→ عودة إلى كن عزيزا بإسلامك

الحلقة 13 - وغلبت محبة الله - نماذج رائعة

٢ أغسطس ٢٠٢١
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من حكمة الله تعالى ورحمته أنه لم يأمر المسلم باقتلاع المشاعر الفطرية من قلبه، لكنه هذبها وضبطها بمحبة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله. بينا في الحلقة الماضية أن الإسلام لا يحاسبك على محبة قريب كافر من جهة قرابته، وكذلك الزوجة المشركة، وكذلك حبك الطبعي لكافر أحسن إليك. لكن يطالبك الإسلام بضبط سلوكك بحيث لا تدفعك هذه المحبة إلى معصية الله تعالى.

فهم هذا مهم، لأن بعض الناس إذا خُطِبَ بالأوامر الشرعية في التعامل مع غير المسلمين وتجنب مجاملتهم على حساب الدين، فإنه ينفر. ظناً منه أن الإسلام لا يقدر طيبة قلبه وكونه عشري ويحب الخير للجميع. فنقول: بل الإسلام يقدر هذا كله، لكنه يطلب منك ألا يخل ذلك كله بمحبة الله، بل تغلب محبة الله ورسوله على كل محبة.

أسس التعامل مع المشاعر الفطرية

هناك محبات فاسدة يخلصك الإسلام منها، كمحبة الكافر لكفره أو المسلم العاصي لمعصيته. وهناك محبات لا يُعنى الإسلام باقتلاعها، لكنه يمنعك من أن تجعلها تقودك لما يخالف محبة الله وتعظيمه.

قال ابن تيمية: "الإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه. فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف من الضرر".

وبهذا تفهم قول الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

آية تحذر من أن نعصي الله ورسوله بدافع أي محبة، ولو كانت لأقرب الأقرباء، مسلماً كان أو غير مسلم. فإذا سألت: كيف أعرف إن كنت حققت المقدار الواجب من المحبة لله ورسوله أم لا؟ كيف أعرف في المقابل إن كانت الأشياء المذكورة في الآية أحب إلي من الله ورسوله؟ فالجواب: انظر إن كنت بدافع محبة أي من هذه الأشياء تقصر في طاعة الله تعالى.

تعالوا يا كرام نرى اليوم نماذج من سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصحابة رضي الله عنهم، كيف راعى الإسلام مشاعرهم ولم يقتلعها، لكن ضبطها فاستجابوا وضبطوا محبتهم ومشاعرهم الفطرية بمحبة الله تعالى وطاعته.

نماذج من الأنبياء والصحابة في ضبط المشاعر

نوح عليه السلام وابنه

نوح عليه السلام يدعو ابنه ليركب سفينة النجاة فيعرض. فيتملكه الإشفاق على ولده ويقول: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45]. لم يلمه الله تعالى على إشفاقه على ولده، لكنه نهاه أن يطلب منه أن ينجيه. قال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]. فاستجاب نوح عليه السلام مباشرةً وقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].

إبراهيم عليه السلام وأبيه

إبراهيم عليه السلام حرص على هداية أبيه ووعده أن يستغفر له، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].

النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمه أبي طالب

محمد صلى الله عليه وسلم لم يلمه الله على محبته لعمه أبي طالب الذي كان قد رعاه صغيراً ودافع عنه كبيراً، لكن الله منعه من الاستغفار له ما دام مات مشركاً، ومنع المؤمنين من الاستغفار لمن مات مشركاً من أقربائهم. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه ولم يستغفر لعمه، وكذلك فعل المؤمنون.

رسالة لمن يستغفر للمشركين

هذه الحلقة رسالة للذين يصرون على الاستغفار لموتى المشركين وسؤال الله الرحمة لهم بحجة أن أحدهم مخترع كبير أو عالم صاحب بصمة علمية أو صاحب مشاريع خيرية، بل ويترحمون حتى على كل ملحد شاذ يروج الكفر والشذوذ أو على كاتب طعن في دين الله تعالى. يعني حتى دوافع المحبة الفطرية لا تتوفر فيه، ولكن مع ذلك يترحمون عليه وعليها، ويرجون لهم النجاة من النار من باب الرحمة. ومع ذلك نهي النبي عن الاستغفار له فانتهى، بينما هؤلاء يترحمون ويستغفرون لمن ليس فيه من خصال أبي طالب شيء.

مرثد الغنوي وعناق

مرثد الغنوي رضي الله عنه كان في الجاهلية يحب امرأة اسمها عناق وتحبه، وكانت صديقة له. أسلم مرثد ولم تسلم عناق، وبقي حبها في قلبه. فأتى النبي فقال: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ يعني أتزوجها؟ وأعاد السؤال: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ هل قال له النبي: أصلاً أنت كيف تسمح لنفسك أن تحبها؟ لا، لم يحاسبه النبي على هذا الحب الذي يجده في نفسه، وإنما سكت عليه الصلاة والسلام، ولم يرد على مرثد شيئاً حتى نزلت: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ۖ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها". فأطاع مرثد ربه ولم يتزوجها.

عبد الله بن عبد الله بن أبي

عبد الله ابن أبي ابن سلول كان زعيم المنافقين، وكان له ولد مؤمن هو عبد الله ابن عبد الله ابن أبي. تكلم أبوه المنافق يوماً عن النبي صلى الله عليه وسلم بكلام فيه سوء أدب، فقال لابن المؤمن: يا رسول الله والذي أكرمك لإن شئت لأتيتك برأسه. فقال النبي: "لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته". والحديث حسنه الألباني وله شاهد آخر.

ويروي ابن إسحاق في السيرة عن عاصم ابن عمر بن قتادة وهو من التابعين، أي أن الرواية مرسلة لكنها مما يقبل في السيرة، أن الابن المؤمن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - واسمعوا جيداً يا كرام ما قال ففيه عبرة عظيمة - قال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي - يعني أباه - فيما بلغك عنه يعني من أجل ما قاله. فإن كنت لابد فاعلاً فمرني فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".

عبد الله المؤمن يخشى أن يقتل أحد من المسلمين أباه المنافق فتغلبه عاطفته الفطرية وحميته لأبيه فيقتل المسلم فيفشل في اختبار تغليب محبة الله وطاعة الله على مشاعره الفطرية تجاه والده.

قال الصالحي رحمه الله معلقاً على استئذان عبد الله بن عبد الله بن أبي في قتل أبيه: "وفي هذا العلم العظيم والبرهان النير من أعلام النبوة، فإن العرب كانت أشد خلق الله حمية وتعصباً، فبلغ الإيمان منهم ونور اليقين من قلوبهم إلى أن يرغب الرجل منهم في قتل أبيه وولده تقرباً إلى الله تعالى وتزلفاً إلى رسوله، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس نسباً منهم - أي الأنصار - وما تأخر إسلام قومه وبني عمه وسبق إلى الإيمان به الأباعد إلا لحكمة عظيمة، إذ لو بادر أهله وأقربوه إلى الإيمان به لقيل: قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له. فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم ورهبة من الله تعالى أزالت صفة قد كانت سدكت في نفوسهم - يعني لازمت نفوسهم - أزالت صفة قد كانت سدكت في نفوسهم من أخلاق الجاهلية لا يستطيع إزالتها إلا الذي فطر الفطرة الأولى".

يعني انظر إلى حكمة الله حين قدر ألا يسبق إلى الإيمان بالنبي أقرباؤه، بل سبق إلى الإيمان به أناس بعيدون نسباً منه، حتى أنهم لعظم تشربهم الدين الحق وخشية الله ومحبته ومحبة رسوله يستعدون لقتل أقرب الناس منهم نسباً كآبائهم وأبنائهم حباً في النبي صلى الله عليه وسلم وإيماناً به، مع أنهم كانوا في الجاهلية أشد الناس تعصباً وفخراً بالآباء، فلم تذهب تلك الصفة من نفوسهم إلا لعظم نور الإيمان وتأثيره.

ولو كف عن قتل أبيه أو ذي رحمه أو أخيه من أهل الشرك لم أكره ذلك له بل أحبه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كف أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه وأبا بكر يوم أحد عن قتل ابنه. فكان نبينا صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن قتل آبائهم أو أبنائهم من الكفار المحاربين أو المنافقين المحاربين.

أبو عبيدة بن الجراح وأبوه

نذكر ذلك لأن البعض حين يسمع مثلاً أن أبا عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه قتل أباه يوم بدر يظن أن الإسلام يكلفك أن تنزع من قلبك أي مشاعر فطرية تجاه الأقرباء الكفار. بداية رواية أن أبا عبيدة قتل أباه لم تثبت بسند صحيح، وقد قال البيهقي في السنن الصغير: "وروينا عن أبي عبيدة أنه كان يحيد عن أبيه يوم بدر وهو ينصب له الآلة، فلما كثر قصده أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله عز وجل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة: 22]".

فليست المسألة حسب هذه الرواية أن أبا عبيدة تعمد قتل أبيه تحديداً تقرباً إلى الله بذلك، بل كان يتجنب قتله وأبوه يلاحقه إلى أن اضطر لقتله، مع التذكير بأن الرواية أصلاً ضعيفة ولم يثبت أنه قتل أباه. وهذا زيادة تأكيد على أن الإسلام لا يكلفك أن تنتزع مشاعرك الفطرية انتزاعاً، ولا أن تقوم بما يضادها دون مصلحة شرعية، وإنما يكلفك الإسلام ألا تعصي الله بسببها.

ضبط البغض في الله

من عظمة الإسلام في المقابل يا كرام أنه يضبط حتى البغض في الله بمحبة الله وطاعته، بحيث تضبط سلوكك فتعدل حتى مع الكافرين، ولا تتخذ من كفرهم مبرراً لظلمهم.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]. يعني كونوا قوامين بالحق شهداء بالعدل لأوليائكم وأعدائكم، فكما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له إن كان الحق معه ولو كان كافراً، فإنه يجب العدل فيه. {وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَةُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا فِي حُكْمِكُمْ فِيهِمْ وَتَعَامُلِكُمْ مَعَهُمْ فَتَظْلِمُوهُمْ مِنْ أَجْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ}. ثم يقول تعالى في تتمة الآية: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. ما أعظم ديننا والحمد لله!

نموذج عبد الله بن رواحة

ثمارها بين المسلمين وبينهم. فبعث النبي عبد الله بن رواحة فقدر كمية تمر خيبر ليتم تقسيمها. في رواية أخرى أن اليهود حاولوا رشوة عبد الله بن رواحة ليأخذ للمسلمين كمية أقل من التمر. فقال لهم ابن رواحة: "يا معشر يهود أنتم أبغض الخلق إلي، قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم. قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم وإن أبيتم فلي". فقال اليهود: "بهذا قامت السماوات والأرض، قد أخذناها". يعني أن قسمتك عدل وبالعدل تقوم السماوات والأرض. فضبط عبد الله بن رواحة بغضه لليهود فلم يظلمهم.

قصة بني أبيرق

بن أبيرق كانوا من الأنصار، وكان فيهم رجل يقال له بشير بن أبيرق سرق درعاً من رجل، ثم لما خاف أن يكشف ألقى الدرع في بيت يهودي ليدفع عن نفسه التهمة. وظهرت قرائن لسرقته، فجاء قومه يدافعون عنه، فأنزل الله كشف فعلته وتبرئة اليهودي. وقال تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 112]. البريء في هذه الآية هو اليهودي حسب بعض الروايات، والقرآن برأه من السرقة وكشف أمر هذا المظهر للإسلام من بني أبيرق. فكفر هذا اليهودي وكونه غير بريء من سوء المعتقد والافتراء على الله لا يعني أن يستباح ظلمه، فهذا أمر وذاك أمر ولا يجوز الخلط بينهما.

النبي صلى الله عليه وسلم واليهودي المدين

في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يستلف من يهودي على أن يعطيه جابر تمراً من نخيله عندما يحصده. "امشوا نستنظر لجابر من اليهودي"، يعني تعالوا نطلب من اليهودي أن يعطي جابراً مهلاً. جاء النبي وجعل يكلم اليهودي، واليهودي يرفض ويقول: "أبا القاسم لا أنظره، أبا القاسم لا أنظره"، يعني لن أُمهل جابراً. طاف النبي بالنخل وعاد فكلم اليهودي مرة ثانية وثالثة واليهودي يرفض، ثم سار النبي بين بعض النخل فبارك الله فيها وأثمرت وقطع منها جابر ما وفى به دين اليهودي وزاد.

فهذا يهودي في دولة النبي صلى الله عليه وسلم، ورسول الله ينطلق شخصياً مع أصحابه ليطلب من هذا اليهودي مهلة لجابر، واليهودي يرفض. ورسول الله مع ذلك لا يجبره ولا يقول له: يا ابن قتلة الأنبياء كيف ترفض طلب حاكم الدولة؟ كون هذا اليهودي يهودياً يبغض لفساد دينه لم يمنعه حقه ولا جعل رسول الله يغضب لأنه رفض شفاعته.

ويأتيك بعد هذا من يقول: إقحام الدين في التعاملات يؤدي إلى انتشار الكراهية وإلى الظلم وتهديد أمن المجتمعات واستحالة التعايش. فيسوي المشاعر المنضبطة العادلة الحقة التي يحققها الإسلام مع الأحقاد الإجرامية العمياء التي يقوم بها البوذيون وهم يحرقون مسلمين روهينغا، والهندوس وهم يحرقون ويعذبون مسلمين الهند، وغيرهم من الأمثلة عبر العالم.

هاتي لي ديناً يجعل محبتك وطاعتك لخالقك هي بوصلة حياتك ونظارتك للأمور كلها، فتحب فيه وتبغض فيه، وفي الوقت ذاته يأمرك بالحق والعدل حتى مع من يكفر بالله. من ضبط البغض في الله بطاعة الله تعالى حباً له وتعظيماً ما أمر الله به مع الأبوين الكافرين الذين يضغطان على ابنهما بشتى السبل ليشرك بالله تعالى. هذان الوالدان يستحقان البغض في الله. ومع ذلك يقول الله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. بغضك لهما في الله لا يحل لك أن تسيئ إليهما.

الفرق بين البغض في الله والهوى

لاحظ في هذا كله أنك إذا لم تتبع أمر الله في ضبط البغض في الله فإن بغضك هذا يتحول إلى هوى وأنت تظنه بغضاً في الله. إذا ظلمت كافراً أو عاملته بغير ما أمرك الله به فإن هذا ليس لأنك شديد الاستجابة لأمر الله، بل لأن بغضك هذا تحول إلى هوى. بل قد تبغض كافراً ما في الله وفطرة لأنه آذاك، ثم يسلم هذا الكافر فيأتي الإسلام فيضبط سلوكك معه فيأمرك بولايته ويمنعك من معاداته، وفي الوقت ذاته لا يكلفك الإسلام أن تحبه من كل وجه، بل يراعي الإسلام مشاعرك الفطرية.

وحشي بن حرب

قتل وحشي بن حرب حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ومن أحب الناس إليه، فاستحق أن يبغضه النبي لكفره ولقتله عمه. ثم جاء وحشي بعد حين إلى النبي مسلماً، فقال له النبي: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟". لم يكن النبي مطالباً بأن يتخلص من النفور الفطري من وحشي كونه قتل عمه، لكنه كان مأموراً بقبوله في المسلمين.

أنت في هذا كله تضبط مشاعرك وسلوكك وردود أفعالك تجاه الآخر بما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الآخر هذا جزء من اختبارك. تذكر أن نصوص التعامل مع الكفار والمشركين ليست حلولاً طارئة، بل الله خلقك وخلقهم وابتلاك بهم لتتصرف مع كل منهم بطريقة شرعية. {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. جزء من هذا الاختبار أن تعامل كلاً بما يأمرك الشرع تجاهه لا بمجرد الانفعالات الطبعية. يرى الله عملك هل أنت معظم له حقاً ومحب له حقاً، فتجعل طاعتك ومحبتك له سبحانه هي المقياس في نظرتك وشعورك وتعاملك وتتلمس أمره سبحانه في كل حالة؟

مشاعرك التي تقع منك دون اختيار هوى، والله أرحم من أن يأمرك بالتخلص من هذا الهوى، لكن يأمرك بضبطه وعدم الانسياق وراءه دون هدى. فهو سبحانه ابتلاك بهذا الهوى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات: 40-41].

الخاتمة

ختاماً قد تقول: أنا أجد صعوبة في تغليب المشاعر الدينية بحيث أضبط أفعالي بحسبها، لا أملك أن أتحكم بقلبي فماذا أفعل؟ سنناقش ذلك في الحلقة القادمة بإذن الله ونتكلم فيها عن مواضيع كمصاحبة الكفار وتقليدهم وغيره مما يؤثر على المشاعر تجاههم فتابعونا والسلام عليكم ورحمة الله.