السلام عليكم ورحمة الله، أيها الكرام.
مقدمة: انسحاب أمريكا وعودة طالبان
انسحاب أمريكا من أفغانستان وعودة الطالبان للسيطرة عليها بعد عشرين عاماً من الحرب هو حدث كبير جداً ستكون له تداعيات ضخمة والله أعلم. كثير من المسلمين محتارون: هل هي هزيمة للغرب بالفعل؟ أم أن الأحداث تسير وفق ما تخطط له أمريكا والنظام الدولي؟ وهل هذا الذي يبدو نصراً للمسلمين سيتبعه انتكاسة وخيبة أمل؟
أخوكم تابع الأحداث منذ بدايتها قبل ربع قرن، عندما نشأت الطالبان ثم تولت السلطة، ثم عندما حاربها حلف الناتو واحتل أفغانستان، يعني المرحلة التي لم يدركها كثير من شباب اليوم.
هل هزمت أمريكا وحلف الناتو في أفغانستان؟
نقول وبالله التوفيق: هل هزمت أمريكا وحلف الناتو في أفغانستان؟ الجواب الذي لا شك ولا تردد فيه: نعم، هزموا هزيمة مهينة جداً، وهي الهزيمة الأولى التي يتلقاها الغرب في العالم الإسلامي من عشرات السنوات.
إقرار الغرب بالهزيمة
تابع تصريحات الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع البريطاني وأنجيلا ميركل والصحف الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وستعلم أنهم يقررون بأن ما حدث هزيمة مهينة، حتى قالت الإندبندنت: "إذلال الغرب في أفغانستان قد اكتمل الآن".
الذي يظن أن الأمر لم يخرج عن إرادة أمريكا، وأن ما يحدث قد يكون ضمن ما تخطط له أمريكا، نقول له: أمريكا لن تُجازف بسمعتها العسكرية لأي سبب، ولن تُقر بالهزيمة لولا أنها حقيقية. فهي تبني تفوقها الاقتصادي على تفوقها العسكري، واهتزاز سمعتها العسكرية يتوقع له تبعات كبيرة، فلا يتصور أنها غامرت بهذا كله من أجل مؤامرة تخفيها عن العالم.
صحيفة الإيكونوميست نشرت مقالاً بعنوان: "الفشل الذريع في أفغانستان هو ضربة قاصمة لمكانة أمريكا". وفرانس 24 تختتم مقالاً لها بقولها: "واعتبر مراقبون أن سمعة الولايات المتحدة بصفتها قوة عظمى قد تضررت بشكل كبير". وصحيفة ميدل إيست آي البريطانية تنشر مقالاً بعنوان: "إذلال الولايات المتحدة في أفغانستان قد يكون نقطة تحول في تاريخ العالم".
وهناك الآن حالة من الهجوم الشديد داخل أمريكا على إدارة بايدن واستهزاء بها. لو كانت أمريكا حققت شيئاً من أهداف حربها على أفغانستان لأعلنته لتحفظ هيبتها وماء وجهها، بينما واقع الأمر أن أمريكا تتلقى الإهانات ولا تستطيع أن تدافع بشيء.
حتى قال أحدهم: "إذا أحسست يوماً أنك عديم القيمة، فما عليك إلا أن تتذكر أن أمريكا تكلَّفت أربع رؤساء وتريليونات الدولارات وحياة الملايين وعشرين سنة لتستبدل الطالبان بالطالبان". تصوَّر لو أن الإدارة الأمريكية أرادت خوض أي حرب بعد الآن، ماذا ستقول لشعبها حتى تكسب تأييده وتمويله؟ فنحن يا كرام لا نتكلم الآن عن لحظة عابرة عادية، بل عن عهدٍ جديد بالنسبة لأمريكا وتفوقها.
دحض نظرية المؤامرة
هذه النقطة الأولى: أنه لا ينبغي الشك في أن ما حصل هو هزيمةٌ وانكسار لإرادة النظام الدولي. يعني معقول أمريكا وحلف الناتو المشكل من ثلاثين دولة ودول أخرى معهم لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم في أفغانستان؟ نعم، لم يستطيعوا.
ماذا كانت الأهداف المعلنة للناتو عندما بدأ الحرب قبل عشرين عاماً؟ من أهم الأهداف: هزيمة الطالبان وإقامة نظامٍ ديمقراطي بالتعريف الغربي في أفغانستان. ما حصل هو العكس تماماً. لم تستطع أمريكا القضاء على الطالبان ففاوضتها مراراً على إلقاء السلاح والطالبان ترفض. فاوضتها على الشريعة فتمسكت بها الطالبان، فاضطرت أمريكا في نهاية المطاف للانسحاب.
وهذا الهدف كان يمكن تحقيقه دون عشرين سنة من الحرب وتكبد الغرب وأمريكا خصوصاً خسائر جسيمة في سمعتها وهيبتها العسكرية وجنودها وأموالها. الرئاسة الأمريكية لا تتحدث الآن عن إنجازات وتحقيق أهداف، وإنما عن تقليل الخسائر.
الرئيس الأمريكي يقول في خطابه: "أنا أقف بقوة وراء قراري، بعد عشرين عاماً تعلمت بالطريقة الصعبة أنه لن يكون هناك أبداً وقت جيد لسحب القوات الأمريكية". يعني أي كان وقت الانسحاب ستكون هناك خسائر. ويقول: "كم جيلاً من أبنائي وبنات الأمريكان تريدونني أن أرسل لمحاربة الأفغان؟ كم من أرواح الأمريكان؟ كم من شواهد القبور اللامتناهية في مقبرة أرلينغتون الوطنية؟" فهذه العبارات يا كرام وهذا الخطاب عبارات وخطاب المقر بالهزيمة ومحاولة الخروج بأقل الخسائر.
أين القدرات الاستخباراتية؟
طيب، أين القدرات الاستخباراتية لدى أمريكا والناتو؟ أليسوا يعلمون كل شيء عن المسلمين؟ أليسوا يخططون لعشرات السنوات للأمام؟ وكل ما يحصل الآن كان مخططاً له من قديم الزمان؟ لا. والأحداث تكذِّب هذه الصورة التأليهيَّة للغرب.
الرئاسة الأمريكية كانت قد صرَّحت بوثوق قبل شهرٍ من الآن أن طالبان لن تسيطر، وأنه تم إعداد جيشٍ أفغانيٍ قويٍّ. ثم لما حصل الانهيار السريع خرج بايدن ليعترف أن ما حدث لم يكن متوقعاً.
هل انتهت الحرب؟ التحديات المستقبلية
طيب، السؤال المهم جداً الآن: هل يعني هذا أن الحرب انتهت بكل أشكالها، وأن أمريكا والناتو استسلموا للأمر الواقع، وسيكفون عن الكيد لأفغانستان؟ طبعاً لا.
بوادر الكيد المستمر
وهناك بوادر مثل:
- دعم بعض الشخصيات في الداخل الأفغاني لإشعال فتيل حرب أهلية.
- التهديد بالمقاطعة الدولية والحصار الاقتصادي.
- إحداث أزمة مالية وتجميد أرصدة الدولة في الخارج.
- الضغط على الطالبان بكافة السبل لإشراك رموز من الحكومة السابقة ومن الشخصيات المحسوبة على الدول.
- محاولات الاحتواء الناعم من خلال بعض الدول الوسيطة.
- زراعة بذور النزاع الداخلي والتدمير.
ما لم يستطيعوا تحقيقه بقوة السلاح، فإنهم يسعون لتحقيقه بالطرق الأخرى.
طيب، هل من الممكن أن أمريكا تريد لطالبان أن تدخل في صراع داخلي أو حروب مع دول كروسيا أو الصين أو تكون حجر عثرة في طريق مشاريعهم؟ ممكن، وهذا جزء من السياسة الأمريكية، أنه حتى إذا سارت الأمور على غير ما يتمنون فإنهم يحاولون توظيف الحدث بخطة بديلة.
تفسير سرعة الانهيار
طيب، أليس هناك غرابة شديدة فيما يحصل من سرعة انهيار الدولة المدعومة من الغرب في أفغانستان وجيشها وسرعة سيطرة الطالبان على أفغانستان؟ نعم، وهذا له تفسيرات كثيرة مكانها التحليلات السياسية وليس كلمتنا هذه. ولكن نقول في عجالة يا كرام: أنت الآن ترى اللحظات الأخيرة من قصة استمرت عشرين عاماً، وتظن أن انقلاب الموازين تم في هذه الأيام فحسب، والأمر ليس كذلك.
ثم إن الطالبان كانت تعمل طوال السنوات العشرين الماضية، واستطاعت التعتيم من الإعلام العالمي، وظهرت حوادث تدل على أن لها أذرعاً في الجيش، وفساد الدولة العميلة خلال السنوات الماضية ولد حقداً عليها وسط الشعب الأفغاني. وأمريكا كانت تبحث عن انسحاب آمن، ويبدو أن ثمن ذلك في المقابل كان التخلي عن دعمها للجيش الأفغاني. وليس لدى المقاتل في الجيش الأفغاني الموالي لأمريكا عقيدة قتالية، فماذا تتوقع منه عندما يرى انسحاب أمريكا التي كانت تصرف مرتبه؟
وهل نضمن أن يثبتوا أمام الكم الكبير من الكيد والتحديات التي تنوء بحملها الجبال ولا يعصم منها إلا معية الله تعالى؟ لا نضمن أن تثبت، والمسلم يرجو لإخوانه المسلمين في أفغانستان أن يثبتهم الله.
الدروس المستفادة من الحدث
الآن النقطة المهمة إخواني مما سبق: كون أمريكا والغرب لن يتوقفوا عن العمل والتخطيط فيما يتعلق بأفغانستان، وأنهم ربما يريدون إقحامها في حروب داخلية وخارجية، وأننا لا نعلم ما سيكون في المستقبل ومدى ثبات الأفغان أو تأثرهم بما يكاد لهم. كل هذا لا يلغي حقيقة أن الغرب على قوته وجبروته وتخطيطه وترساناته قد هزم هزيمةً كبيرة، وأنه لم يستطع إنفاذ إرادته، وأن ثبات الأفغان حطم هيبة الإمبراطوريات المعاصرة، كما حطم ثبات الأفغان من قبل هيبة الإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفيتي.
حقيقة هزيمة الغرب
وكل ما ذكرنا يجب أن لا يمنعنا من الاستفادة الكبيرة جداً من هذا الحدث الضخم وتعلم الدروس الإيمانية منه. موقف خاطئ جداً أن نخلط بين الأمرين، فيمر هذا الحدث ونحن مشغولون بالتوجس والتشكك والترقب لقابل الأيام، فلا نستفيد منه الفائدة الواجبة. لكن نحن لا نريد أن نقع في الفخ ونكون مغفلين، أن تقع في فخ الشيطان ويستغفلك عندما لا تستفيد من حدث بهذه الضخامة.
يا أخواني هل تعلمون ما حدث؟ هل تتصورون ضخامة الموضوع؟ أربعون دولة فيها دول عظمى بترساناتها العسكرية اجتمعت على حرب مسلمين فقراء ضعفاء مادياً معهم أسلحة بدائية، حاربوهم لأنهم رفضوا الانصياع للنظام الدولي، وتحالف مع هذه الدول المنافقون في الداخل. واستمرت هذه الحرب عشرين سنة، كان قد سبقها حصار دام لسنوات. ومع ذلك ثبت المسلمون وأجبروا دول العالم العظمى في النهاية على الخروج صاغرة مهانة.
بغض النظر عن موقفك من الطالبان، لاحظ أني في كلامي هذا كله لم أتعرض لتقييم الطالبان في الماضي ولا الطالبان في الحاضر. فقط أقول لك: إياك يوم القيامة إذا سألك ربك لماذا كنت تقول في مسلم كذا وكذا أن تقول كان مصدر الإعلام العالمي الموجه، كان مصدر الـ CNN والـ BBC. لكن بغض النظر عن موقفك منهم، اعلم أن الناتو قتل في أفغانستان من المدنيين أكثر مما قتل من الطالبان.
وحسب تقارير غربية، كثير من الشباب لم يشهد ما شهدناه عبر هذه الأعوام العشرين. الجنود الغربيون كانوا قد قتلوا المسلمين في أفغانستان وتفننوا في قتلهم وعذبوهم واغتصبوا نساءهم واغتصبوا أطفالهم ذكوراً وإناثاً وحبسوهم وتلذذوا بتقطيع أصابعهم للاحتفاظ بها للذكرى، وقصفوا دور تحفيظ القرآن في أيام تخريج أبنائها من الحفاظ، وقصفوا بيوت عزاء الأفغان وبيوت أفراحهم، وتلذذوا بحرق جثث وأخذوا الصور بجانبها وتبولوا عليها، وبتروا بالقنابل أطراف الأطفال والرجال والنساء، ودفعوهم للملاجئ وللحدود حيث يموتون جوعاً وعطشاً وبرداً. وقد شهدنا هذا كله صوتاً وصوراً، وكثير من الشباب لا يعرف عنه شيئاً ولم يرَ إلا اللقطة الأخيرة.
ثم يأتيك البعض بكل بلاهة ليقول: ماذا سيحصل للمرأة الأفغانية الآن؟ سيفرض عليها الحجاب! بالله عليك يا حبيبي هذا اللي شاغلك؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. أليس من علامات حب الله ورسوله والموالاة في الله ورسوله أن تفرح لهذا الفرج على إخوانك المسلمين بعد هذا الذي ذاقوه؟ فيشغل كذلك عن الموقف الشرعي الواجب، من الفرح لإخوانك المسلمين، والاستفادة مما حصل معهم، وتلمّس أسباب الثبات التي أخذوا بها، وموالاتهم كما أمر الله.
درس إيماني عقدي
أهم ما جئت ألفت الأنظار إليه في كلمة اليوم يا كرام هو أن علينا أن نأخذ درساً إيمانياً عقدياً: أن القوى العالمية ليست آلهة، بل عباد مقهورون لقدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فمنه نستمد النصر وعليه نتوكل ولا نخاف إلا إياه سبحانه.
"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".
كثير من المسلمين كان قد تسرب لنفوسهم اليأس وتصوروا أن نصر الله لعباده مستبعد في زمن الطائرات والأقمار الصناعية والقنابل النووية. وصل كثير من المسلمين لمرحلة شرك الخوف، شرك الخوف من أعدائهم، وصلوا لمرحلة الشك في وعد الله. هذا الذي حصل في أيامنا يؤكد أنه لا أمريكا ولا الناتو ولا النظام الدولي آلهة تفعل ما تشاء. هذا الذي حصل حجة من الله على جميع خلقه.
الغريب أن الرئيس الأمريكي تعلم درس أن القوة العسكرية تفشل، بينما كثير من المسلمين غارق في التوجس وخلط الأمور ببعضها فلم يتعلمه. الرئيس الأمريكي يقول بوضوح: "الأحداث التي نشهدها الآن تدل بأساً على أنه لا يمكن لأي قوة عسكرية مهما عظمت أن تنتج أفغانستان مستقرة ومتحدة وآمنة". فهي التي عُرفت في التاريخ، الرئيس الأمريكي يقول: "فهي التي عُرفت في التاريخ بمقبرة الإمبراطوريات".
قد تقول: لكن ربما لن يصمد الأفغان في المستقبل، ربما ينصعون أمام المغريات والتهديدات، ربما يظهر في المستقبل آثار لاتفاقيات لم نطلع عليها. حتى ولو، ما قد يحدث في المستقبل لا يعارض حقيقة أنهم هزموا الغرب حالياً. حجة الله قامت بالأحداث الحالية على أن أعداء المسلمين مغلوبون إن ثبت المسلمون. ثبت هذا عياناً وحساً بعدما ثبت لدينا إيمانياً. إذا انحرف المسلمون بعد ذلك ففشلوا، فهذا لا يلغي هذه الحقيقة، بل يؤكدها أن نصر الله مقترن بطاعته، أن نصر الله مقترن بطاعته، فمن عصاه فشل.
مقارنة بالتاريخ
ماذا سيحصل في المستقبل؟ الله أعلم، لكن يبقى المبدأ ثابتاً، والدرس خالداً. خرج الاتحاد السوفيتي مدحوراً من أفغانستان، وكانت هزيمته فيها بداية تمزُّقه، لكن دبَّ الخلاف فيما بين الأفغان بعدها، فأصابتهم المصائب. هل ينفي هذا حقيقة أن الاتحاد السوفيتي هزم؟ أبداً، ونحن نسأل الله أن يثبِّت المسلمين هذه المرَّة على ما يُحِب، وأن يُبرِم لهذه الأمة من أمرها رشداً.
تحذير من خلط الأمور
كلمتي هذه يا كرام هي بمثابة الإطار والمقدمة، وإلا فهناك دروسٌ كثيرة من هذه الأحداث. بدأت بهذه المقدمة حتى لا يُقال لي في كل مرةٍ أعلِّق فيها على تفاصيل الموضوع: "يعني أنت مصدِّق يا مسكين أن ما يحصل حقيقي؟" نحن ندرك جيداً حجم الكيد، ولا نعلم ما سيكون في قادم الأيام. ولكننا لا نخلط الأمور ببعضها.
ختاماً: دعوة للنشر
ختاماً، عندما علَّقت على الأحداث قبل أيام على الفيسبوك بتعليق مختصر، قامت إدارة الفيسبوك بحذفه وتوجيه إنذار للصفحة وأرسلت أنها ستقوم بالحد من انتشار منشورات الصفحة. فنرجو منكم يا كرام المساعدة في نشر الكلمة للنفع المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله.
I have provided the full formatted transcript in the previous response. There is no content left to continue.