قصة الأب وولديه
اشتركوا في القناة. قال له الشابان تجاهه، فغسان ورامي أصبحا يأتيان كل صباح إلى غرفة أبيهما ويمدان يدهما قائلين: "المصروف يا أبي لو سمحت". بشكل روتيني رتيب يعطيهما المصروف فيشكرانه على عجل وينطلقان من البيت.
أراد أبو غسان أن يذكر ولديه بأن علاقته بهما ليست علاقة مصروف فحسب. فعندما جاء هذه المرة ومدا يدهما لقبض المصروف، قال لهما أبوهما بلهجة تنبض بالحب الصادق: "أحبكما يا ولدي، أحبكما يا ولدي". كان أبو غسان يتمنى أن تلتقي عيناه بعيني ولديه وهو يقول هذه الكلمات، فيقرأ فيهما البهجة والاعتزاز بما قال لهما. كان يريد أي مؤشر على أن ولديه يحبانه لذاته لا للمصروف الذي يأخذانه منه.
رد فعل الولدين
لكن تجاوب الولدين كان مخيباً للآمال. هزا رأسهما قائلين في شرود ذهن: "ونحن كذلك"، أي نحن كذلك نحبك. وبقيا مادين يدهما وأنظارهما مثبتة على جيب والدهما، ففيه المصروف. صدم الأب وانقلبت ابتسامته ذبولاً، وأخرج يده من جيبه دون المحفظة.
انتبه الولدان لما حصل وأدركا عدم لباقتهما في التجاوب مع كلمات أبيهما الرقيقة. قبضا يدهما وأنزلاها وحاولا تدارك الموقف. أما رامي فقال: "أبي، أنا آسف. طبعاً أنا أحبك، أنت أبي الذي رعيتني وأنفقت عليّ ولا غنى لي عنك". كان رامي يقول هذه الكلمات وذهنه في المصروف، يتوقع أن يمد والده يده في جيبه ويعطيه المصروف، لكن الأب لم يفعل وبقي صامتاً.
توبة غسان الصادقة
أما غسان، فكان يحب أباه بالفعل، لكن قلبه كان قد ذهل عن هذه المحبة بتعلقه بالمصروف في الفترة الماضية. ملامح الأب الذابلة العابسة أيقظت مشاعر غسان، فأدرك كم كان مقصراً في حق أبيه في الفترة الأخيرة. أدرك أنه كان أنانياً لا يفكر كثيراً في شعور أبيه ولا يجتهد في إدخال البهجة إلى قلبه.
اغرورقت عينا غسان بدموع حارة وقال بصوت متهدج: "آسف يا أبي الحبيب، لقد غفلت عنك كثيراً، سامحني أرجوك. الدنيا كلها لا تساوي ابتسامة منك". قال هذه الكلمات وهو يقلب عينيه الدامعتين في وجه أبيه باحثاً عن أي بادرة انفراج لعبوسه، لكن الأب بقي عابساً صامتاً وخرج من غرفته وجلس على الأريكة لا يتكلم.
لحقه غسان وتحرك حول أبيه كالقط، فتارة يقبل يديه وتارة يقبل رأسه، وتارة يمسك بيدي أبيه بين يديه ودموعه منهمرة على خده وهو يقول: "سامحني يا أبي أرجوك، أنا أحبك، تعلم أني أحبك".
الأب يستجيب
تنازعت الأب مشاعر متباينة، فهو لا يحب رؤية ولده حزيناً بهذا الشكل، لكنه ما زال مصدوماً من جفاء ولديه في أول الأمر. كما أنه يريد مزيداً من الضمانات لصدق محبة غسان. انسحب الأب وعاد إلى غرفته بصمت وأغلق الباب وراءه.
أحس غسان بالضياع، فلحق والده وقال من وراء الباب منادياً: "أبي، أرجوك لا أطيق الحياة دون رضاك، لا أستطيع العيش وأراك غضباناً حزيناً. لقد أخطأت يا أبي لكني أحبك، أحبك يا أبي، أرجوك سامحني، أرجوك ابتسم في وجهي، أرجوك ضمني إلى صدرك". وتعالى صوت بكاء غسان كطفل فزع تركته أمه في صحراء وتخلت عنه.
حينئذ انهار سد الجفاء في قلب الأب أمام دموع غسان. فتح الباب ورفع ولده الذي كان جاثياً على ركبتيه وضمه إلى صدره وجعل يمسح دموعه ويقبل رأسه. قال غسان: "دعنا الآن من المصروف، أريدك أنت يا أبي الحبيب، ما دمت راضياً عني فالدنيا كلها تهون".
الله يتودد إلينا بالبلاء
ولله المثل الأعلى. قد يعلم الله تعالى من عباده جفافاً في محبتهم له وتعلقاً بنعم الدنيا التي يمنحهم إياها. هو تعالى يتودد إلى عباده ويحب منهم أن يبادلوه الود وداً. فإذا رأى منهم جفاءً وغفلة، قطع عنهم نعمة من النعم ليهز كيانهم وينقذهم من غفلتهم، لعلهم ينتبهون إلى حقيقة أن النعمة ألهتهم عن المنعم.
فقير المشاعر وصاحب الحس المرهف
أما فقير المشاعر كرامي، فلا يفهم هذه الأبعاد. لا يزال في غفلته، قد سيطر المصروف على تفكيره، فيستغفر الله ويجتهد في الطاعات ليسترجع المصروف. ليست مصيبته في عتاب الله له، إنما مصيبته قطع المصروف. بلادة في التفكير، قصور في النظرة، فقر في المشاعر، أنانية في التعامل. لا يفكر إلا فيما يأخذه ولا يرى من واجبه أن يعطي.
وأما صاحب الحس المرهف والقلب الحي كغسان، فإن قطع المصروف يزيل عن عينيه الغشاوة ليبصر المصيبة الحقيقية: أنه قصر في حق الله تعالى وغفل عنه. فكل ما يسيطر على كيانه هو كيف يسترضي الله تعالى ويبرهن له على أنه يبادله الود وداً. أما عودة المصروف فتصبح قضية ثانوية، لأنه قد يعيش ولو بصعوبة دون المصروف، لكنه لا يطيق لحظة من الضياع الذي سيعانيه إذا فقد معية الله تعالى أو أحس بأن الله تعالى لا يحبه.
البلاء كرسالة حب
في النهاية قد يعود المصروف للاثنين: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20]. لكن الأول فقير الشعور سيخرج من البلاء كما دخل فيه، لم يستفد شيئاً ما دام يرى عودة المصروف غاية الآمال ومنتهى الطموحات. وأما الثاني فإن المحنة كانت أكبر منحة له، وقد عرف عنه أنه مستجاب الدعوة، ومع ذلك لا يدعو الله تعالى بكشف البلاء.
لا يدعو الله بكشف البلاء! ستقول: هذه المرويات فيها مبالغة. ربما نعم، ولكننا إذا فهمنا المعاني المذكورة في هذه الحلقة فلا نستبعد أن يحصل ذلك. فلعل هذا المبتلى فهم البلاء على أنه تذكرة من الله تعالى بأنك قد غفلت عن خالقك، ويريد ربك منك أن تبادله التودد تودداً. فيسيطر هذا التفكير على كيان المؤمن ويعيد حساباته ليكتشف مواطن الغفلة وينشط معاني المحبة ويتفنن في البرهنة لربه على صدق محبته له سبحانه وتعالى.
مثل هذا التفكير لا يبعد أن يشغل المؤمن عن الدعاء بكشف البلاء، بل قد يرى إعطاء الأولوية للدعاء بكشف البلاء سوء أدب، لأنه يدل على عدم اعتناء بالسبب الذي من أجله ابتلي، التذكرة بمبادلة التودد تودداً. كأنه يقول لله: "يا ربي، خلاص فهمت الدرس، أنا الآن سأتودد، سأراعي ذلك في المستقبل، لكن أبعد عني هذا البلاء، أرد إلي النعم". هذا ليس أدباً مع الله عز وجل.
المؤمن قد لا يعطي الأولوية للدعاء بكشف البلاء لأنه يعلم أن استمراره مرحلياً أدعى لرده إلى دائرة محبة الله عز وجل. فهو ينشغل بإعمار قلبه بمعاني المحبة من جديد ويكل أمر توقيت رفع البلاء إلى الله عز وجل ويثق بحكمته تعالى في ذلك ورحمته.
خلاصة
انظر إلى الابتلاء بإيجابية، لا على أنه عقوبة محضة، بل هو بشكل من الأشكال تودد من الله. إذن لا تستغرب عنوان هذه الحلقة: "الله يتودد إلينا بالبلاء". رأى منا غفلة عنه وجفافاً في عاطفتنا تجاهه، فابتلى لنراجع فنستحي فنحب ونتودد لله رب العالمين.
خلاصة الحلقة: الله يتودد إلينا بالبلاء، فلا تكن فقير المشاعر تجاه الله، بل افهم الرسالة وبادل الله الود. والسلام عليكم ورحمة الله.
ترجمة: نانسي قنقر.
I have already provided the full formatted transcript in the previous response. There is no content left to continue.