلماً أن تسمع هذه الكلمة، وكم ستزيد همك.

ليس هذا الكلام للعصاة فقط، فليس منا أحد في قلبه حياة إلا ويعلم من نفسه أشياء يحب أن يسترها الله تعالى. فكل بني آدم خطاء. فتش في نفسك، إن لم تكن تسر معصية الآن، فقد عصيت الله في ماضيك ولا بد. وكان من الممكن أن يطلع عباد الله على ذلك فتهتز صورتك في عيونهم بعد أن أحبوك، ولكن الله سترك.

بل قد تكون تساهلت في تناقل ما ينسب إلى أخيك المسلم من نقيصة مفترات عليه، وتقول: "العهدة على الراوي"، فتسببت في أن يشيع عنه ما ليس فيه، مع أن الله سترك على ما فيك. يمكن أن يفرح بها خصومك. إن لم تكن معصية بالجوارح، فأفكار تجول في الخاطر أو خلاجات في النفس، إن اطلع عليها الناس فإنها تخدش صورتك، لكن الله سترك.

أعود فأقول: يعرف هذا من نفسه كل من في قلبه حياة. أما من مات قلبه فإنه يستمرئ المنكر وتعجبه نفسه، ولا يعظم حق ربه فيستصغر معصيته ويستكثر طاعته. فإن كنت لا ترى ستر الله عليك، فهذا دلالة خطيرة أن قلبك قد قسى وما عاد يرى فضل الله بالستر عليك.

دلالة أن المعصية هانت عليك لهوان حق الله عندك. ومما هونها أن الله لم يفضحك بها. فلو أطلع الناس عليها ورأيت نفرتهم عنك وسقوطك من عينهم، حينئذ لندمت عليها وأعظمت في عينك. لكن لم يطلع عليها إلا الله، وهان عندك حق الله فهانت عليك معصيتك.

التحذير من كشف الستر

نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كل واحد منا يمكن أن يكشف ستره من حيث لم يحتسب، فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".

فكر وتذكر وتدبر كم مرة سترك الله تعالى لتحب ربك الستير سبحانه.

ستر الله يوم القيامة

عندما تكون في جنازة فتسمع ثناء الناس على الميت. في الحديث الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدني المؤمن - أي يوم القيامة - فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى كتاب حسناته".

تصور معاصم سترها الله في الدنيا فلم يعلم بها إلا الله ثم صاحبها والحفظة من الملائكة، ثم سترها الله بعد وفاة صاحبها، ثم سترها يوم القيامة فدفنت وكأنها ما كانت، ولا يظهر الله إلا محاسن صاحبها فيعطى كتاب حسناته فينطلق ويقول: "هاؤم اقرؤوا كتابيه!". كيف أيها العبد لو لم يسترها الله، أكنت تقول للعالمين: "هاؤم اقرؤوا كتابيه"؟

بل قد تعمل عملاً لله تعالى تسر به لئلا يدخل قلبك الرياء، فيقبله ربك عز وجل، ثم يظهر هذا العمل على يد أعدائك فيزيد محبتك في قلوب الناس ويرفع قدرك عندهم أنك أسررت به، ويعود عدوك خاسئاً مدحوراً.

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودِ لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودِ

فاشكر الله الذي فعل هذا بحسناتك ولم يفعله بمعاصيك وسيئاتك.

شكر الله على الستر

وتذكر قول أبي محمد الأندلسي القحطاني مخاطباً رب العزة عز وجل: أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمانِ أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلانِ وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنانِ ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوانِ لكن سترت معايبي ومثالبي وعفوت عن سقطي وعن طغياني فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني ولك المحامد ربنا حمداً كما يرضيك لا يبلى على الأزمانِ وعلى رسولك أفضل الصلوات منك والتسليم وأكمل الرضوانِ

جزاء الستر على الناس

ختاماً، عرفاناً لله تعالى بالجميل أن سترك، وحتى يستمر ستره عليك، استر على عباد الله. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". وقال في الحديث الذي صححه الألباني: "من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة".

يعني قد ترى من الميت شيئاً يسوؤه لو كان حياً أن يطلع عليه الناس، على ما تسوء خاتمة، مرض، آثار وشم قبل الالتزام، حتى على مستوى قلة عناية بنظافة ملابسه أو جسده. سترك الله فاستر على عباد الله. وكلما دعتك نفسك إلى الحديث عن عيوب الناس فتذكر ستر الله عليك. والسلام عليكم ورحمة الله.