→ عودة إلى مرئيات

كيف تكون غزة خطوة لنصر الأمة؟

٤ يناير ٢٠٢٤
النص الكامل للمقطع

كيف تكون غزة خطوة لنصر الأمة؟

السلام عليكم ورحمة الله.

بدايةً، هل أنا متفائل؟ لا، أنا لست متفائلاً، لأن الذي يتفائل يكون مغلِّباً ظنّاً بالنصر والفرج، أما أنا فموقن بالنصر والفرج، فاليقين أعلى رتبةً من التفاؤل. أجد من واجبي أن أبشر الأمة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر". فنحن أمة مبشرة.

أهمية العمل الصالح والإخلاص

لكن تعالوا انظروا ماذا قال عليه الصلاة والسلام بعدها مباشرة: "فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب". يعني لازم عمل، وليس أي عمل، بل عمل تعمله بإخلاص لوجه الله تعالى ابتغاء الآخرة.

هل نحن نقول لا نصر إلا إذا انصلح حال المسلمين؟ كان هذا من أبرز اعتراضات الإخوة على كلمة "حلّ لهم يدويري"، وهو قول بعضهم: "أنت كأنك تروّج لفكرة أن صلاح الفرد يؤدي إلى صلاح المجتمع، وقد أثبتت الأيام أن هذه النظرية غير صحيحة. فكيف تتوقع من عموم الناس أن ينصلحوا والتعليم والإعلام والقوة والقانون بأيدي أناس لا يرجون لله وقاراً، بل هم في حقيقتهم سيوف مسلطة على رقاب المسلمين؟ لن يحدث تغيير جذري في الشعوب إلا إذا أمسك المخلصون بزمام السلطة".

فنقول يا كرام، طبعاً لسنا ممن يتصور هذا التصور الطفولي الناقص من أن الناس إذا صلحوا فإن طبقة المتحكمين ستنسلخ بهدوء كما ينسلخ الجلد المريض ليحل محله جلد سليم، هكذا بلا تدافع وبلا تضحيات. ولا نحن من السذاجة بحيث نتصور أن المسلطين على رقاب المسلمين إذا رأوا الشعوب المسلمة تنصلح فإنهم بدورهم سينزلون عند رغبة الشعوب ويعلنون توبتهم بين عشية وضحاها في مشهد عاطفي.

ولا نشك في أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وندرك تماماً أهمية السلطة في إحداث التغيير. لكن الذي يقول: "لا بد من أن تكون السلطة بأيدي الأمناء" لم يأتِ بجديد حقيقةً بالنسبة لكل العقلاء. إنما هذا هو السؤال القديم الحديث الذي اختلف عليه المفكرون والجماعات: كيف يعود الإسلام إلى واقع الحياة ويكون السلطان للإسلام؟

نحن ندرك تماماً أهمية السلطة، ودعوة الناس لإصلاح أنفسهم ليست بديلة عن السعي لبسط سلطان الإسلام على بلاد المسلمين، بل نحن ندعو أنفسنا والناس إلى أن يكونوا صالحين مصلحين، لأن هذا يهيئهم للمرحلة التي قد تحمل في رحمها أن تؤول السلطة إلى الأمناء. وهي المرحلة التي يتوقع أن تكون حافلة بالآلام والتضحيات والمصابرة، وأن لا يثبت فيها إلا من عمل بقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". يعني إذا الناس لم يلتزموا بما في مقدورهم مما لا يحتاج كبير تضحية، فكيف يتوقعون أن يثبتوا في الفتن المزلزلة؟

الفرج والنصر: بين التخدير والعمل

قال الله تعالى: يختلف الناس في كيفية أن يأتي الفرج أو كيف يمكن أن يأتي الفرج وما الطريق الموصل. نحن حين نطالبهم بالإصلاح فإنما نذكرهم بقول الله تعالى. نقول للناس: علينا أن نجاهد أهواءنا وشهواتنا المحرمة وكسلنا، وأيضاً علينا أن ندافع الباطل وأهله بما نستطيع ليهدينا الله لسبيل النصر، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى.

فرق كبير بين هذا الخطاب والخطاب الذي يقول: فرق كبير بين الخطاب الذي يخدر عن مواجهة الباطل وأهله ويقول لك انشغل بمعاصيك أنت، والخطاب الذي يقول: من أهم أعمال إصلاحك في الوقت ذاته.

تعليق النصر بصلاح حال كل الناس ليس صواباً أيضاً، بل هو محبط يشعر المؤمن أن عليه أن يصلح من نفسه، ويضحي ويتحمل العواقب، مع أن من المستبعد جداً أن يرى أثر ذلك في الحياة الدنيا، لأن التغيير مشروط بشرط بعيد المنال صعب التحقيق، ألا وهو انصلاح حال كل المسلمين أو عمّتهم. وليس من الحكمة أن نطالب الناس بأن يتحملوا هذه الفكرة، فهي تتطلب مقامات إيمانية عالية لا يبلغها أكثرهم. وليست صواباً، بل يبقى الأمل حياً في الانفراج، وفي القرآن بشارات بذلك في قصة طالوت وغيرها.

وليست المسألة "All or None" (كل شيء أو لا شيء)، إما نصر عميم لكل المسلمين وإما لا نصر بالمرة، بل قد يهيئ الله الأسباب لفئة من المسلمين وينصرها نصراً محدوداً يكون فيه إحياء لغيرها من أبناء هذه الأمة. فيمرون بمخاضات وتمحيصات تربيهم وتعينهم على إصلاح حالهم، وتستخرج من أصحاب المعاصي والكبائر بطولات وتضحيات، وتسري الحياة في أوصال هذا المارد الإسلامي شيئاً فشيئاً إلى أن يقوم من جديد.

فأن يصل المسلمون إلى حالة جماعية عامة ورأي جماعي عام أمر ممكن بشكل ملموس، والمقاطعة الجماعية التي حدثت في كثير من المجتمعات دليل هذا الإمكان. وليس من الصواب أن نشغل المسلمين ببعض أمد النصر إلى كذا وكذا من السنين وكذا وكذا من الأجيال، بل نتمثل دوماً قول القائل: "نصر الله قريب، لكن نحن الذين نقترب منه أو نبتعد عنه".

ربنا اللطيف لما يشاء قد يهيئ لنا أسباباً تجعل الأمة أعلى همة وعزيمة على الاقتراب من النصر. وليس المطلوب أن تصبح الأمة كلها مجاهدة، لكن فيها حواضن للجهاد وأهله، مجتمعات تعاملهم كجزء لا يتجزأ منها، كما يرفد الجسم نسيجه بالدم والهواء، لا تعاملهم كجسم غريب. وفي الوقت ذاته لا نعوّل على حرق المراحل ونوال النصر بينما حال المسلمين لا زال بعيداً عن استحقاقه.

قالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: "يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟" فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم، إذا كثر الخبث". المؤمن يحتاج أن تحركه محركات متوازنة: انتظار أجر الآخرة، وأن يكون له سهم في عز الإسلام ولو بعد موته، وأيضاً أمل بأن يرى في فترة حياته ما يسره، وفي الوقت ذاته خوف من عواقب غفلته وتقصيره عن إصلاح نفسه. كل هذا يدفع إلى تجدد الهمة كلما فترت.

العبارة قد تسمعها في سياقين مختلفين فتكون في أحدهما حقاً أريد به حق، وفي الآخر حقاً أريد به باطل. عندما تسمع: "إذا أردتم النصر يا مسلمون فعليكم بطاعة الله والتزكية والبعد عن المعاصي"، عندما تسمعها ضمن خطاب ينافق للمجرمين أو يخذل الناس عن مقاومة الظلم وإنكار المنكر، فمثل هذا الكلام يكون تخديراً وصرفاً للطاقات في الدوائر التي يأذن بها الكفار والمنافقون. بينما عندما تسمعها في سياق يُنكر المنكر ويبث في الناس أهمية أن يكون السلطان للإسلام، فهذا كلام حق وجزء من منظومة متكاملة.

الطرح الأول يصرفك عن المعركة بدعوى الانشغال بالشأن الشخصي، بينما الطرح الثاني يعدك للمعركة بالتزكية والطاعة والعلم والتعلق بالله تعالى. الطرح الثاني يقول للمسلمين: "دافع الباطل، وفي الوقت ذاته أطيعوا ربكم ليثبتكم في هذه المدافعة، لأن لها تكاليف، وترك مناصرتهم إثم قد يكون أكبر من كثير من الآثام التي تعملها حتى لو كنت صاحب كبائر. استمر في النصرة بكافة أشكالها الممكنة راجياً أن يوفقك الله بهذا لإصلاح نفسك ويصطفيك لنصرة دينه".

فزعتك لإخوانك في غزة، تمسك بها، استمر فيها، وابنِ عليها. لما نقول "حلّ لهم يدويري" لا لنا، لأننا نحتاج العمل للتأهيل، فإنما هذا الكلام تبصير بحساسية المرحلة التي نعيشها والمرحلة القادمة، وتوجيه لطاقاتنا حتى نستعد لها، وأن لا نغرق في التحليلات كأننا مجرد مشاهدين.

الاستعداد للمرحلة القادمة

المرحلة القادمة فيما يظهر حساسة جداً إخواني وحرجة، ولا أمان فيها إلا لمن أمنه الله. هل هذا الكلام يعني أن نخاف من أعدائنا؟ أبداً، فهم أذل وأحقر من ذلك، وإنما نخاف من فقدان معية الله بحيث يسلط علينا هؤلاء ولا نصبر. نقول هذا الكلام لنحرص على أن نكون في كنف الله بطاعته: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط".

نقول هذا الكلام لنفقد الثقة تماماً بأي أمن موهوم بعيداً عنه سبحانه، ولا نشعر بالأمان إلا بقدر ما نعمل بطاعة الله ومدافعة الباطل وأهله: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون". وإلا فكل الكفار والمنافقين المحاربين للدين أهون وأحقر من أن نخافهم. قال الله تعالى: "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ" يعني يخوّف المؤمنين من أوليائه "فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".

ليس المطلوب أن نخافهم، وإنما المطلوب أن نستيقظ وندرك أننا في حالة حرب، وأن الذي في خطر ليس غزة وحدها بل المسلمون عموماً، فيكون التغيير والإصلاح في حياتنا بحجم الأحداث. نحن في مرحلة تحتاج منا الانتقال من عقلية المشاهد المترقب إلى عقلية الفاعل المؤثر المستعد، من عقلية المتردد في الأخذ بالأسباب إلى عقلية الجاد الحاسم المسارع.

هي مرحلة حرجة بغض النظر عن نتائج معركة غزة. إذا انتصرت غزة ونسأل الله ذلك، فما أدراك أن يبدأ بلاء المسلمين في البلدان الأخرى، حيث يتوقع أن يحرص النظام الدولي وأذنابه على منع المسلمين من النشوة بانتصارها والسعي للتحرر مثلها، خاصة وأن الكفر قد كشف عن وجهه القبيح ودخل مرحلة عداء صريح واضح فاضح. والسؤال هنا: هل نحن مستعدون لهذه المرحلة؟ هل أعددنا لها؟

وإذا انتهت المعركة في غزة بغير ما نرجو لا قدر الله، فهل نحن مستعدون لما بعد ذلك؟ أم أن كثير من المؤثرين والمتبوعين عنده حالة من التعشيم وتجاهل السنن تجعله هو نفسه عرضة للانكسار الإيماني إذا حصل ما نكره، بحيث سيحتاج إلى من يثبته على الإيمان فضلاً عن أن يثبت هو الناس.

عوامل القوة: دروس من التاريخ

يجب العمل من الآن إخواني على تذكير الناس أن معركة غزة جولة من جولات صراع الحق والباطل، وأن الدفقة الإيمانية التي سرت في جسد الأمة هي انتصار يجب أن يستدام. ولا يرتبط مصيره بمصير معركة غزة العسكرية ونتائجها. وأنه يجب العمل من الآن على معرفة أسباب الضعف التي حالت دون نصرتنا لغزة النصرة الكاملة والسعي في التخلص منها، لننتصر في الجولة القادمة، مع عدم إهمالنا أبداً للاستمرار في نصرة إخواننا في غزة. وسلخ الحاضنة الشعبية عن مجاهديها، أو عمل تطويع سياسي غادر يضرهم دنيا وآخرة، ونسأل الله أن يجنبهم هذا كله، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم.

فهل أعددنا لمثل هذا بمعرفة أن نصرتنا لغزة إنما هي نصرة لأجل الدين أولاً وآخراً لا لأشخاص؟ فمن ضل عن الحق أياً كان فإنما إثمه على نفسه، ويجب ألا يؤثر هذا على نصرتنا لديننا بما نستطيع. هل نحن مستعدون لأي احتمال كما يجب؟

هل تعلمون إخواني بماذا يتميز عنا أعداؤنا؟ إنهم يستعدون ويعملون بحزم للتعافي سريعاً من أي نكبة تصيبهم. روى الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". فقال له عمر (يعني عمر بن العاص): "أبصر ما تقول". قال: "أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال عمر: "لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً".

الآن عمر بن العاص رضي الله عنه سيعدد خصالاً تجعل للروم غلبة وكثرة. قال: "إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك".

طيب، "أحلم الناس عند فتنة"، يعني يكون فيهم العقل والتثبيت عند وقوع الفتن. "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة"، يعني يتعافون سريعاً من النكبات التي تصيبهم. "وأوشكهم كرة بعد فرّة"، أي هم أسرع الناس في المبادرة إلى قتال عدوهم بعد الهزيمة. "وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف"، يعني عندهم تكافل اجتماعي. "وأمنعهم من ظلم الملوك"، لا يسكتون لملوكهم عن الظلم.

قد يقول قائل: لكن ليس كل هذا متوفراً في كل المجتمعات الأوروبية والأمريكية الآن. بغض النظر، أثر عمر بن العاص يذكر عوامل قوة الروم التي كانت حاضرة في زمانه والتي سيكون لها أثر في بقائهم كثرة حتى قيام الساعة. وبعض هذه العوامل يقوى أو يضعف، يغيب أو يحضر في أزمان مختلفة. ونحتاج أن نأخذ بعوامل القوة هذه: الثبات والحلم عند الفتن، الإفاقة سريعاً بعد المصائب، الكر بعد الفر والهزيمة، التراحم فيما بيننا، ومقاومة ظلم الملوك.

دعوة للعمل الجاد واليقين بالنصر

فالموضوع يا إخواني ليس تثبيطاً ولا تشاؤماً، وإنما توجيه للطاقات. فكر الآن بما تعمله لا لتنقذ أهل غزة فقط، بل ولتنقذ نفسك وأمتك، بكل معنى الكلمة. لما تحكم على أي عمل لا تقيس جدواه فقط بناء على ما إذا كان ينقذ أهل غزة في العاجل، بل أيضاً ما إذا كان ينجيك وأمتك بعد ذلك. فالمعركة ممتدة زماناً ومكاناً.

الذي يقول: "يعني بيظل تحكوا طاعة الله واجتناب المعاصي، يعني إذا أنا التزمت وهو التزم خلاص انتصرت غزة؟" يا صديقي، الخوف عليك أنت أن تفتتن وتكفر في المرحلة القادمة، وحينئذ فأنت أحق أن يخاف عليك من أهل غزة. والفتنة أشد من القتل.

قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا". بادروا بالأعمال يعني لحقوا حالكم، جمعوا قدر ما تستطيعوا، لأنه سيأتيكم فتن تسحق إيمان من لم يبادر بالاستعداد لها.

عوداً على بدء، يجب ألا نكون متفائلين بل مستبشرين، متيقنين بالنصر لهذه الأمة، لكن لا بنفسية المشاهد المنتظر للتحليلات، وإنما بنفسية وعقلية العامل الجاد طويل النفس.

والسلام عليكم ورحمة الله.

I have already provided the complete formatted transcript in the previous response. There is no content left to continue.