→ عودة إلى فن حسن الظن بالله

الحلقة 6 - مذاقات لا توصف!

٣ مارس ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

مذاقات لا توصف!

اشتركوا في القناة.

فأورثني ذلك سلامة صدر تجاه أقدار الله تعالى. رأيت أولًا أن من حكمة الله تعالى أنه لا يبتلي عباده المؤمنين بقواصم ظهر لا يتحملونها، بل ببلاء يتناسب مع إيمانهم. روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".

ثانيًا، رأيت أنه تعالى يرفق بعباده المؤمنين فيتدرج في ابتلائهم. يبتلي على قدر الإيمان، ثم يصبر فيزيد الصبر الإيمان إلى درجة تؤهله لتحمل ابتلاء أشد، يبتليه الله ذلك البلاء ثم يصبره.

مذاقات لا توصف

رأيت كيف أنه تعالى يمنح عبده المؤمن مذاقات تذاق ولا توصف، تمامًا كطعم الفاكهة ورائحة العطور. لو طلبت منك أن تصف لي طعم البرتقال أو التفاح، أو رائحة الياسمين أو الريحان، هل تستطيع؟ هذه مذاقات تذاق ولا توصف. كذلك فإن عباد الله هؤلاء الذين لا تتصوروا كيف يصبرون، ذاقوا طعم السكينة والأنس بالله، وتعلق القلب به، والرضا بقضائه. هذه المعاني مذاقات تذاق ولا توصف.

ذقت في تجربتي شيئًا منها فعرفت أثرها. لكني في الأسر خلطت ناسًا أحسبهم خيرًا مني وأكثر عيشًا لهذه المعاني مني. كانت بلاياهم شديدة، أشد من بلائي بكثير، ولكن وجوههم مع ذلك كانت تشرق بالرضا والبشر والسكينة. ألسنتهم كانت دائمًا تنطق بحمد الله واستصغار صبرهم ما دام لوجه الله تعالى. بل إن أحدهم قال لي: إني وأنا أدعو الله بالفرج أكاد أحيانًا أسأل الله ألا يستجيب دعائي. تصور! يقول: إني وأنا أدعو الله بالفرج أكاد أحيانًا أسأل الله ألا يستجيب دعائي لما أتذكره من عظيم أجري حينئذ في الدار الآخرة إن أخر الله جزاء الدعاء إلى الآخرة.

كنت أذكر لهذا الأخ أني أحسن الظن بالله تعالى أنه سيجعل لي فرجًا ومخرجًا قريبًا. انظر إلى هذه التعبيرات الجميلة. قال: أريدك أن تستمتع بنعمة البلاء. لم أفهم كلماتي هذه في حينها، لكني بدأت أعيشها بعد فترة من استمرار تجربة الأسر.

لقد رأيت في تجربتي طرفًا من حكمة الله في الابتلاء. بدأ البلاء خفيفًا في البداية وظننت أنه سيزول قريبًا. ظننت أني لن أبقى في الأسر إلا أيامًا قليلة. صبرني الله واشتد عودي فزاد البلاء وطال الأسر. وكلما اشتد بلائي كانت تنزل من الله سكينة تصبر. فالحمد لله الحكيم الرحيم. عرفت كيف يصبر أصحاب البلاءات الطويلة. الله سبحانه وتعالى الحكيم في ابتلائه، قادر سبحانه وتعالى على أن يصبر غيره في ابتلاءاتهم الأشد.

سحرة فرعون

هذه المذاقات العجيبة، مذاقات الأنس بالله والرضا بقضائه وتعلق القلب به، إن لم تذقها فلك أن ترى آثارها. انظر إلى سحرة فرعون السبعين. هذا العدد سبعون ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما. سحرة فرعون ما كان لهم هم عندما جاء فرعون إلا: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}. يعني هم يريدون أن يمارسوا الشعوذة والسحر والدجل والكذب على الناس، ويريدون مقابل ذلك أجرًا من فرعون. كل طموحهم أرضي طيني دنيوي.

يقول لهم فرعون: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. ومع ذلك ماذا رد عليه هؤلاء الذين كانوا بالأمس، بل حتى لحظات قريبة، كانوا سحرة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، طموحهم دنيوي بحت؟ ماذا قالوا له؟ {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}. أناس دنيويون طينيون في لحظة ذاقوا فيها هذه المذاقات التي لا توصف، تحولوا إلى عمالقة تعلقت أرواحهم بالدار الآخرة، لا يرجون من بشر نفعًا ولا يخافون ضررًا.

فإذا رأيت أناسًا صالحين يبتلون بلايا شديدة، وثارت في صدرك تساؤلات عن حكمة الله في ابتلائهم، فقل لنفسي: هل وكلني هؤلاء الصابرون كي أتظلم لله نيابة عنهم؟ هم لم يشكوا ربهم سبحانه وتعالى لأحد، فإن كانوا راضين بقضاء الله فما شأني أنا؟ الله تعالى أرحم بهم مني.

الخلاصة

من حكمة الله تعالى أن يمنح أصحاب البلايا الشديدة مذاقات لا توصف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.