السلام عليكم ورحمة الله.
لماذا تأخر النصر في سوريا؟
سؤال يرد على ذهن كثير منّا، وأود بداية أن أصحح السؤال، فالنصر في سوريا لم يتأخر. النصر في سوريا يولد كل يوم وينمو كل يوم. فنحن كمسلمين نؤمن بالآخرة، نعرف النصر بتعريف الله عز وجل له. قال الله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}. والذين يقتلون على الإيمان من أهلنا في سوريا هم بهذا المعنى الآن إن شاء الله فائزون منتصرون.
أهل الأخدود عذبوا وحرقوا أحياء، ومع ذلك قال الله تعالى في سورة البروج التي تتحدث عن مصيرهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}. ولهذا فالذين يعذبون ويقتلون من أهلنا في سوريا هم الآن إن شاء الله فائزون منتصرون.
في الحديث الذي رواه البخاري أن حرام بن ملحان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طعنه مشرك غدراً برمح في ظهره نفذ من صدره، فجعل حرام يضع يده على الدم ويمسح به وجهه وهو يقول: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة". فأهم أشكال الفوز والنصر في ديننا أن تموت وأنت ثابت على دينك. فالذي يقتل من أهلنا ثابتاً على دينه هو فائز منتصر، ولهذا نقول أن النصر كل يوم يولد في سوريا.
لماذا طال البلاء في سوريا؟
لذا دعونا نصحح السؤال ونقول: لماذا طال البلاء في سوريا؟ إخواني وأخواتي، لله تعالى الحكمة التامة. تعالوا نتأمل بعض الحكم الظاهرة لتطويل البلاء على أهل سوريا.
الحكمة الأولى: اصطفاء الشهداء
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. ومن أشكال العبادة أن نعاني ونصبر ونموت في سبيل الله. فالذي يحدث في سوريا هو الأصل وليس شذوذاً عن القاعدة. فالله لم يخلقنا لنأكل ونشرب وننام ثم نموت، بل ليختبرنا. لم يخلقنا ربنا عبثاً حتى يتركنا هكذا دون اختبار.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا} أي مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها الصادق من الكاذب. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
هذه حقيقة نغفل عنها في غمرة الحياة، فنظن أن الأصل أن نأكل ونشرب ونتمتع وتسلم لنا أموالنا وأهلنا. لا يا إخواني، ما لهذا خلقنا؟ ولهذا ينبه الله تعالى بمثل هذا المطلع: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا}؟ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا}؟ لن نترك. فالله تعالى ما خلقنا عبثاً، بل هو الذي خلق الموت والحياة {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
بل عندما ترى آلافاً من إخواننا وأخواتنا يقتلون، تنسى أمراً مهم جداً وهو أن اصطفاء الشهداء مقصود لذاته. اصطفاء الشهداء مقصود لذاته. الله تعالى يريد أن يتخذ من عباده شهداء. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}.
"ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم". فما بالك عندما يقبل المسلم أن يراق دمه في سبيل الله؟ فاصطفاء الشهداء مطلب في ذاته. هذا معنى ننساه ونحن نتحسر على آلاف الشباب الذين يقتلون في بلاد الشام، ويقول بعضنا: "ذهب دمهم هدراً". ولا والله إن شاء الله ما ذهب هدراً. دمهم ما ذهب هدراً ما داموا قد قتلوا من أجل دينهم وماتوا ثابتين عليه، لم يضيعوا سدى، بل اتخذهم الله تعالى لنفسه.
لاحظ التعبير في الآية: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ} أي لنفسه سبحانه، أي لنفسه سبحانه {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}. تصور صندوقاً يعرض عليك فتزهد في كل ما فيه إلا جوهرة نفيسة تتخذها لنفسك وتقول: "هذه نصيبي وحصتي". ولله المثل الأعلى. ماذا يريد الله بالدنيا وما فيها؟ هي كلها بزينتها وجمالها وثرواتها لا تزن عند الله جناح بعوضة. إنما يتخذ منها لنفسه ويؤوي إلى كنفه الشهداء. إذن فهذه الحكمة الأولى أن الله تعالى ما خلق الناس إلا لهذا، ليبتليهم فتظهر منهم العبودية ويتخذ منهم شهداء.
الحكمة الثانية: النصر مع الصبر
طال البلاء لأن الله تعالى أعد لأهل الشام فيما نحسب جائزة عظيمة في الدنيا قبل الآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ". إذن فعلى قدر الصبر يكون النصر. وأهلنا صبروا صبراً عظيماً، فسيكون نصرهم إن شاء الله عظيماً.
البلاد العربية التي اكتسحتها الثورات وسقطت فيها الأنظمة حصلت فيها تضحيات أي نعم، لكن البلاء كان قصيراً نسبياً، أقل من أن يكون به الرفعة والتمكين مما عهدناه من سنة الله. فجاءت ثمرة هذه الثورات مشوبة معكرة. أما أهلنا في الشام فنذكرهم أن من حكم الله عز وجل في تربية عباده ما ذكره ابن القيم أنه تعالى إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه عز وجل العز والنصر. فإن خلعة النصر (يعني هدية النصر) إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار.
قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}. أراد أن ينصرهم فأذلهم أولاً. وقال في المقابل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا}. فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره. انتهى كلام ابن القيم.
ولهذا لما سئل الشافعي: أيهما خير للرجل أن يمكن أم يبتلى؟ قال: "لا يمكن حتى يبتلى". وهذا مصداق قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} بما صبروا. فالاستضعاف من العدو إن قابله النصر من المؤمن جاء من الله عز وجل المنة ووراثة الأرض والتمكين.
أبطأ سيف الدولة على المتنبي مرة في العطايا، فقال له المتنبي: وَمِنَ الْخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي أَسْرَعُ السُّحْبِ فِي الْمَسِيرِ الْجِهَامِ أي أني أرى تأخر عطيتك خيراً، لأن السحابة سريعة السير لا تحمل المطر، أما إن كانت تحمله فهذا يبطئ سيرها.
فالفرج المنتظر ليس فرجاً على الشام وحدها، بل على الأمة كلها. وأملنا أن تولد الخلافة الإسلامية من جديد في بلاد الشام على الرغم من كل المحاولات العالمية لقطف ثمرة الثورة والجهاد في سوريا. نسأل الله عز وجل لأهلنا الثبات ليستحقوا أن يمكر الله لهم ويقلب مكر أعدائهم عليهم. ونسأله تعالى أن يعيننا على نصرتهم، فكل أخ سوري يسقط شهيداً مؤمناً يسهم إن شاء الله في رفع صرح النصر للأمة، وهذا يخفف عليه المعاناة.
وتفاؤلنا هذا ليس له سند من فهم سنن الله فحسب، بل من الأحاديث الثابتة أيضاً. فعن ابن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة: جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق". فقال ابن حوالة: خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك (يعني اختر لي بلداً من هذه البلاد). فقال: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده". إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "فإن الله توكل لي بالشام وأهله". والحديث صححه الألباني وحسنه الوادعي.
وقال عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام". الحديث صححه الألباني والوادعي. ولا يخفى أننا في زمان الفتن، خاصة الفتن في الأفكار والقلوب ومعرفة الحق من الباطل.
الحكمة الثالثة: إقامة الحجة على الخلق
طال البلاء ليصبح أهلنا في الشام حجة الله على خلقه، بأن يضربوا أمثلة من البطولة والثبات والتضحية، فيعلم الناس أن القرآن لا زال يصنع الرجال، وأن أمة محمد تمرض لكنها لا تموت، وأن قوى الكفر كلها لا تستطيع أن تقتلع جبل الإيمان من قلب طفل سوري أو امرأة سورية بعد أن أرسل الله هذا الجبل في القلب.
طال البلاء ليكون تثبيت أهل سوريا مظهراً من مظاهر قدرة الله تعالى. كان الخطباء والدعاة إذا أرادوا أن يحضروا خطبة أو كلمة أو موعظة عن الصبر والثبات عادوا إلى أمثلة من التاريخ: سحرة فرعون قبل ثلاثة آلاف سنة آمنوا في لحظة فلم يعودوا يأبهون بالتقطيع والتصليب والتعذيب. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة يسحبون على الحديد المحمى وتوضع على صدورهم الصخور لينطقوا بكلمة الكفر فيرفضون.
كان الناس بل وربما نحن الوعاظ والدعاة نورد هذه النماذج ونحن نتشكك في احتمالية تكررها في العصر الحاضر. كنا نعلم أن هناك أناس يعذبون في السراديب في زماننا، لكننا لا نعلم الكثير عن نفسياتهم وظنهم بربهم. أطفال ونساء وشيوخ تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم فيتحولون إلى عمالقة أنست الناس غاندي ومانديلا وجيفارا الذين كان المسلمون يرفعون صورهم، وكأن أمة محمد عقمت عن إنتاج أبطال مؤمنين لا شيوعيين ولا كافرين.
من جي فـارا أمام طفل سوري يتألم من آثار التعذيب فيقول: "في سبيل الله، في سبيل الله، في سبيل الله". رؤية هذا الطفل أو شاب سوري يدفن حياً وآخر يحرق وهم يرددون: "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله". رؤية امرأة عفيفة تقول أنها نذرت نفسها وأولادها لله، وصبرت على موت من مات منهم وعلى قتل وتعذيب زوجها. كل مشهد من هذه المشاهد أبلغ من الخطب والمواعظ في بطون الكتب وعلى المنابر.
وأين هذا؟ في بلد أهله معروفون بالتدين، بل في سوريا. سوريا التي ما كنا نظن أن يخرج منها هذا الخير كله. سوريا التي اقترن اسمها بالمسلسلات المدبلجة التي بحّ الخطباء حناجرهم في التحذير من آثارها وإفسادها. فإذا بمقاطع فيديو من دقيقة أو دقيقتين لطفل أو امرأة ضعيفة في سوريا تسكت الخطباء والدعاة، وتفعل أكثر من فعلهم عبر السنين، وتربيهم وتعلمهم هم أنفسهم ما كانوا يعلمونه للناس نظرياً.
ويشاء الله أن يستدرج جنود بشار ليصوروا هذه المقاطع ويبثوها ظانين أنهم بذلك يبثون الرعب ويكسرون العزائم، فيقلبها الله عليهم تلهب حماس أهلنا في الشام وتزيد إصرارهم وتلقن العالم أجمع أبلغ الدروس. فالله تعالى أقام الحجة على أهل هذا الزمان وأقام لهم أروع الأمثلة بأهل الشام.
وإني لأحسب أن الله عز وجل من فوق عرشه يباهي ملائكته بنماذج البطولة في سوريا. يريهم الله أن هذا الجنس البشري استحق أن يسجدوا له، ويريهم ما سبق في علمه حين قالوا له: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. كأن الملائكة تقول: "ماذا تريد يا رب من خلق البشر ونحن نعبدك عبادة لا يفوقنا فيها أحد، فنسبح بحمدك ونقدس لك". ما ظنت الملائكة أن يكون في الجنس البشري عظماء بهذا الشكل يفوقونهم في عبوديتهم لله عز وجل. قال سبحانه: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
سبق في علم الله أن هذه النماذج العظيمة ستكون. وأين حينئذ تسبيح الملائكة من صراخ طفل أو امرأة: "ما لنغيرك يا الله، في سبيل الله، لا إله إلا الله"؟ أين تسبيح الملائكة في رخائهم من هذه العبارات تحت التعذيب؟ وبهذا نفهم قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}. هو سبحانه يعلم لكنه يريد إظهار هذا الإيمان لخلقه والمباهاة به.
ولهذا كله طال البلاء في سوريا، وما كانت هذه الحكم لتتحقق بهذا الشكل لولا أن البلاء طال. هل لا زالت هناك حكم نتكلم عنها ونتأملها؟ نعم، لكننا سنؤخرها للحلقة القادمة بإذن الله. سنتكلم عن حكم كثيرة. وحتى ذلك الحين ندعو لإخواننا وأخواتنا في سوريا أن يثبتهم الله وينصرهم على عدوهم، وندعو لأنفسنا أن يعيننا الله سبحانه وتعالى على نصرتهم وعلى أن لا نخذلهم. والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله.