كورونا والفرصة التاريخية
السلام عليكم ورحمة الله.
أيها الكرام، البعض متفائل بأن أزمة كورونا قد تقلب معادلات النظام الدولي وتقرب المسلمين من الفرج. والصحيح أنه لا عبرة بالتفاؤل إذا كان بالأحاسيس دون عمل. مثل هذه الأحداث فرص يمكن أن يستغلها المسلمون، فإذا لم يستغلوها استغلها أعداؤهم. وليس لنا حينئذ أن نتفائل هكذا من فراغ.
ساسة الدول الكبرى يخططون، وإذا جاء ما يفسد خططهم أعادوا التخطيط مرة أخرى، بل وقد يوظفون الحدث الجديد لصالحهم.
خصال الروم وأسباب القوة
روى الإمام مسلم عن المستورد ابن شداد أنه قال: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". فقال له عمر بن العاص: "أبصر ما تقول؟" قال: "أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال عمر: "لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالًا أربعًا".
اسمع الآن الخصال التي هي سبب قوة وعلو لأي أمة. قال عمر رضي الله عنه في وصف الروم في زمانه: "إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف". وخامسة حسنة جميلة: "وأمنعهم من ظلم الملوك".
تعالوا نعدد يا جماعة:
- أحلم الناس عند فتنة: يعني لا يصيبهم الارتباك والهلع عند المصائب.
- وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة: آها، إذن هناك خطط بديلة وإدارة للكارثة، بل وتوظيف لها فيما ينفعهم.
- وأوشكهم كرة بعد فرة: لا ييأسون إذا هزموا، بل يجمعون صفوفهم ويكرون.
- وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف: يعني الأعمال الخيرية تمكن للأمم ولو كانت مشركة. "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك".
ومع ذلك، لما كان المسلمون أكثر أخذاً بأسباب النصر هذه من الروم، تغلبوا عليهم وانتصروا. انظر الآن هل نحن حالياً عندنا هذه المقومات للنصر؟ النصر والتمكين لهما سنن وأسباب، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
النصر والتمكين: سنن وأسباب
والله تعالى لم يرهن عزتنا بمصائب غيرنا، بل رهن عزتنا بنصرتنا لدينه: "إن تنصروا الله ينصركم". رهنها بتغيير ما بأنفسنا: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
فالجلوس يا إخواني، أترقب الأحداث وانتظار النصر هكذا بلا عمل هو بطالة، ومعاندة لسنن الله تعالى. وكما أثر عن الحسن البصري أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
ما تقول: والله أنا أحسن الظن بالله أنه سيفرج عن هذه الأمة. لو أحسنت الظن لأحسنت العمل. "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب". قد تقول: لكن يمكن ربنا يفرج عنا لأننا على الحق. كيف يعني على الحق؟ يعني نؤمن بالله رباً وبمحمد رسولاً. تمام.
الذي تؤمن به رباً سبحانه قال: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون". حتى تكون على الحق لا يكفي أن تكون لديك معتقدات لا تعمل بحسبها. الذي تؤمن به نبياً صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق". كيف يعني على الحق يا رسول الله؟
ارجع فقط شوف نموذجين فقط: نموذج بيعة العقبة، نموذج حفر الخندق. وانظر إلى أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بالأسباب لأقصى حد بطريقة رائعة ويعني صادمة حقيقة، شيء عجيب سبحان الله العظيم. ارجع مثلاً لسلسلة السيرة النبوية، المرحلة المدنية لدكتور راغب السرجاني، وأيضاً المرحلة المكية. في المرحلة المكية شوف نموذج التعامل مع بيعة العقبة، وشوف نموذج في المرحلة المدنية حفر الخندق، حتى تشوف كيف نبيك صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب لأقصى حد.
حتى تكون على الحق لا يكفي أن تكون لديك معتقدات ولا تعمل بحسبها. يا إخواني، الإسلام يعلمك أن تدخل في الحدث وتغير مجراه، لا أن تجلس تنظر إليه مع تناول المكسرات وتقول: لا لا أنا متفائل، أنا متفائل. الإسلام يعلمك أن تدخل في سباق الأمم إن استطعت لتوفير ما يلزم من مواجهة الوباء ونتائجه، من تطوير وتصنيع معدات طبية، واستكشاف علاج، وإدارة للأزمات الغذائية وغير ذلك.
المتفائلون السلبيون
المؤلم أن كثيراً من المسلمين يا كرام، الكثير من المسلمين المتفائلين المنتظرين للنصر أصبحوا على العكس من ذلك تماماً. أصبحوا هم أنفسهم من أسباب ضعف الأمة وتخلفها واستنزاف مواردها والمال العام. مثل الذين يقصرون متعمدين في مثل هذه الأوبئة، يقصرون في إجراءات السلامة بلا مبالاة ولا اهتمام بأرواح الناس وصحتهم. والله أعلم في كم يتسبب الواحد منهم من إصابات وتكلفة على المال العام وتعطيل الحياة.
ثم بعد ذلك قد يكون هو ذاته من المتفائلين أن يرزقنا الله النصر على أنقاض نكبات الآخرين، ويلوم القدر ويستبطئه إذا تأخر النصر. ليس نداؤنا هذه الأيام لهؤلاء: أين نصركم لدين الله؟ أين دعوتكم وجهدكم وجهادكم؟ بل أصبح النداء لهم: كفوا شركم عن المسلمين فقط بالله عليكم.
بل يتناقل النكات ويستكثر من تخزين المؤن وبالعب الشدة ومكيني أرقيلة، وبحاول يقتل الوقت ويمضي الوقت بأي طريقة.
فرصة تاريخية للعمل والدعوة
كثيراً ما كنا نشتكي إذا قيل لنا: هلا أقرأ هذا الكتاب النافع، كتاب فكري، كتاب عقدي، كتاب تربوي. يقول لك: والله ما معي وقت أقرأ هذا الكتاب. والله ما معي وقت أحضر هذه السلسلة. كثيراً ما كنا نشتكي أننا لا نجد وقتاً لتربية أولادنا. الآن فرصة يا إخواني، فرصة. لا نريد أن نكون قد تعودنا على البطالة العلمية، على الرتابة. هذه فرصة لتشتغل على فيروسات الأخلاق والأفكار والعقائد التي تُغرس في أبنائك.
ثم العالم الآن يا جماعة في أمس الحاجة إلى الدعوة إلى دين الله تعالى، خاصةً مع شعور الشعوب بالضعف والحاجة إلى ربها، وخفوت سعار الشهوة والعربدة التي كانت قد بلغت ذروتها قبل كورونا، ومع ظهور قبح المادية والسقوط الأخلاقي في التعامل مع المرضى المسنين ومع الضعفاء، ومحاولة التخلص منهم في كثير من الدول. هذا هو الوقت المناسب.
تصور لو هؤلاء المسنون يُورد عليهم تعامل الإسلام مع كبار السن في هذا الظرف، كم يمكن أن تستنقذ منهم من الشرك وتصنع لحياته هدفاً ومعنى وتكون سبباً له في سعادة الأبد. فهل استغللنا هذه الفرص؟ وهل أظهرنا للعالم أهليتنا لأن نقود الناس لخير الدنيا والآخرة؟
ختاماً كما قيل: نصر الله قريب، لكن نحن الذين نقترب منه أو نبتعد عنه. نسأل الله أن يعيننا على استثمار أوقاتنا فيما ينفعنا وينفع الناس. والسلام عليكم ورحمة الله.