يائس، مستوحش، قلق، خائف
اشتركوا في القناة.
ألا أطلب المساعدة من غيره؟ ثم بعد أيام من هذا الحوار، قال رائد لزياد: آه يا زياد، أنا قلق. من ماذا؟ وقعت في مشكلة من مدة، وبدأ صبري ينفد. أحس بالخوف من المستقبل، أحس بالوحشة بالضياع، أحس بالضعف وأنا أقف وحدي أمام هذه المشكلة.
عجيب أمرك يا رائد! ما العجيب في الأمر؟ ألم تخبرني عن علاقتك بالرجل الثري ذي النفوذ المستعد لحل مشاكلك كلها؟ بلى. هل ما زلت على علاقة به؟ طبعًا، إنه صديقي الحميم وينتظر مني طلبًا.
زياد: اعذرني يا رائد، أنت متناقض. هناك خطأ في كلامك، فإما أن صديقك هذا ضعيف محدود القدرات، أو أنك تدعي صداقته تفاخرًا ولست على علاقة به أصلاً.
تناقض المؤمن
أخي أختي، أليس زياد على حق؟ أليس رائد متناقضًا في دعواه؟ قبل أن تتحامل على رائد انتبه، فأخشى أن نكون مثله. ألسنا نعلن أننا نؤمن بالله وأننا نعبده؟ فنقرأ في صلاتنا في اليوم الواحد: "إياك نعبد" سبع عشرة مرة على الأقل، ونستعين به فنقرأ: "وإياك نستعين" سبع عشرة مرة. ونعتقد أن الله تعالى معنا ونتوكل عليه فنقول: "بسم الله توكلت على الله"، ونردد كثيرًا: "حسبي الله ونعم الوكيل"، ونردد صباح مساء: "رضينا بالله ربًا" أي خالقًا رازقًا مدبرًا لأمورنا.
هل نعني ما نقول؟ هل نحن بالفعل مؤمنون بالله تعالى، مسلمون أنفسنا وأمورنا إليه، عابدون له، مستعينون به، متوكلون عليه، راضون به، مفوضون أمرنا إليه، ملجئون ظهورنا إليه؟ إذن فالله تعالى يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، ويقول: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]، ويقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، ويقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، ويقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ويقول: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
فكيف يسمح أحدنا لنفسه بعد هذا كله أن يحس بالخوف الشديد عند تعرضه لمشكلة؟ كيف يسمح لنفسه أن يحس بالضياع والقلق والوحشة وبأنه وحده أمام المشكلة؟ بل كيف يسمح لنفسه أن يبوح بهذه الأحاسيس أمام الناس؟ أين إيماننا بالله وإسلام أمرنا له واستعانتنا به وتوكلنا عليه واستشعار معيته؟ ألا نستحي من الله بعد ذلك كله أن نشكو الوحدة والضياع والضعف والقلق من المستقبل؟ ألسنا حينئذ متناقضين مع أنفسنا؟
إنه ليس لتناقضنا هذا تفسير إلا واحد من ثلاثة: إما أن ادعاءنا الإيمان والتسليم والتوكل والاستعانة ادعاء باطل، مع أننا نكرره في اليوم عشرات المرات، وحينئذ فيُخشى أن نكون كمن قال الله فيهم: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]. أو أننا توكلنا على الله فخذلنا، واستعنا به فتركنا، وأسلمنا أمرنا إليه فضيعنا. والتفسير الثالث للتناقض: أن هذا الشاكي المدعي التوكل كأنه يقول: لم يكفني الله فهو معي، لكني أحس بالضياع، وكأنه ينسب الضعف إلى ربه تعالى الله عن ذلك. فأي تفسير تختار أيها المتوكل الشاكي؟
عظمة الله وأسماؤه الحسنى
أحبتي في الله، دعونا نعرف عظمة الرب الذي نعبده ونستعين به. إنه العظيم العزيز الجبار المهيمن القوي المتين القاهر المسيطر، وهو على كل شيء قدير، فعيب أن نشكو الضعف وهو معنا. إنه الرحمن الرحيم الودود البر الشكور اللطيف الحليم القريب، فعيب أن نشكو الوحشة وهو معنا. إنه السميع البصير السلام المجيب الدعاء، فعيب أن نشكو القلق وهو معنا. إنه الله، أليس الله بكاف عبده؟ بلى والله.
فما فائدة إيماننا بأسماء الله وصفاته إن كان هذا الإيمان لا يسكن روعنا ويربط على قلوبنا في البلايا والمحن؟ إن الله لا يخذل من توكل عليه، إنما نحن الذين قد لا نحسن التوكل.
الشكوى إلى الله وحده
أخي المبتلى، لا تشكو الله إلى الخلق أرجوك، فليس أرحم بك من الله. لا تشكو الله إلى الخلق أرجوك، لئلا تشمت بنا الأعداء الذين سيقولون حينها: أين معونة ربكم التي زعمتم؟ كما قال أسلافهم فيما حكاه الله عنهم: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49]، فرد الله عليهم: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
كلما أردت أن تشكو الضياع والتوجس من المستقبل واليأس والقنوط ونفاد الصبر، تصور أنه يجلس بجانبك ملحد يسمع ما تقول. ماذا سيقول لك إذا سمع شكواك؟ سيقول: ألم تكن تنصحني أيها المسلم أن أؤمن بوجود رب خلقنا ويرزقنا، وأن أعبده وأستمد العون منه لأشعر بالطمأنينة والسعادة؟ واستمداد القوة من الله والسعادة في الآخرة. فإن لم يجد الناس هذه المعاني عندنا، فما الذي سيغريهم باعتناق الإسلام وهم يرونك كأنك تقول: الأمر عند الله فأنا الآن قلق، الأمر عند الله فأنا الآن قلق! سبحان الله.
قال رجل ممن عاصر شريحًا القاضي: سمعني شريح وأنا أشتكي بعض ما غمني لصديق، فأخذني من يدي وانتحى بي جانبًا وقال: يا ابن أخي، إياك والشكوى لغير الله عز وجل، فإن من تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقًا أو عدوًا. فأما الصديق فتحزنه، وأما العدو فيشمت بك. ثم قال: انظر إلى عيني هذه -وأشار إلى إحدى عينيه- فوالله ما أبصرت بها شخصًا ولا طريقًا منذ خمس عشرة سنة، ولكني ما أخبرت أحدًا بذلك إلا أنت في هذه الساعة. أما سمعت قول العبد الصالح: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]؟ فاجعل الله عز وجل مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك، فإنه أكرم مسؤول وأقرب مدعو. انتهى كلامه.
خاتمة
ختامًا، حصل أن أحزم مع طفلي الصغير وأعاقبه، لكنه مع ذلك كان بعده بلحظات إذا جاءني ضيوف كان يأتي إلي ويضع يديه على ركبتي لأجلسه في حجري وهو ينظر متوجسًا إلى الضيوف، لا يخطر بباله طبعًا أن يذهب عندهم ويشكوني إليهم. كان هذا الموقف يستدر عطفلي وشفقتي على الصغير وأحس معه كم هو ضعيف محتاج إلي.
عندما يبتليك الرحمن سبحانه وتعالى، إلجأ إليه وحده، لا تشك همك وضعفك إلى أحد. انطرح بين يدي الله عز وجل واطلب منه أن يتغمدك بلطفه، وأحسن الظن بربك، وحينها سيحبك الله ويرحمك ويرأف بك ويلطف. إن ربي رحيم ودود. ضمن هذه المعاني في خضم بلاء مررت به، صغت قصيدة كان لها أثر كبير في تثبيتي بفضل الله تعالى. ما هي هذه القصيدة؟ سنسمعها في المرة القادمة بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله.