→ عودة إلى كورونا

كورونا وكثرة الادعاءات

٢١ مارس ٢٠٢٠
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله أيها الكرام،

مقدمة: ثورة المعلومات ومنهجية التعامل مع الأخبار

نعيش في عصر ثورةٍ معلوماتية ونضيع وسط ركامٍ هائل من الأخبار عن فعالية هذا الدواء أو ذاك في علاج مرضٍ ما، مثل المرض الناتج عن فيروس كورونا الجديد. تأتينا في اليوم الواحد عشرات الرسائل على الواتساب والفيسبوك واليوتيوب وغيرها.

في هذه الكلمة أحب أن أشرح لكم منهجية التعامل مع هذه الأخبار والمعلومات، بحيث تهتم ببعضها، وفي المقابل لا تكلف نفسك أن تفتح البعض الآخر ولا تطلع عليه، فتوفر وقتك وتصل للمعلومة المفيدة الموثقة. وهي منهجية نافعة لنا في الحياة بشكل عام.

هرم الأدلة في العلم الرصدي التجريبي

في العلم الرصد التجريبي، هناك ما يعرف بـ "هرم الأدلة" (Pyramid of Evidence). وأنا مضطر أن أذكر مصطلحات إنجليزية اليوم لأن تعريبها غير موصل للمعلومة، نسأل الله أن يرد أمتنا إلى مركز قيادة البشرية في العلوم كلها.

الآن، هرم الأدلة هذا مفيد جداً. الأدلة في أدنى الهرم هي الأقل أهمية، والتي في أعلاه هي الأقوى. ودعونا نبدأ من الأدنى إلى الأعلى على شكل قصة دواء لعلاج الكورونا، ولنسمي هذا الدواء X.

1. رأي الخبير (Expert Opinion)

هناك ما يسمى بـ "رأي الخبير" (Expert Opinion) في المجال. مثلاً، قد يقول دكتور مختص في الكيمياء الطبية: "أنا درست إنزيم فيروس كورونا الجديد ورأيته مشابهاً لإنزيم SARS. هذا الإنزيم أساسي لقدرة الفيروس على التكاثر والفتك، وقد تم تثبيط إنزيم فيروس سارس القديم بالدواء X، فأعتقد أن الدواء X سيثبط إنزيم فيروس كورونا أيضاً ويمنع الفيروس من التكاثر".

يقول هذا دون أن يقوم بتجربة على فيروس كورونا الجديد، لم يقم بتجربة بعد. هل توقعه ورأيه هذا يمكن أن يكون صحيحاً؟ نعم ممكن، والاستناد إليه أفضل من الاستناد إلى لا شيء، لكن يبقى هذا دليلاً ضعيفاً ما لم يؤيد بدليل تجريبي.

2. الدراسات المخبرية (In Vitro Studies)

طيب، فلنفترض أن هذا الدكتور أو غيره خطى خطوة أخرى وجرب الدواء على خلايا تمت إصابتها معملياً بالفيروس. وهي دراسة تسمى (In Vitro) يعني خارج الأجسام الحية. فوجد هذا الباحث أن الدواء فعال في منع تكاثر الفيروس بالفعل.

هل هذه الدراسة ذات دلالة؟ نعم، لكن هل بالضرورة أن ما يحصل في الخلايا في المعمل سيحصل في إنسان مصاب؟ لا، وقد يكون الدواء X فعالاً في القضاء على فيروس، لكنه سام إن أعطي للإنسان. فهذه الدراسات هي في أدنى مراتب الأدلة، ومع ذلك تتلقفها وسائل الإعلام أحياناً بعناوين مضخمة: "الدواء X فعال في القضاء على المرض". فإذا قرأت في التفاصيل أن الدواء جُرِّب على خلايا، فاعلم أنها أدنى مراتب الأدلة.

3. الدراسات على الحيوانات (Animal Studies)

قد يخطو الباحث خطوة أخرى ويجرب الدواء على حيوانات مخبرية تم حقن الفيروس فيها، فيجد أن الدواء فعال في هذه الحالة.

4. تقارير الحالات (Case Reports)

هناك ما يسمى بـ (Case Report)، مثلاً: كان الاستخدام الأساسي لهذا الدواء علاج السكري، ولم نعلم أن له أي تأثير على الكورونا، لكن الطبيب لاحظ أن هذا المريض الذي استخدم الدواء X تعافى من الفيروس بأسرع من المعتاد لمثل من هم في سنه ووضعه. فنشر تفاصيل هذه الحالة.

كثير من الناس يتناقلون ما يشبه تقرير الحالة هذا، أن فلاناً استعمل الدواء الفلاني فشفِيَ من المرض. هذه القصص المفردة، على فرض ثبوتها، فإنها لا تزال في مرتبة متدنية من الأدلة، إذ قد تكون عوامل أخرى قد أثرت وساهمت في الشفاء غير ما نعتقد أنه السبب.

5. سلاسل الحالات (Case Series)

قد يأتي تقرير آخر وثالث ورابع بنفس النتيجة، أن المرضى الذين يتناولون الدواء X يشفون من الكورونا بشكل أسرع أو لا يصيبهم المرض أصلاً. فيصبح عندنا (Case Series) سلسلة من الحالات تشير لنفس النتيجة فتقويها.

سنتجاوز عن الـ (Cross-sectional studies) والـ (Case control) لضيق الوقت ونشير إليهما في التعليقات بإذن الله.

6. دراسات الحشود (Cohort Studies)

مرتبة أعلى من الدراسات هي ما يسمى (Cohort Study) أو دراسة الحشود. مثلاً، باحثٌ يلاحظ من الدراسات السابقة وجود علاقةٍ بين الدواء والتعافي من فيروس كورونا، فيقوم هذا الباحث بمتابعة مجموعتين كبيرتين من الناس ليزداد تأكداً من هذه العلاقة: مجموعةٌ تأخذ الدواء بطبيعة الحال لعلاج مرضٍ آخر، ومجموعةٌ لا تأخذه. والباحث يراقب ماذا سيحصل معهم، ثم بعد شهور يرى أي المجموعتين أكثر إصابةً بالفيروس ليستنتج إن كان هذا الدواء يقلل الإصابة بالفيروس بالفعل أم لا.

هذه الدراسة ليست في أعلى المراتب، فقد تكون هناك عوامل أخرى غذائية ودوائية وبيئية أثرت في النتيجة. قد يكون الذين يتناولون الدواء أكثر عناية بصحتهم واتباعاً لعوامل أخرى قللت من الإصابة بالمرض.

7. الدراسات العشوائية المضبوطة (Randomized Controlled Trials - RCTs)

أفضل أنواع الدراسات هو ما يسمى بـ (Randomized Controlled Trials) أو الـ (RCTs). في الأنواع السابقة من الدراسات كنا نرصد ما يحدث مع الأشخاص الذين نجري الدراسة عليهم دون أن نتحكم بشكل كامل بالعوامل الأخرى التي يمكن أن تؤثر على النتيجة. أما في هذا النوع، فهناك (Control)، هناك تحكم.

نأتي بعدد من المرضى المصابين ونوزعهم إلى مجموعتين متشابهتين من حيث حدة الأعراض ونسبة الذكور إلى الإناث وغيرها، ونتحكم في طبيعة الغذاء والعوامل المؤثرة. ونعطي المجموعة الأولى الدواء X، والمجموعة الثانية الـ (Control)، نعطيها حبوباً وهمية تشبه حبوب الدواء، لكنها غير محتويةٍ على المادة الفعالة، ويكون موافقاً على ذلك. ثم نتابع المرضى، ونرصد نسبة الشفاء في كل من المجموعتين، ونرى إن كان الشفاء أعلى في المجموعة التي تناولت الدواء أم لا.

إذا جاءك خبرٌ محتوياً على هذا النوع من الدراسات، فهو بلا شك أعلى وأهم من دراسات على خلايا أو حيوانات أو تقارير منفردة. هذا على اعتبار أن دراسة الـ (RCT) أجريت بطريقة صحيحة ونشرت نتائجها بأمانة.

8. التحليل التجميعي (Meta-Analysis)

قد تجري مجموعات مختلفة من الباحثين في بلدان مختلفة مثل هذا البحث من نوع (RCT) عن أثر الدواء X في الـ (COVID-19) الناتج عن كورونا. وقد تخرج المجموعات من نتائج مختلفة. فبعضها يقول أن الذين يتناولون الدواء X يشفون بنسبةٍ عالية، وبحثٌ آخر يقول أن نسبة الشفاء ضعيفة، وبحثٌ آخر يقول أن لا فائدة للدواء تُذكر.

هنا يأتي دور تحليلٍ يسمى الـ (Meta-Analysis)، حيث يستثني الدراسات التي هناك مشكلةٌ في تصميمها، ويحلل الدراسات الجيدة تحليلاً إحصائياً، ويخرج بنتيجةٍ موحدة أن الدواء X فعالٌ مثلاً في علاج الكورونا.

9. الإرشادات العلاجية (Clinical Practice Guidelines)

ليست هذه نهاية المطاف، بل يجتمع المختصون ليدرسوا هذه النتائج ونتائج دراسات على أدوية أخرى ثبتت فعاليتها في علاج المرض بدرجات متفاوتة. ثم يفاضل هؤلاء الخبراء بين هذه الأدوية بناء على فعاليتها وأعراضها الجانبية وتكلفتها وتأثيرها على أمراض أخرى قد تكون موجودة لدى المريض كالفشل الكلوي أو الربو أو فشل العضلات القلبية وما إلى ذلك.

فيخرج هؤلاء الخبراء بما يسمى (Clinical Practice Guidelines) يعني إرشادات للممارسة العلاجية، ليسترشد بها المعالجون للمرض، لإعطاء الدواء المناسب للمريض المناسب بالجرعة المناسبة، آخذين بعين الاعتبار ما لدى المريض من أمراض أخرى كقصور الكلى أو ارتفاع الضغط مثلاً وغيرها. كذلك يخرجون بتوصيات عما ينبغي فعله إذا كان هناك ما يمنع من استخدام هذا الدواء أو لم ينجح في العلاج، وماذا سنستخدم في هذه الحالة من بدائل وغيرها من التفاصيل.

نصائح للجمهور

عامة الناس ممن ليسوا مختصين في المجال الطبي، الأولى والأحرى بهم أن يلجأوا إلى طبيب ماهر مطلع على هذه الإرشادات أولاً بأول.

طيب، من أراد أن يتثقف من قبيل الفضول العلمي، عليه أن يركز على هذه الإرشادات العلاجية التي ذكرناها، ولا يلتفت لما سبق من أنواع الدراسات. وحتى مع هذا، فلا ينبغي له أن يعالج نفسه بنفسه حتى لو اطلع على الإرشادات بنفسه، بل يرجع لأهل الاختصاص.

بل وفي كثير من الأحيان، مجرد تنبؤات ودعاوى ليس لها أي أساسٍ علمي، ووسط هذا الركام الهائل تضيع المعلومة النافعة. وأنا شخصياً تردني تساؤلاتٌ باستمرار من هنا وهناك عن خياراتٍ دوائية وعشبية وغذائية، فالواحد يشاهد فيديو أو يقرأ خبراً فيبعث لي متسائلاً: "إيش رأيك بهذا الكلام؟" فأحببت أن أضع إطاراً منهجياً عاماً.

الآن يا كرام، تتوفر إرشادات علاجية لمرض الكورونا مثلاً، وهي مبنية على الدليل، فلا معنى لأن تضيع وقتك بالكم الهائل من الدعاوى والدراسات الأدنى مستوى.

الاستناد إلى الدليل في الإسلام

الاستناد إلى دليل هو شيء علَّمنا إياه ديننا: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]. لا نقبل أي شيء بلا برهان. ﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ [الأنعام: 148]. أعطونا شيئاً علمياً.

وموازنة مراتب الأدلة العلاجية هو مثل أصول الفقه في موازنة مراتب الأدلة الشرعية. كما كان يقول لي صديقي الذي تلقيت عليه دورةً في هذا العلم، والذي تلقاها بدوره من جامعة كامبريدج البريطانية، كان يقول لي: "وأنا أقرأ في العلاج المستند إلى الدليل كأني أقرأ في أصول الفقه".

تحديات العلم الحديث

طبعاً، هل كل ما ينشر على أنه دراسة علمية هو صحيح بالضرورة وخالٍ من التزوير؟ وهل الخبراء الذين يصوغون الإرشادات العلاجية أمناء بالضرورة وسيختارون مصلحة المرضى دائماً غير متأثرين بالإغراءات المالية لشركات الأدوية؟ الجواب عن كل من السؤالين "لا" للأسف.

ومؤخراً تنشر أوراق علمية بعنوان "العلم المستند إلى الدليل تم اختطافه" (Evidence-Based Medicine Has Been Hijacked)، وتأتي هذه الدراسات بأدلة على أن كثيراً من الخبراء يقدمون مصالحهم المالية على مصلحة المرضى ومصلحة المال العام. وبإمكانكم قراءة كتاب نافع ماتع بعنوان "إنقاذاً للسواء" وهو مترجم عن كتاب آلين فرانسيس، الذي يبين شيئاً من سوء الاستغلال هذا.

وهذا حافز لنا معاشر المسلمين أن نجتهد في هذه العلوم لنكون مستأمنين عليها وننفع بها الناس.

خاتمة

نقل الإمام الذهبي في الجزء العاشر من "سير أعلام النبلاء" عن الإمام الشافعي رحمة الله عليهما أنه قال: "لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه". لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه.

برع المسلمون في الطب وفي عامة العلوم بعد عصر الشافعي، ثم حصل التراجع الذي نشهده. فنسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا والناس بما نتعلم.

والسلام عليكم ورحمة الله.