السلام عليكم ورحمة الله،
مقدمة: إشكالية محبة غير المسلمين
نسمع أحياناً عبارات مثل: "لا يجوز للمسلم أن يحب الكافر"، و"إذا أحببت الكافر فإن ذلك يطعن في إيمانك، فلو كنت مؤمناً حقاً لما أحببت من يكفر بالله ورسوله". فتجد من يرد قائلاً: "لكن كيف سمح الإسلام بالزواج من الكتابية مع أنها تكفر بالقرآن وبالنبي عليه الصلاة والسلام؟ هل يعقل أن أتزوج امرأة وأنا أكرهها؟ هل كان الصحابة يكرهون من بقي على الكفر من آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم؟ هل إذا أحببت مديري غير المسلم الذي يُحسن إلي، ويعمل أعمالاً خيرية، فإن ذلك يطعن في إيماني؟"
"كلامكم غير مقنع، وأنتم تكلفونني بما لا أستطيع، بل سأتعامل مع كل إنسان بغض النظر عن دينه، وسأحبه إذا كان خلوقاً، وأكرهه إذا كان شريراً بغض النظر عن دينه، دينه بينه وبين الله، ولا علاقة لي به، وسأحب زميلي اللاديني وزوجتي الكتابيَّة، وأهنِّئها في عيدها الديني، وأشاركها فيه."
ما الذي حصل في هذا الحوار؟ إطلاقات غير مفصلة أدَّت إلى ردَّة فعلٍ غير متوازنة. فنستعين بالله اليوم على فك الخيوط عن بعضها وتحقيق التوازن.
إذا أردت جوابًا مختصرًا عن سؤال: هل يجوز للمسلم أن يحب الكافر؟ فنقول: لا يُحاسبك الإسلام على الحب الفطري للكافر أو الحب الطبعي، يعني بطبيعة النفوس، إذا وجد في الكافر سبب محبة كالقرابة أو الزواج أو إزدائه معروفاً إليك. لكن المطلوب منك أن لا تقدم هذه المحبة على محبة الله، وذلك بأن تحقق ما يلي:
أولاً: أن تحول محبتك لهذا الكافر إلى دعوة له إلى الإسلام لينجو من النار. ثانياً: إذا أصر على كفره، فإن حبك لله سيجعلك تبغض هذا الكافر من ناحية كفره. وقد يجتمع في الشخص الواحد أسباب المحبة وأسباب البغض، فتحبه من جهة وتبغضه من جهة أخرى، وتبقى تحب الهداية له. ثالثاً: أن تطيع الله في معاملته، فإذا كان مسالماً لا يحارب دينك، تبره وتؤدي حقه مع إظهار البغض لكفره. وإذا كان محارباً لدينك، فلا تُظهر له إلا العداوة والبغضاء مع الرُّخصة في اتِّقاء شره. رابعاً: ألا يدفعك حبُّ الكافر إلى معصية الله، مثل مُجاملته في دينه. خامساً: ألا تستجلب لقلبك محبَّةً للكافر تعيقك عن الفروض التي ذكرناها.
الإسلام كنظام حياة شامل
بدايةً، الذي لا يفهم معنى الإسلام قد يقول: ما علاقة الإسلام بأن أحبَّ الآخرين أو أكرههم؟ فنقول: الإسلام نظام حياة، يُسلم فيه الإنسان لله في علاقته مع الله ومع نفسه ومع الآخرين، فيضبط شعوره تجاه الآخرين ونظرته لهم وتعامله معهم، موقناً بأن أمر الله فيه الحق والعدل والحكمة والرحمة مع جميع خلقه، فيستحيل أن يكلفنا بما يخرج عن وسعنا أو يعارض فطرتنا سواء على مستوى المشاعر أو السلوك.
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]. إذا رفضنا أحكام الإسلام في جزء من حياتنا، كموضوع الشعور تجاه الآخر والتعامل معه، ورأينا أن الإسلام لا دخل له بهذا الجانب، فهذا يعني أننا لم ندخل في الإسلام. فالله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 208]، يعني: ادخلوا في الإسلام بكافة جزئياته.
قال شيخ المفسرين الطبري: إن الآية فيها الأمر للمؤمن بالعمل بجميع شرائع الإسلام وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وقد قال الله تعالى لمن مارسوا الانتقائية مع دين الله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85].
لكنه يحاسبنا على ضبط الأفعال المتعلقة بهذه المشاعر. كمقدمة، نقول: ما الفرق بين المشاعر الفطرية أو الطبعية (يعني بطبيعة النفوس) والمشاعر الدينية؟
في المشاعر الفطرية أو الطبعية: أنت تحب أباك وأمك وإخوتك وزوجتك، تحب من يحسن إليك وتكره من يسيء إليك. في المشاعر الدينية: أنت تحب بسبب الدين، فتحب رسول الله الذي دلك على الله تعالى، وتحب إخوانك المسلمين تبعاً لمحبتك لله ورسوله، وتحب أوامر الله الدينية حتى وإن نفرت من بعضها من جهة مشقتها أو منافرتها لما اعتدت عليه، لكنك تُحِبُّها من جهة أنها من أمر الحكيم العليم الرحيم، ومن جهة تحقيقها لمصالح الخلق في الدنيا والآخرة.
في المشاعر الدينية أنت تكره من يكفر بالله ورسوله بعد ما بان له الحق، وتكره المعصية وإن كانت تحقق شهوةً محبَّبةً إليك بطبع نفسك، لكنك تكرهها كراهيةً دينيةً من جهة أن الله يُبغضها، ومن جهة أنها تؤذيك في دنياك وآخرتك.
الجمع بين دواعي المحبة والبغض
هل يمكن أن تجتمع دواعي المحبة والبغض الطبعية والدينية في الشيء الواحد أو الشخص الواحد؟ طبعاً، وهنا يقع الاختبار، لأنه إذا كانت كل المأمورات مما تحبه النفس وكل المحرمات مما تكرهه النفس، فأين الاختبار؟
قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216]. القتال يكرهه الإنسان من جهة مشقته وما قد ينتج عنه من جروح وفقد أعضاء وغيرها، لكنه يُحبُّه من جهة أمر الله به، ولما يُفضي إليه من العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة.
ثم يُرسِل الله تعالى قاعدةً عظيمةً في تتمّة الآية: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]. قد تكره الشيء طَبَعيًّا لَكِنَّكَ تُحِبُّهُ شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ، وقد تُحِبُّ الشيء طَبَعيًّا لَكِنْ تَكْرَهُهُ شَرْعِيًّا لَأَنَّهُ شَرٌّ لَكَ. وهذا جزءٌ من الإسلام، من التسليم التام لله وحكمته ورحمته وعلمه. الدواء قد يكره من جهة طعمه ويحب من جهة نفعه، وكذلك الناس تجتمع في الواحد منهم أسباب المحبة والكراهية.
المحبة الدينية والمحبة الطبيعية للكافر
ما الذي قد يجعلك تحب كافراً أو كافرة؟ أما المحبة الدينية فلا شك في تعارضها مع الإيمان. يعني أن تحب كافراً لدينه الباطل. هذه المحبة دليل على خلو القلب من الإيمان ودليل على أنه يرضى بالكفر. وهو ما يعمل أعداء الإسلام وأذنابهم من المنافقين عليه بمحاولة تحبيب طقوس الشرك وشعائره إلى المسلمين.
طيب، إذا لم تحب كافراً لدينه، فما الذي قد يجعلك تحبه؟ أسباب عديدة: القرابة، الزواج، الإحسان، حسن الخلق في جانب ما. بدايةً، هذه المحبة الطبيعية هي من الهوى، فلا تقع داخل دائرة التكليف بحد ذاتها، يعني لست محاسباً عليها، لكنك محاسبٌ على أن تضبِّطها بالمحبة الدينية لله ورسوله.
نحن تعوَّدنا أن نذمَّ الهوى، لكن الصحيح أن الهوى بذاته انفعالٌ في النفس لا يُذَمْ ولا يُمدح. وإنما المذموم هو اتباعُ الهوى بغير هدى. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها (يعني بحسب المحبة الطبعية)، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. فإن أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها. ونفس الهوى وهو الحب والبغض الذي في النفس لا يلام عليه. لا يُلام عليه، فإنَّ ذلك قد لا يُملك، وإنَّما يُلام على اتِّباعِهِ". ثم ذكر ابن تيمية الآيات التي تذُمُّ اتِّباع الهوى تحديداً لا الهوى ذاته.
ما معنى هذا الكلام؟ يعني من الناس من يكون محرِّكه في حياته كلِّها الحب والبغض الطَّبعي، ولا يلتفت إلى كون الشيء أو الشَّخص محبوبًا من الله ورسوله، أو مبغوضًا من الله ورسوله. فمثل هذا لا يلام على كونه قد أحبَّ الأشياء أو الأشخاص أو أبغضهم طبعيًا، لكن يلام أنه لم يضبط ذلك بالمحبة الدينية والبغض الديني، فانعكس ذلك على سلوكه بما يخالف أمر الله ورسوله.
أيضًا في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قال ابن تيمية كلامًا شبيهًا، قال: "ومجرد الحب والبغض هوى، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله، ولهذا قال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]".
إذن إخواني، هذه أول خطوة، لا يصح أن يقال أنك إذا وجدت أي محبة لأي كافر في قلبك فإن هذا يطعن في إيمانك، لكن المهم أن تضبط هذه المحبة بضابط الشرع.
أمثلة من السيرة النبوية والصحابة
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في وفاة أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]. وعددٌ من المفسّرين قال: "مَنْ أحْبَبْتَ" (هدايته)، لكن قال عددٌ من المفسّرين: "مَنْ أحْبَبْتَهُ" وهو الظاهر من الآية، والله أعلم. إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ أبى طالب.
أيضاً أباح الله تعالى الزّواج من الكتابيات. طبعاً لن نفصل الآن في جواز أو عدم جواز الزواج من الكتابيات في أوضاعنا الحالية وشروط ذلك. لكن محلّ الشاهد أن الزواج من حيث الأصل يُحدث المودّة. قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]. ولا يتصور أن يتزوج رجل امرأة وهو يكرهها من كل وجه. بالإضافة إلى أن الزواج من الكتابيّة سينتج عنه أن تكون أمًا لمسلمين وجدَّة وخالة وحمات لمسلمين، ولا يتصور أن يكرهها هؤلاء المسلمون من كل وجه.
ديننا يا كرام لا يأمرنا أن نكره الكافرة كراهية مطلقة مطبقة حتى وإن أحسن إلينا، ولا أن نغالب فطرتنا في محبة الزوجة المشركة أو الأب المشرك أو الأم المشركة، فهذا تكليف بما لا يطاق، خاصة مع المسلم الذي رباه دينه على الوفاء والرحمة وتلمس جوانب الخير في الناس. قال الله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]. أمر الله الشرعي ينسجم تماماً مع أمره القدري، خلقنا بنوازع محبة من أحسن إلينا، فلا يأمرنا بمعارضة ذلك، لكن المطلوب ضبط ذلك بالمحبة في الله والبغض في الله.
عدم القدرة على الجمع بين المحبة والبغض سببه فقدان التوازن النفسي، بينما السوية النفسية تساعدك على تصور ذلك، والإسلام شعاره التوازن. أخرج البخاريُّ في "الأدب المفرد" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: "لا يكن حبُّك كلفًا ولا بغضُك تلفًا".
ضوابط المحبة الطبيعية للكافر
طيب إذا وجدت في نفسك محبة طبعية لكافر أو كافرة، ما المطلوب منك تجاه هذه المحبة؟ مطلوب منك أن تضبطها بمحبة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله، وذلك بأمور:
أولاً: أن تستحضر ما عندك من محبة لهم فتحولها إلى شيء عملي نافع لهم بالإشفاق والحرص عليهم ورحمتهم بدعوتهم بالقدوة العملية وببيان الحق لهم والدعاء لهم بالهداية. وهنا يعلق كثير من المسلمين ممن عندهم سلبية شديدة للأسف يقول لك: أنا أحب فلاناً الكافر. طيب وهل تبغضه من جانب كفره؟ لا لا لا، لأنه ربما لا يعرف حقيقة الإسلام وجماله، ربما نفر من سلوك بعض المسلمين، ربما وربما ويبدأ يعطي المعاذير. طيب هل دعوته إلى الإسلام؟ لا. آها، إذن يعصي الله مرتين، فلا يطيع الله بدعوتهم إلى الإسلام، ثم لا يطيع الله في البراءة منهم، بل وقد يقول بدخولهم الجنة إذا حسنت أخلاقهم، بينما لو قام بما عليه من دعوتهم، ثم رأى منهم عناداً وإصراراً على تكذيب الله ورسوله، لكان بغضه لهم في الله تحصيل حاصل لا يحتاج إلى أن يصطنعه. هذا إن كان في قلبه محبة حقيقية لله ورسوله.
أذكر في أمريكا أني كنت أتعامل بكثرة مع أناس مشركين ولا دينيين يعاملونني بلطف واحترام. فكنت أدعوهم إلى الله تعالى وأرى من بعضهم صدوداً عن الله تعالى وآياته فأبغضهم من هذا الجانب وأدرك حكمة الله ورحمته إذ يعاقب من صد وكفر، فما كنت أعيش الصراع النفسي الذي يعيشه البعض وهو يقول لنفسه: هؤلاء اللطيفون في المعاملة كفار وفي النار! لأنني كنت والحمد لله أتخلص من هذا التعارض بدعوتهم ورؤية نتائج هذه الدعوة.
ولي صديقان تكرر منهما مراسلة من يلتمسان فيه خيراً من المشاهير، فيدعوانه إلى الإسلام، راسل مثلًا كليتون كريستنسن ورسل براند، وستيف جوبس، ورايان موران، وهوارثاي. لم يتوقف عند الانبهار بإنجازات وإسهامات هؤلاء، ولم يتحول إعجابهم بهؤلاء إلى الدفاع عنهم وعن كفرهم، بل حولوه إلى دعوةٍ لهم وحبِّ خيرٍ لهم. أنت إذا كنت فخورًا بدينك، معتزًا به، فإنك تدعو الآخرين إليه.
انظر إلى هذه النماذج الجميلة من الحرص على هداية الأقرباء: إبراهيم عليه السلام: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم: 43-45]. محمد صلى الله عليه وسلم يدخل على عمه أبي طالب عند وفاته فيقول له: "أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله".
انظر إلى حرص أبي هريرة رضي الله عنه على أمه المشركة في الحديث الذي رواه مسلم قال أبو هريرة: "كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادعوا الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدي أم أبي هريرة. قال: فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح".
فأهم شيء أخي، أهم شيء ألا تبقى في حالة السلبية والمعاصي المتراكبة بأن تعصي بترك الدعوة، ثم تعصي بترك البغض الشرعي، ثم تعصي بالشك في عدالة مصير الكافر إلى النار.
طيب، إذا أسلم الكافر الذي دعوته، الحمد لله، هذا غاية ما نرجو، فتجتمع المحبة الطبعية والدينية، ونحبه في الله ولله. وإذا لم يسلم، تطيع الله في معاملته. قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]. فنعامله بالبر والعدل قربة إلى الله مع أننا نبغضه لكفره. فأطيعوا الله قلباً وقالباً في قلبي وفي أعمالي، وأؤدي حقوق الكافر التي أمر بها الإسلام، أباً كان أو أماً أو قريباً أو جاراً أو زوجة أو زميلاً أو مرؤوساً في العمل أو غيره مما نتعامل معهم. وقد ذكرنا أشكال من جماليات الإسلام في التعامل مع الكفار المسالمين.
وفي الوقت ذاته يظهر مني لهذا الكافر بغض الكفر الذي هو عليه. فلو أن مسلماً كان مصرًا على كبيرة من الكبائر لأظهرت له البغض من هذه الناحية، فما بالك بمن يصر على أكبر الكبائر ومحبط الأعمال ألا وهو الشرك؟ لو أن مسلماً صدر منه ظلم شديد لأبغضته من جهة ظلمه، فما بالك بأبشع أشكال الظلم ألا وهو الشرك؟ ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]. ما بالك بما قال الله فيه: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ [مريم: 88-91]. فهذا البغض للمشرك من جهة شركه هو تحصيل حاصل لمحبتي لله وغيرتي على حرماته.
تعظيم الله ومحبته والانشغال بما أمر الله به من دعوة الكفار إلى الإسلام والتخلص من العقد النفسية الناتجة عن تشويه الإسلام سيجعل مشاعرك تجاه الكافر تحصيل حاصل ومنسجمة مع نفسك وخيريتها ولا تستحي منها.
التعامل مع الكافر المحارب
طيب وإذا كان الكافر محارباً لي في الدين؟ في هذه الحالة ليس له إلا العداوة والبغضاء، فأنا مسلم عزيز بالله، والعزيز سبحانه لا يرضى لعباده الأعزاء أن يذلوا لمن يحاربهم على دينهم الحق.
لكن ماذا إذا كان في قلبي شيء من المحبة لهذا الكافر المحارب لقرابة أو صداقة قديمة؟ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ [الممتحنة: 1]. فإظهار المودة لعدوك الذي يحاربك على دينك محرم. وقال تعالى: ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾، المودة هي إظهار المودة، فيحرم الله تعالى عليك إظهار هذه المودة لمن يحاد الله ورسوله. ولاحظ تشابه لفظ "يوادّون" مع "تلقون إليهم بالمودّة"، فالنهي هو عن الأعمال الظاهرة الدالة على مودّة.
ممكن المسلم من عظم محبّته لله ورسوله يُقتلع من قلبه أي محبّة ولو فطرية أو طبعية للكافر المحاد، لما يشوف أحد يحارب الله ورسوله لا يعود يطيقه مهما كان قريباً ومهما كانت دواعي المحبّة وحتى لو أحسن إليك شخصياً. وإذا بقيت في النفس محبة لهذا المحاد فمطلوب منك ألا تظهرها أبداً تعظيماً وحباً لله ورسوله.
من حاد الله ورسوله ليس شرطاً أن يكون الذي يحارب دينك بالسلاح فحسب، بل ويدخل في ذلك من يستهزئ بالإسلام أو يطعن في شرائعه وأحكامه كبعض الكتاب والممثلين واليوتيوبرز والمشاهير، ويدخل فيه من يستخدم علمه لتكفير الناس من دعاة الإلحاد ومن يحاربون الفطرة ويدعون الناس إلى الفاحشة والانحراف الجنسي بأشكاله، يدخل فيه من يسب الرب والدين والعياذ بالله وإن كان محسوباً على المسلمين بالباطل. لا يجوز أبداً أن تظهر أي مودة لهؤلاء بدعوى أن أحدهم خفيف الدم، كوميدي، مسلّي، لهم مواقف سياسية مشرفة، ينتقد الحكام المفسدين، يناصر قضايانا، يسجل أهدافاً رائعة في المرمى، اخترع أجهزة نافعة. فهذا كله لا يبرر إظهار أي مودة أو احترام للكافر المحاد لله ورسوله.
قال الله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22]. لا يمكن اجتماع الإيمان بالله مع إظهار مودة لهؤلاء. ما جزاء من تطهر من هذه الموادة المحرمة؟ تتابع الآية: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].
فنقول، بل الخبر عن حبِّ الله لعملٍ أو شيء يلزم منه الأمر بحبِّه. والخبر عن بغض الله لشيء يلزم منه الأمر ببغضه. قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أحبُّ فلاناً فأحبَّه، فيحبُّه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
فالحب والبغض هنا شرعيّان، يعني من أجل دين الشخص. وكونهما شرعيّين، يقضي بالأمر بحب ما أحبّه الله سبحانه، وبغض ما أبغضه الله سبحانه. ولاحظ كذلك التلازم بين حبّ الله وحبّ المؤمنين في قول نبيّنا صلى الله عليه وسلم: "من أحبّ الأنصار أحبّه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله". فهذا النوع من الصيغ يدلّ على التلازم بين المحبّتين.
قال الله تعالى في الوفد من نصارى نجران: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32]. وقال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [الروم: 45]. فالذي يقول أنَّ الله يحبُّ جميعَ خلقه فهذا يكذِّب صريح القرآن، بل الله يرحم خلقه جميعًا لكن لا يحبُّ كافرهم، ولن تكون أرحم من الله بدعوى محبَّة جميع الخلق.
فإن سألتك بعد هذا هل الله يحبُّ الكافرين أم يبغضهم؟ لا شك أنه يبغضهم، وما داموا مصرين على كفرهم، فأنت كمؤمن تبغض الكافرين من جهة كفرهم، ولا يتعارض في حالة الكافر المسالم أن يجتمع البغض الديني مع المعاملة الحسنة والمحبة الطبعية.
قال ابن الوزير في "إيثار الحق على الخلق": "وأما المخالفة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق، وإكرام الضيف ونحو ذلك، فيستحبُّ بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدَةً كالذِلَّة، فلا يُبذلُ للعدو في حال الحرب".
والذين يقولون: نكره الكافر، نكره كفر الكافر، لا الكافر ذاته، نقول لهم: ما دمتم مارستم التجريد، ففصلتم الصفة عن الموصوف بها، فأولى بكم أن تقولوا: نحبُّ إحسان الكافر الفلاني أو خلقه، إذا كان محسناً أو خلوقاً في جانب، ولا نحبه هو ذاته، فكفره أعظم من إحسانه.
ثمرات التوازن في المشاعر
الذي يقول بعد هذا كله: لا، أنا لا أريد أن أكره أحداً، نقول له: إصرارك هذا سببه أنك تنقاد وراء الأهواء، ولا تنضبط بالمحبة والبغض الديني الإيماني، فدينك مقزم في نفسك لا ينعكس على شعورك وسلوكك. ولو رأيت من يعذب ويقتل ويظلم، لأبغضته. أما حق الله فهيّن عليك، مع أنك تسمع: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
كراهية الكافر مادام مُصرًّا على كفره ليست لأن الإسلام دين كراهية، بل لأنه دين محبة حقيقية لله ولرسوله، وإلا فالناس يتحابون ويتباغضون على معاني دنيويّة ومصالح شخصية، ودعوة الحب المطلق للجميع دعوة كاذبة. هذه المشاعر تجاه الآخرين تحمي كيان المسلمين من الذوبان في المجتمعات وضياع تمايزهم وهويتهم، وتجعل المسلمين مؤثرين لا متأثرين، مصلحين للآخرين لا تابعين لهم في فسادهم وشركهم. ونحن نرى الآن محاولات تذويب المسلمين في الشرك ومحاربة تمايزهم كما في قوانين محاربة الانفصالية في فرنسا وغيرها بمسميات مختلفة في أنحاء العالم.
أنت كمسلم المفترض أن الله ورسوله أحب إليك مما سواهما. حب الله ورسوله هو النظارة التي تنظر بها للدنيا. المسألة ليست عصبية قبلية، بل إذا آمن الكافر أحببناه في الله، وإذا كفر المسلم أبغضناه في الله. فنحن ننظر للناس بما اختاروه لأنفسهم من خيارات وليس لأمور خارجة عن إرادتهم.
الناس تنشب بينهم الأحقاد بينما الإسلام ليس دين أحقاد، بل محبة الخير والهداية للكفار مشروعة حتى للمحاربين منهم. انظر كيف رجى مؤمن سورة ياسين هداية قومه بعد ما قتلوه. قال الله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26-27]. فالمسلم أطيب الناس قلباً وأحرصهم على الخير للناس.
كتب ابن تيمية إلى سرجوان أحد ملوك النصارى وحاشيته من الأمراء والقسيسين والرهبان، ونص الكتاب في مجموع الفتاوى ومما جاء فيه: "ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإن أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه وبذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين".
الخاتمة
ركزنا اليوم يا كرام على مسألة الحب والبغض لأهميتهما في ذاتهما ولأنهما من أكبر المحركات للأعمال التي يحاسب عليها المسلم. ماذا عن الأعمال الظاهرة وكيف وفق الأنبياء والصحابة بين المشاعر الدينية والفطرية والطبعية من جهة وطاعة الله في التعامل مع الكفار من جهة؟ وكيف ضربوا في ذلك أروع الأمثلة؟ هذا ما سنتكلم عنه في الحلقة القادمة بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله.