السلام عليكم ورحمة الله.
رأينا في الحلقة الماضية ماذا خسر العالم بانحدار المسلمين. في حلقة اليوم سنرى ما الأسباب التي تجعلنا نشك في أن البشرية بحاجة إلى الإسلام. ثم نرد على الاعتراضات القائلة: لماذا تفترض أن الإسلام هو وحده المؤهل لحل مشاكل البشرية وهو الملاذ الوحيد لها؟ ألسنا نحن المسلمين عندنا مثل ما عند البشرية من التردي الأخلاقي، ونحن بحاجة إلى من ينقذنا من الظلم والقهر اللذين نعيشهما؟
هل البشرية بحاجة إلى الإسلام؟
منطق فرعون وقوم هود وصالح
أولاً، هل البشرية بما وصلته من تقدم بحاجة إلى دين ظهر في الجزيرة العربية؟ إذا كنت لا زلت تتساءل هذا التساؤل، فاعلم أنه منطق فرعون الذي لما جاءه موسى بالهداية قال: {يا قومي أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟}.
كان فرعون متقدمًا صناعيًا وعمرانيًا على موسى، وكان بأمرٍ منه تُبنى الصروح: {يا هامان ابن لي صرحًا}. ولك أن تتصوَّر ما يحتاجه ذلك من مهندسين وعمال وغيرهم. والأهرامات تشهد لعظمة ملكه وملك الفراعنة الآخرين.
قوم نبي الله هود كانوا متقدمين حضاريًا حتى قالوا: {من أشد منا قوة؟}. وقال لهم نبيهم: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون}. يتفننون ببناء الأبنية المحكمة الباهرة في المناطق المرتفعة عند الطرق المشهورة، وفي بناء البروج المشيدة.
وقوم صالح عليه السلام قال لهم نبيهم: {وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين}. قال ابن عباس وغيره: يعني حاذقين، يعني متقنين لنحتها ونقشها.
لكن بعد أن ذكر الله تعالى حال هؤلاء جميعًا وغيرهم قال: {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}. آية كالسيل الذي يجرف هذه الحضارات الخاوية عن وحي ربها.
حال البشرية اليوم
حال البشرية اليوم كحالها أيام فرعون هو وهامان وقارون وطغمة متنفذة استفادوا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وفئة تابعة عاشت في رفاهية، وبقية مستعبدة ذليلة تعاني. وأُناسٌ منبهرون يقولون: {يا ليتَ لنا مثل ما أوتيَ قارون إنه لذو حظٍ عظيم}.
ويضرب فرعون على وتر التفوُّق الحضاري فيتأثَّر المغفَّلون: {فاستخفَّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين}. فسقٌ أن تُقاسَ الأمور باستطالة البنيان وينسى الإنسان ما خُلِق له. فسقٌ إذا ظنَنَّا أنَّه ما دامَ الإنسان وصلَ القمر وعماقَ المحيطات واخترعَ الاختراعات فلا حاجة له بهداية ربانية تصون الإنسان وتكرمه وتصلح دنياه وآخرته.
مقياس المسلم
إذا كان المقياس دنيويًا فقد رأيت ما تعانيه البشرية على الرغم من التقدم التكنولوجي الباهر، ورأيت علو المادة وسفول الإنسان وانحطاط قيمته كما في الحلقة الماضية. لكن مع ذلك أنت مسلم، مقياسك ليس دنيويًا، شعارك ليس "نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"، بل أنت تعبد ربًا قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
تأثير الأعداء على النظرة للإسلام
إذا شككت في حاجة البشرية إلى الإسلام فاسأل نفسك: هل نجح أعدائي في تحقير الإسلام في حسي عبر الأساليب التي ذكرناها؟ هل نجحوا في أن يجعلوني مهزومًا نفسيًا أراهم عظماء وأرى ديني لا شيء؟ بل هل نجحوا في قلب نظرتي ومعاييري فأصبحت مادية صرفة؟
عندما يتوفى أحد العلماء المسلمين الذين خصصوا حياتهم للدعوة إلى الله وتصحيح المفاهيم، تجد منا من يقول في نفسه: "وماذا قدم هذا للبشرية؟". بينما إذا مات في زي ملحد استخدم علمه في الصد عن سبيل الله، فقد يقول قائل في نفسه: "هذا قدَّم للبشرية هذا كله". ونحن قد ناقشنا من قبل أن التفوق العلمي والتكنولوجي له جذور إسلامية، ولا زال للمسلمين المعاصرين إسهامات فيه لا يُسلَّط الضوء عليها.
لماذا الإسلام بالذات؟
ثانيًا، هل تقول في نفسك: لماذا نفترض أن الإسلام بالذات هو القادر على إنقاذ البشرية؟ فأقول لك: ومن غير الإسلام بوحيه المحفوظ؟
ضعف البشرية بدون هداية الله
عندما تضل البشرية بالشكل الذي رأيناه، وتتخبط في القيم والأخلاق والتشريعات، ولا تفلح في تنظيم علاقة الفرد بنفسه ولا علاقته بربه ولا علاقته بالآخرين، وتتيه في هذا الظلام، من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون؟
عندما يوكل الإنسان إلى نفسه فينطبق عليه: "إذا لم يكن من الله عون للفتاة، فأول ما يجني عليه اجتهاده". من غير الله القائل: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}؟ من غير الله القائل: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً}.
لما ترى كيف مالت البشرية ميلاً عظيماً بفعل أتباع الشهوات، فإنك لا ترى غير هداية الله حبلاً ينتشلها من هذا المستنقع، حبلاً من الله الذي شرع ما شرع تخفيفًا على الإنسان الضعيف لألا يضل ولا يشقى.
فشل الأنظمة الوضعية
هل ترى أن الخلاصة في قيم الحرية والمساواة والإنسانوية والاتفاقيات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية جنيف لحقوق الأسرة والأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ رأينا مرارًا كيف أن هذه الشعارات كلها والهيئات كلها حين انقطعت عن الوحي وتركت لأهواء البشر، أصبحت هي مصدر شقاء البشرية وألعوبة بأيدي المتنفذين.
فساد الأديان المحرفة
من غير الإسلام بوحيه المحفوظ ينقذ البشرية؟ رجال الأديان المحرفة الذين يهادنون كل موضة من إلحاد أو شذوذ أو إنسانوية أو علم زائف، فيقولون للملحدين الذين جحدوا الله: "ليس عليكم أن تؤمنوا بالله لتذهبوا إلى الجنة"، ويبشرون الملحدين بالجنة، وأن الرب افتدى الجميع بما فيهم الملحدين بدماء المسيح، ويقولون أن المثليين أبناء الرب ولهم الحق في تكوين أسر. طيب ما احنا عندنا رجال دين زيهم أيضًا؟
الإسلام لا كهنوت فيه
لا سواء، ديننا ليس فيه عوامل لمسايرة الباطل. الإسلام ليس فيه رجال دين معصومون يتحدثون باسم الإله، ولا سلطة دينية مركزية فيها للأشخاص. الإسلام لا كهنوت فيه، لا سلطة لأحد على كتاب الله أن يحذف أو يضيف أو يتأول نصوصًا، ولا هو موكول إلى الأحبار والرهبان. ليس فيه حق تشريع لرجال الدين ليحلوا ويحرموا، ولا نصوص تقول: "كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء". بل في الإسلام علماء محكومون بكتاب الله لا حاكمون: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. فمن أحلَّ من العلماء حرامًا أو حرَّم حلالًا فلا قيمة لقوله ولا كرامة، حتى يبقى الإسلام محصنًا عن التبديل ومسايرة الباطل.
الإسلام لا وساطة فيه بين العبد وربه، وليس فيه نصوصٌ تقول: "من غفرتم خطاياه توفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت"، حتى يبقى الصراط المستقيم واضحًا لا يعبث به بشر. الإسلام وحيه محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، لا باطل فيه ولا تحريف، حتى يستحي منه رجاله ويضطر إلى أن يجامل أهل الباطل تحت شعار "اسكتوا عنا ونسكت عنكم".
الإسلام لا يهادن الباطل
الإسلام لا يهادن الباطل ولا يسير خلف قطار الباطل، فهو الوحيد المؤهل لاعتراض مسار الذين يميلون بالبشرية ميلاً عظيماً. من غير الإسلام بوحيه المحفوظ ينقذ البشرية؟ الشيوعية؟ الرأسمالية؟ ونحن نرى ما فعل كل منهما بالبشر من أفاعيل.
المسلمون الملاذ الأخير
لأجل هذا كله، فنعم الإسلام هو الملاذ الأخير للبشرية، وله رصيد تاريخي تطبيقي من النموذج النبوي والخلافة الراشدة حيث الرقي القيمي والأخلاقي والتعبدي والتشريعي. ولذلك يقول المحلل السياسي الدكتور أكرم حجازي ما معناه: "يستهدف أعداء البشرية عقيدة الإسلام بالتشويه والتشكيك والتخليط في حرب يراد فيها تفكيك المسلم على مستوى الفرد للدول والمجتمعات فقط. لكن الله تعالى يهيئ المسلمين من خلال هذه الأقدار ليستجمع المسلم قواه ويصل بعوده".
فالمسلمون هم الملاذ الأخير للبشرية، وهم المستأمنون على خلق الله في الأرض، وهم المؤهلون بما بين أيديهم من الوحي القائل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. هم المؤهلون لإنقاذ البشرية من الاستعباد لمن يميلون بها ميلاً عظيماً.
لا ننكر أنه في مقابل النماذج السوداوية التي عرضناها عن البشرية، هناك ملامح رحمة وعدل وتقدير للإنسان هنا وهناك. لكن هذه الملامح ليس الفضل فيها لأعداء الإنسانية، بل هي بقايا فطرة فطر الله الناس عليها. والحرب الآن هي على الفطرة لاجتثاث ما تبقى منها. ولا ملاذ للناس من ذلك إلا الإسلام بوحيه المحفوظ.
الرد على الاعتراضات حول واقع المسلمين
قد تقول: لكن كل ما ذكرته من مشاكل البشرية موجود عندنا كمسلمين. فساد أخلاقي، غش وخداع، نظلم ونستعبد كما يظلمون ويستعبدون. أنت هنا تخلط ما بين الإسلام وأصوله المحفوظة من جهة، وواقع المسلمين من جهة أخرى. تأثرت بهؤلاء الذين يستخدمون واقعنا الأليم ليجعلونا نستحي من ديننا ولا نراه منقذًا للبشرية.
ثم من الظلم المبين أن نخلط بيننا نحن المسلمين وبين من تسلط على رقاب الأمة ممن يعمل ذيلاً لأعدائها فيحارب دينها ويذلها لأعداء الله ويمكِّنهم من ثروات المسلمين مقابل كرسيٍ ومشاركةٍ في السرقة. لنأتي بعدها فنقول: نحن نسجن ونحن نستعبد ونحن ننهب. هؤلاء ليسوا منا ولا نحن منهم، ولا يشاركهم إثمهم إلا من أعانهم ووافقهم على جرمهم ونافق لهم. {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون}.
مشروع استنقاذ البشرية يبدأ باستنقاذ أنفسنا
جزءٌ من مشروع استنقاذ البشرية أن نستنقذ أنفسنا من حالة الظلم التي نعيش، وأن تسعى الأمة لتولي أمورها، خيارها لتصبح نموذجًا في الحق والعدل تهتدي به الأمم. فسوء حالنا ليس مانعًا من القناعة بأن المسلمين هم ملاذ البشرية.
ترك مهمة إنقاذ البشرية سبب للذل
تعلم أن من أهم أسباب ما نحن فيه من قهر وظلم تركنا لمهمتنا في إنقاذ البشرية؟ قال الله تعالى: {إلا تنفروا يعذبكم عذابًا شديدًا}. تنفروا لماذا؟ لأداء واجبكم تجاه البشرية ولكف شر أعدائها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". يعني وتركتم واجبكم في دعوة البشرية إلى الإسلام وإيجاد الأجواء المناسبة النقية فطريًا لتنشأ أجيال حتى غير المسلمين تنشأ في أجواء نظيفة فتختار دينها ونظام حياتها بعدما ترى الأمور على حقيقتها، وتخلِّصوها من المستعبدين لها الذين يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا. تركنا دعوتهم فسُلِّط أكابرهم علينا، وذُقنا ما سلَّط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم.
دروس من التاريخ
انظر إلى ما حصل عبر التاريخ حين كان المسلمون يركنون إلى الدنيا ويتقاعسون عن دعوة الأمم، فتُسلَّط هذه الأمم عليهم كالصليبيين والتتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين وأفنوا حواضرهم وساموا المسلمين سوء العذاب. بينما الأهداف العظمى ترفع الهمم وتجمع الكلمة. عانى المسلمون في التاريخ من جوائح اقتصادية وأوبئة وصراعات داخلية، لكن هذا كله كان يُحجَم إذا قاموا بواجب الجهاد ودعوة الأمم.
أمثلة معاصرة على انحطاط البشرية
ختامًا، نُشر في الوثائقيات عام 2017 يبين كيف يتم تعليم الأطفال الفاحشة بشكل قذر جدًا في مدارس أوروبية وأمريكية تحت عنوان "التثقيف الجنسي"، وفي مرحلة عمرية مبكرة، وبتواطؤ من منظمات دولية وقيادات دول كبرى. وكيف يتم ابتزاز الدول في أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية وإفريقيا لفرض تدريس هذه المناهج وربط ذلك بالقروض. وكيف يستفيد أعداء البشرية من ذلك في ترويج سوق الإجهاض والتحول الجنسي المربح لهم ماديًا. وكيف يشيعون في دروس التثقيف الجنسي في إفريقيا أنك تستطيع أيها المصاب بالإيدز أن تمارس الجنس دون إخبار الطرف الآخر، ليتخلَّصوا من البشر بالمرض، في جريمةٍ ممنهجة عنوانها الحرب على الفطرة، وتدمير القيم من أجل استعباد البشر لحيتان الرأسمالية.
الفيلم الوثائقي بما يعرضه من المقاطع لا يصلح للنشر، لكن سنعمل على اقتطاع الأجزاء الأهم منه بإذن الله. طبيبٌ نفسيٌ فرنسي يبين كيف أن عددًا من الطلاب يشتكون من الحرج وانتهاك الخصوصية وخدش الحياء الذي يتعرَّضون له في المدارس تحت عنوان هذا التثقيف. وهم نافِرون. ويتساءل: كيف تمكنت هذه اللوبيات من التأثير على سياسات دول بأكملها؟ فنقول ببساطة: لأن البوصلة ضاعت وانقطعت هذه المجتمعات عن خالقها. فما أسهل أن يميل بها المجرمون ميلاً عظيماً.
علَّق أحد أصدقائي على الفيلم قائلاً: "هذا وحده يصلح له عنوان: ماذا خسر العالم بانحدار المسلمين؟". لأجل هذا كله يا كرام، نعم المسلمون هم الملاذ الأخير للبشرية.
خاتمة وتساؤلات للحلقة القادمة
قد تقول: طيب ما المطلوب مني؟ كيف سينعكس إحساسي بالمسؤولية على حياتي؟ قد تقول: حتى لو اقتنعت بكلامك فإن البشرية التي تتكلم عنها لن تسمع كلامي وأنا في هذا الوضع المتخلِّف حضاريًا وأخلاقيًا. قد تقول: يا أخي تقول ثم إذا تخلَّفنا عن دورنا تجاه البشرية إثم إثم إثم، أليس هناك ترغيب؟ هل الإحساس بالمسؤولية تجاه البشرية حمل ثقيل فحسب؟ بل أقول هو أيضًا نعمة عظيمة. كيف؟ نجيب عن هذه الأسئلة في الحلقة القادمة بإذن الله، فتابعونا.
والسلام عليكم ورحمة الله.
هل العالم المتقدم بحاجة لدين ظهر في الجزيرة العربية ؟