→ عودة إلى كن عزيزا بإسلامك

الحلقة 7 - وهم الحرية

٢٢ يونيو ٢٠٢١
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله، أيها الكرام.

مقدمة: صراع المركزيات وتساؤلات

رأينا في الحلقة الماضية أن الإسلام يقوم على جعل المركزية للخالق، بينما الجاهلية الحديثة تقوم على جعل المركزية للإنسان. وأثار الموضوع لدينا مجموعة من الأسئلة:

  1. هل لما نسلِّم بأن المركزية للخالق فهذا يعني أن الإنسان سيخسر؟ يعني قد تظهر المسألة وكأنها ثنائية: الله أو الإنسان، وكأننا نريد للإنسان أن يتنازل عن مصالحه ورفعته من أجل الله، وكأن دعاة مركزية الإنسان هم الذين يعطون الإنسان كرامته ويحققون مصالحه بجعل ذاته هي المركز. هل الأمر كذلك؟
  2. في المقابل، هل نجحت مركزية الإنسان في جعل المركزية له بالفعل، أم بماذا انتهى المطاف؟
  3. ما المعايير التي تنبثق عن مركزية الخالق في مقابل المعايير المنبثقة عن مركزية الإنسان؟
  4. ألن يؤدي القول بمركزية الخالق إلى ظلم الإنسان للإنسان باسم الدين؟ لما كل واحد يقول: "أنا أطيع الخالق في تعاملي معكم، والخالق يأمرني بأن أفعل كذا وكذا معكم، وأنا أنفذ حكم الله فيكم". أليس الحل في تنحية الدين جانباً في تعاملاتنا إذن؟

تعالوا نجيب عن هذه التساؤلات في حلقة اليوم.

هل مركزية الخالق تعني خسارة الإنسان؟

أولاً، هل لما نسلم بأن المركزية للخالق فهذا يعني أن الإنسان سيخسر؟ أبداً.

الإنسان ينتفع باتباع أوامر خالقه

وإنما نحن بذلك نحيل تعيين مصلحة الإنسان لمن هو أعلم بها منه. "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟" فالإنسان هو الذي ينتفع باتباع أوامر خالقه.

  • "فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى".
  • "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاء".
  • "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها".
  • "من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها".
  • "من كفر فعليه كفره".
  • "ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون".
  • "ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه".
  • "وما تنفقوا من خير فلأنفسكم".

في المقابل، "إن الله لغني عن العالمين". وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". فالنفع لك أنت أيها الإنسان.

الاختبار الأول في حياة الإنسان

لاحظ أن الاختبار الأول في حياة الإنسان كان مبناه على الثقة بهذا المبدأ. أمر الله آدم وحواء ألا يأكلا من الشجرة، كان هذا هو التكليف. وضمن لهما ضمانات: "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى". فوسوس إليهما الشيطان من أي باب؟ من باب تحقيق الرغبات بمعزلٍ عن أمر الله. قال: "يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟" تخلد في الجنة، يكون لك ملك لا يزول.

ما النتيجة؟ عصيا الله، ولم يُحصِّلا ما كان الله قد ضمنه لهما لو أطاعاه، ولا ما أغراهما به الشيطان. وهذا درسٌ للإنسان إلى يوم القيامة.

المعايير المنبثقة عن مركزية الخالق والإنسان

مركزية الخالق: الحق والعدل والدار الآخرة

طيب، ما المعايير التي تنبثق عن مركزية الخالق في مقابل المعايير المنبثقة عن مركزية الإنسان؟

مركزية الخالق تنبثق عنها معايير الحق والعدل. "الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان"، الحق والميزان الذي يمثل العدل. "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل". "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"، لتنتظم علاقاتهم وتوزع الحقوق والواجبات على أساس العدل.

مركزية الإنسان: التحلل من الحق والعدل الإلهي

أتباع مركزية الإنسان يجتنبون ألفاظ الحق والباطل؛ لأنها فطرياً تحتاج وحياً. هم لا يقولون مثلاً: "نقنن السماح بالزنا والشذوذ لأن هذا هو الحق بعد ما كنا نراه باطلاً، ونمنع تعدد الزوجات لأن هذا باطل، نسمح بالمارجوانا لأننا اقتنعنا أن هذا هو الحق بينما كنا نراه الباطل". وإن كانوا يدعون السعي لتحقيق العدل، لكن بلا مسطرة من وحي محفوظ، وهو ما يجعل العدل عندهم نسبياً، مائعاً، متغيراً، لا ضابط له، متعدداً بتعدد البشر، ومتغيراً بتغير آرائهم.

مركزية الخالق تستلزم مركزية الدار الآخرة

مركزية الخالق وما ينبثق عنها من معايير الحق والعدل تستلزم مركزية الدار الآخرة في مقابل الدنيا ليتم إحقاق العدل. "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً". وهذا يعالج الاستشكال المتعلق بالشر لدى البعض، فلا يعود يتشكك في عدل الله وهو يرى معاناة أهل الحق والمظلومين في الدنيا، ما دام يؤمن أن غمسة في الجنة تنسيهم ذلك كله. كما أن مركزية الدار الآخرة تجعل المؤمن يفهم أنه قد تفوته بعض الرغبات في الدنيا، لكن يبقى التزامه بمركزية الخالق لصالحه ما دام يعوض بنعيم أبدي سرمدي.

في المقابل، مركزية الإنسان تتحلل من الحق والعدل الإلهي ليكون الإنسان حراً فيما يفعل. وبما أن حريات الأفراد تتعارض، فإنهم يحاولون الترقيع بينها بدعوة المساواة. ولذلك ترفع الجاهلية الحديثة شعارات الحرية والمساواة على أنها القيم العليا التي يجب أن تكون موجودة في كل التشريعات التي تحكم المجتمع الإنساني.

هل نجحت مركزية الإنسان في جعل المركزية له بالفعل؟

وهذا ينقلنا إلى السؤال التالي: هل نجحت مركزية الإنسان في جعل المركزية للإنسان بالفعل؟

من مركزية الإنسان إلى مركزية الأهواء

ظهر الأمر بداية مركزية للإنسان، فانقطع عن الوحي وحقه وعدله، وأصبح محركه الأهواء والشهوات. وحتى ما يأخذ به من قيم وأخلاق، فليس على سبيل الخضوع للخالق والإقرار بمركزيته، بل بانتقائية تجعل هذه القيم والأخلاق تابعة لمنظومة الأهواء تحت عنوان احترام الرأي الآخر مهما كان. فانطبق على الإنسان قول الله تعالى: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً؟ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً".

انظر إلى حالة الضلال البعيد التي وصلها الإنسان حين تحلل من مركزية الخالق، فوقع في تأليه هواه. ويكفي في ذلك ملف الفوضى الجنسية مثلاً. "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم؟" الإنسان بلغ ذروة العلوم الطبيعية في هذا الزمان، لكن قعر السفول الأخلاقي، لأنه اتخذ إلهه هواه.

الإنسان متباين بفهمه وأفكاره ومرجعياته وأهوائه وشهواته، فإذا تحلل من الحق والعدل الإلهيين، ضاعت الأمور وأصبحت نسبية وتعارضت الحريات. كيف يمكن منع تعارضها؟ لا يمكن أن يمنع تماماً، بل لا بد من قوانين تغلِّب بعضها على بعض. المتحكمة في مناهج والتعليم.

وهم الحرية والاختيار

فانتقلت المسألة من مركزية الإنسان إلى مركزية أهوائه، إلى مركزية الأغلبية، إلى مركزية الفئة المنتخبة من قبل الأغلبية، إلى مركزية الفئة المؤثرة في الانتخابات بإعلامها ورؤوس أموالها. فإذا بالإنسان الذي يبحث عن الحرية قد أصبح أسيراً لمن يملك الإعلام ورأس المال. وهي فئة محدودة ولا يهمها إلا مصالحها الشخصية. وسنضع لكم روابط مقالات تتحدث عن تحكم عدد محدود جداً من الشركات والأفراد بالإعلام، وعما تسميه The Illusion of Choice and Objectivity. وهم الاختيار والموضوعية. يعني أن موضوعية الإعلام مجرد وهم، وأن الإنسان توضع له خيارات كلها تخدم أجندات موجهي الإعلام ولا تخرج عن أطورهم، فهو يتوهم أنه يختار بينما في الحقيقة يبقى في صندوقهم.

التحول من النسبية إلى القطعيات المفروضة

بدأت المسألة بدعوة أن كل إنسان حر في ما يفعل، وأن الحق في ذلك نسبي. ثم انتهى الأمر بوجود مؤسسات هي التي تعرف الحقوق والواجبات، وفُرِضت قطعيات لا يعترف فيها بنسبية. وانتقلت المسألة من النسبية في الحكم على الأمور، واحترام الرأي الآخر، إلى قطعيات يُعدُّ المساسُ بها جريمةً يعاقب عليها القانون، ويقهر أصحاب الأهواء المنحرفة من يعارضونهم ممن بقوا على الفطرة.

فالشواذ لهم الحق القانوني في ممارسة أفعالهم، وموظفون المحكمة يعاقبون إذا رفضوا عقد قرانهم، ويعاقب من ينتقد الشواذ ويبين انحرافهم. والطفل المتلاعب بعقله وفطرته له الحق القانوني في أن يغير جنسه، ويجرم أبوه أو أمه إذا حاول أن يحميه من هذا السفه. والدولة لها الحق في أن تشن حرباً على أمة أخرى، فتدمرها وتنهب خيراتها، ويجرم الجندي الرافض للخدمة. والمرأة لها الحق القانوني أن تجهض جنينها، وتعتدي على حقه في الحياة. وإذا قرَّت المجالس التشريعية في فرنسا غلق المساجد أو منع المرأة من الحجاب فلها الحق ويُجرَّم من يُخالف.

قارن ذلك بالحكم الرباني الحق الذي لا يتغير ولا يتبدَّل ولا يتأثر برأي الأغلبية لا من المسلمين ولا غيرهم.

المركزية الحقيقية للشيطان

ولذلك يا كرام فمصطلح مركزية الإنسان ليس دقيقًا. وإنما ما يحصل في الحقيقة هو أن تصبح المركزية لأهوائه وشهواته. بل ولشهوات وأطماع فئة محددة تفرض على الآخرين أجنداتها، بحيث إذا نظرت في التردي المتسارع أخلاقياً وقيمياً وإنسانياً لمست أن الشيطان يدير المعركة شخصياً بكل معنى الكلمة، ويؤز أولياءه أزاً، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض.

وإذا أردت أمثلة على ذلك فراجع مثلاً حلقة "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين". وقد بيّنا بالتفصيل في حلقات سلسلة المرأة كيف أن الجاهلية الحديثة ضيّعت في المحصلة الحقّ والعدل والحرية والمساواة، يعني المعايير الحقّ الربانية والمعايير المزعومة. ينتهي الأمر بأن تصبح المركزية للشيطان.

"ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون". الشيطان الذي قال في آدم: "أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً"، لأضعن في حنكه مثل ما يوضع في حنك الداب فأسوقه سوقاً. "ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين".

عندما ينقل الإنسان المركزية إلى نفسه فإنه يفقد قيمته في المحصِّلة بعدما كان يستمدَّها من العبودية لله. يعيش الإنسان على هذا الكوكب يأكل ويتمتَّع ثم يموت ليكون حطب جهنَّم مذموماً مدحوراً عندما يترك معيار الحقِّ الرباني. فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟ وكأنَّ الله تعالى حين خلق الشيطان وقدَّر لأتباعه هذا المصير المشؤوم، كان من حكمته في ذلك أن يظهر كمال صفاته سبحانه، برؤية مصير من يتخلى عن مركزية الخالق الذي هذه صفاته ويستكبر عن عبادته. وقد بيَّن لنا عداوة الشيطان: "يا آدم إنَّ هذا عدوٌ لك ولزوجك، فلا يُخرِجَنَّكُما من الجنَّة فتشقى".

هل القول بمركزية الخالق يؤدي لظلم الإنسان باسم الدين؟

وهذا ينقلنا للإجابة عن السؤال التالي: ألن يؤدي القول بمركزية الخالق إلى ظلم الإنسان للإنسان باسم الدين لما كل واحد يقول أن أطيع الخالق في تعاملي معكم وأنفذ أمر الخالق فيكم والخالق يأمرني بأن أعاملكم بكذا وكذا؟ أليس الحل في تنحية الدين جانباً في تعاملاتنا؟

الظلم في الدين الباطل أو الانحراف

فنقول: الظلم سيقع إذا كان الإنسان يتبع ديناً باطلاً يفتري فيه على الله أنه يأمر بظلم الناس. وسيقع إذا انحرف المسلم عن أمر الخالق. لكنه لا يقع إذا رد المسلم الأمر إلى الله بصدق. "ذلك حكم الله يحكم بينكم". "أليس الله بأحكم الحاكمين؟" "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون". وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه".

الدين نظام حياة

لكن كل واحد يقول عن دينه أنه الحق. الحل في هذه الحالة أن يأتي كل مدع بالبرهان والدليل على صحة دعواه، لا أن الدعوة تنحية الدين جانباً. ليس هناك شيء اسمه تعامل بين البشر بلا دين، فالعلمانية دين، والإنسانوية دين. الدين نظام حياة ينبثق عن نظرتك للكون والحياة. وللدكتور سامي عامري في ذلك كتاب مميز بعنوان "العالمانية طاعون العصر".

فإذا قيل سننحي الدين جانباً ونشرع الأحكام بناء على رأي الأغلبية، فهذا كما رأينا ينتهي في المحصلة بأن يكون ديناً يشرع ويمنع ويسمح ويعاقب ويجرم، لكن الفرق أن الذي سيكون وراء ذلك كله شياطين الإنس والجن كما رأينا.

خاتمة وتأملات

تأمل بعد هذا كله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". تأمل: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم". تأمل ما علمنا إياه نبينا صلى الله عليه وسلم من دعاء: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين". يعني لا تجعل اعتمادي على نفسي يا رب، فإني كإنسان أهلك إن جعلت المركزية لها.

في الحلقة القادمة سنرى بإذن الله أمثلة عملية من جعل المركزية للإنسان في القوانين الوضعية التي تسن في الدول المسلمة، وفي الخطاب الحركي المنتسب للعمل الإسلامي، وفي تفكير عموم المسلمين.

والسلام عليكم ورحمة الله.