حب بلا رجعة
في الحلقة الماضية ركزنا على أول أساس من هذه الأسس، وهو تأمل أسماء الله وصفاته. الأساس الثاني الذي سنتأمله ونحاول اكتسابه بإذن الله هو تأمل نعم الله التي أنعم بها علينا في ماضينا وحاضرنا، لنستشعر أننا حتى وإن حرمنا من بعض النعم، فقد تمتعنا بنعم كثيرة أخرى لكننا نسيناها، ولا زال لدينا نعم كثيرة لكننا لا نستشعرها. دعونا اليوم نبدأ بالحلقة الأولى في هذا الموضوع العظيم المرقق للقلوب: نعم الله.
عبارات الوفاء البشري
هناك عبارات جميلة يقولها البشر لبعضهم: "لقد غمرتني بإحسانك"، "لن أنسى لك جميلك ما حييت"، "حبي لك وصل مرحلة لا رجعة، مهما فعلت في المستقبل سأظل أحبك ولن أسمح لشيء أن يزعزع محبتي لك". هذه العبارات تقال تجاه من يحسن إلينا المرة بعد المرة، بغير دافع من مصالح دنيوية، وإنما لأن مودته خالصة ونفسه كريمة وقلبه كبير.
عندما نعيش هذه العبارات ونديرها على أذهاننا، فإننا نحب أنفسنا أيضاً ونحترمها، لأنه يسرنا أن نكون أوفياء ودودين، معترفين بالجميل، رقيقي قلوب مرهفي المشاعر.
أذكر أنني في مرة من المرات ترددت هذه العبارات في كياني تجاه أخي الأكبر بعد إحدى زياراته لي أثناء أسري. أخي الأكبر أحسن إلي طوال حياتي، وعندما أسرت لم يهدأ له بال ولم يذق طعم الراحة، ونذر نفسه وسعى في كل اتجاه حتى يرفع الظلم عني. كان يتفنن في سد فراغي عند أولادي، وكان يأتي لزيارتي مثقلاً بالهموم من صدمة ما رآه أثناء سعيه في قضيتي من ظلم واستخفاف بالكرامة الإنسانية. لكنه مع ذلك كان يتمالك نفسه ويتصنع الابتسامة، ويختار العبارات ويستحضر الأخبار السارة ليحافظ على معنوياتي مرتفعة.
بعد إحدى زياراته لي في الأسر وهو يبتسم بسمة المغادرة ويقول لي: "دير بالك على حالك، إن شاء الله الفرج قريب"، نظرت إليه وهو يفارقني ويذهب، وقلت في نفسي: "سأظل أحبك، لا أستحق منك ذلك كله، سأكون وفياً لك ما حييت". شعرت بالسعادة والرضا عن النفس وأنا أفكر في هذه العبارات.
من الأولى بهذه العبارات؟
ثم فجأة ألقي في روعي سؤال مهم: من الأولى بعبارات كهذه؟ من الأولى بعبارات كهذه؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟
ألم يغمرنا بإحسانه؟ ألم يثبت لنا عنايته بنا وتكريمه لنا أن جعلنا مسلمين وخاطبنا بكلامه ودلنا على ذاته وعرفنا بصفاته، واكتنفنا بعطاياه في كل لحظة؟ وأخبرنا عن جنة أعدها لنا ودلنا على سبيلها، وتحبب إلينا بكلامه ونعمه ومغفرته لزلاتنا وفرحه بتوبتنا؟
كم مرة سألت الله فأعطاك؟ كم مرة وقعت في كرب فنجاك؟ كم سنة ستر قبائحك عن الناس وأظهر لهم محاسنك؟ كم مرة حببك إلى قلب واحد من خلقه؟ كم مرة نجاك من شماتة الأعداء؟ بل حتى البلاء، ألا يسرك إن ارتضاك الله لجواره في دار كرامته فأراد تطهيرك لتليق بهذه المنزلة؟ فبدلاً من تطهيرك بالنار، هل سنبقى كلما امتحن الله حبنا له ببلاء دنيوي يتزعزع هذا الحب ويتعكر صفو مودتنا؟ هل سنبقى نفشل في الامتحان؟
حب بلا رجعة
متى ستقول: "يا رب غمرتني بإحسانك، لن أنسى فضلك علي ما حييت. يا رب مهما قدرت علي ومهما ابتليتني سأبقى أحبك، بل سيزيد حبي لك ولن أسمح لشيء أن يعكر صفو محبتي لك"؟
أخي، يا من أنعم الله عليك بالكثير في ماضيك وحاضرك، لكنك لن تتذكر الماضي وتستشعر الحاضر إلا إن كنت وفياً معترفاً بالجميل بعد هذا الإنعام الإلهي. إن لم تصل محبتك لله مرحلة "لا رجعة"، فمتى تصل؟ وأي شيء يوصلها بعد هذا الإنعام الإلهي؟
جميل أن نكون أوفياء، أصحاب حياء، شكورين، ودودين، معترفين بالإحسان والامتنان مع البشر. لكن الأجمل والأولى والأحق أن نكون كذلك مع الله تعالى، خالق البشر، الذي ما أحسن إلينا محسن إلا بتقديره تعالى ولطفه وستره على عيوبنا وتحبيبنا إلى خلقه. فهكذا كن مع الله: حب بلا رجعة.
والسلام عليكم ورحمة الله.