من أخطر المحاضرات الموثقة! كيف تحولت تركيا -قارن بما يحصل الآن في بعض الدول العربية
مقدمة: تحديات الدولة الإسلامية
الدولة الإسلامية كانت تواجه تحديات وجودية من أيام الصحابة، ومن أيام عبد الله بن سبأ، ثم الانقلابات الداخلية والحركات السرية والباطنية مثل القرامطة والحشاشين، وظهور دولة شيعية منافسة على يد الإسماعيليين العبيديين الذين سموا أنفسهم فاطميين، ثم كوارث المغول والتتار والصليبيين.
لكن بفضل الله، كل هذه الأخطار لم تقضِ على الدولة الإسلامية بأشكالها المتعددة، وكان دائماً هناك سلطان أو خليفة أو سمه ما شئت، وهناك مؤسسات تحكم باسم الإسلام وتقضي بالشريعة الإسلامية وتجبي الزكاة وتحفظ الأوقاف التي تشكل المجتمع الأهلي وتقدم الخدمات المدنية.
واستمر كل هذا الوضع بكل تحدياته إلى أن انقلبت كفة الحضارة على المستوى العالمي، ودخل المسلمون في حالة سبات طويل بالتوازي مع استيقاظ الغرب من سباته العميق، وبدء المؤامرة.
انهيار الدولة العثمانية: المؤامرات الداخلية والخارجية
الدولة العثمانية أنجزت مثل الدول الإسلامية السابقة إنجازات كبيرة، وربما تجاوزت ما قبلها، فمثلاً فتحت القسطنطينية وهي معقل الكنيسة الأرثوذكسية وعاصمة الإمبراطورية البيزنطية العريقة، وفتحت أوروبا الشرقية كلها ووصلت إلى أبواب فيينا.
لكن كما يقول ابن خلدون: "الدول كالإنسان تشيخ بعد الشباب، ولما تصل إلى القمة والعظمة تسقط في الدعة والرخاء حتى يتكالب عليها الأعداء". لكن انهيار هذه الدولة أثرت فيه مؤامرات داخلية كبيرة، وبشكل أكبر مما تعرضت له الدول الإسلامية السابقة.
بداية الضعف الداخلي
وبعدما ضعفت من الداخل انهارت عسكرياً في الحرب العالمية الأولى، والسبب أن القوى المخابراتية الأوروبية أصبحت في العصر الحديث أقوى مما سبق، ولأن التفاوت الحضاري كان لصالح الغرب هذه المرة بعكس المراحل السابقة من تاريخ العالم الإسلامي، ولأن الطغيان الداخلي أيضاً كان هائلاً حتى صارت الهوة كبيرة بين الشعب والسلطة.
ولأن مخططات بني إسرائيل للتغلغل في أوروبا عبر الجمعيات السرية والطوائف المغلقة، وبدأت من أيام الحملات الصليبية، هذه المحاولات نجحت أخيراً في القرن الثامن عشر بالوصول إلى هرم السلطة في عدة دول أوروبية.
اسم الكتاب "100 مشروع لتقسيم الدولة العثمانية من عام 1281 إلى 1913". هذا الكتاب من 600 صفحة، لكن بعد الترجمة اختصره شكيب أرسلان وأضاف عليه تعليقاته وسماه "التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي". قراءة الكتاب مرهقة جداً، هو يقدم مئة مؤامرة من أيام الحروب الصليبية، يعني قبل تأسيس الدولة العثمانية وحتى عام 1913، أي قبل انتصار المؤامرة الأخيرة على يد أتاتورك بعشر سنوات.
ستشعر وأنت تقرأ الكتاب أن أوروبا لم يكن لديها هم آخر سوى غزو بلاد المسلمين وقتلهم أو تحويلهم للمسيحية، ثم مؤخراً تحويلهم للعلمانية. بفضل الله كان المسلمون يواجهون كل هذه المؤامرات وإن فشلوا في بعضها فكانوا يعودون للنهوض، لكن النكبة الأخيرة مر عليها قرن وما زالت مستعصية حتى الآن.
من القرن السابع عشر بدأ انهيار الدولة العثمانية من الداخل، حين انغمس السلاطين وعلية القوم في الملذات. ولمن يريد أن يرى بعينه أنصحه بزيارة قصر طوب قابي وقصر دولما بهجة وبقية القصور المفتوحة للسياح في إسطنبول. التدرج من حياة التقشف في عصر محمد الفاتح إلى منافسة الأوروبيين على الأبهة واضح جداً في هذه القصور.
أول ما حدث هو تراجع الهمة على الفتوحات التي كانت قد وصلت إلى وسط أوروبا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب"، وفي حديث آخر: "سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". لذلك لما يتوقف التوسع يبدأ التقلص، وهكذا انتزع الروس والصرب بعض المناطق. ومع أن العثمانيين دخلوا في مناوشات وواصلوا القتال، لكن كل المعارك كانت لاستعادة ما سبق وليس لفتح بلاد جديدة.
ففي القرن الثامن عشر اندلعت عدة معارك مع الروس والنمساويين، وقاوم المسلمون وانتصروا عدة مرات، لكن لجأ الروس في النهاية إلى خطة الفتنة الداخلية بتحريك المسيحيين في الداخل. توالت الهزائم العسكرية على الدولة وتحالف الأوروبيون جميعاً على تكوين خلايا نائمة داخل الدولة العثمانية عبر الأقليات الدينية المسيحية وغيرها. وللأسف بنفس الوقت كان بعض السلاطين يواصلون حياة الترف بالرغم من هذه الأزمات، وكانت المؤامرات والاغتيالات داخل القصور في أوجها.
التغلغل الماسوني ويهود الدونمة
بدأ التغلغل الماسوني رسمياً في الدولة العثمانية مع تأسيس أول محفل سنة 1721، وكان هذا في إسطنبول، ثم توالى تأسيس المحافل واستقطاب النافذين والمفكرين إليها. كانت المحافل تسعى في أوروبا وأمريكا والدولة العثمانية في نفس الوقت لنشر الأفكار العلمانية، وكبار منظري الفلسفات التي رسمت الخريطة الأيديولوجية للعصر الحديث كانوا كلهم تقريباً أعضاء في المحافل، من ليبراليين وشيوعيين وعنصريين قوميين وانحلاليين إباحيين وغيرهم. كل الأفكار اللا دينية كانت تطبخ هناك وتعيد صياغة أنظمة وسياسات وثقافات العالم كله، وهذا جزء من النشاط المعلن وغير السري للماسونية.
بالتوازي كانت هناك طائفة تسمى يهود الدونمة تتحرك بكل الوسائل، وهم فئة من اليهود العثمانيين المواطنين الذين اتفقوا على إخفاء اليهودية وإظهار الإسلام، وقصتهم طويلة وتعود إلى حاخام يهودي اسمه شبتاي زيفي ادعى في القرن السابع عشر أنه المسيح المخلص وبايعه يهود العالم، ثم لما خاف من الإعدام أعلن إسلامه، ومن بعده واصل أتباعه الظهور باسم الإسلام والعمل على تدمير الإسلام في الخفاء من الداخل.
يقال إن هذه الفئة هي التي لعبت الدور الأبرز في افتتاح المحافل الماسونية وإدخال الأفكار القومية إلى الدولة العثمانية، وهذا كله بدعم غربي معلن أو خفي. لذلك الكثير من الشخصيات العلمانية المشهورة في التاريخ العثماني وربما حتى الآن لا نعرفها إلا بأسماء عربية إسلامية بينما هي في الحقيقة يهودية.
الحركة الصهيونية وجمعية تركيا الفتاة
وفي عام 1876 وبعض الدول تنشق وتنفصل وتتحالف مع العدو، وبنفس الوقت ظهرت الحركة الصهيونية وجاءت بكل جرأة إلى الخليفة لتطلب منه أن يبيعها فلسطين، وقصة رفضه معروفة. وفي عهده أيضاً قفزت الماسونية قفزة كبيرة وتشكلت جمعية تركيا الفتاة وهي ترفع نفس شعارات الماسونية حرفياً. الطريف أن أول مقرات هذه الجمعية افتتحت في باريس وبرلين قبل أن تفتح فروعها داخل الدولة العثمانية. وكانت الخطة هي التغلغل في ضباط الجيش العثماني وتشكيل جناح سري اسمه تنظيم الاتحاد العثماني، وهؤلاء جميعاً كانوا يعارضون السلطان علانية ويستقوون بالغرب بدون حياء.
في عام 1906 انضمت تركيا الفتاة مع التنظيم العسكري المتضخم إلى جمعية جديدة اسمها الاتحاد والترقي، وكانت دورها تكرار تجارب المحافل الماسونية في إشعال الثورات الفرنسية والأمريكية وغيرها عبر استقطاب الضباط والنخب الفكرية والسياسية والمالية. حاول السلطان عبد الحميد مقاومة هذه الجمعيات ونادى بفكرة الجامعة الإسلامية، لكن لا حياة لمن تنادي. كان العرب في أضعف مراحل تاريخهم والمؤامرات الغربية متغلغلة في كل شيء، وكانت نخبة العرب في باريس تؤسس أيضاً جمعية العربية الفتاة بعام 1911. من داخل هذه المحافل خرجت أفكار القومية العربية.
عزل السلطان عبد الحميد الثاني
نعود للأستانة وهي عاصمة الخلافة وهي إسطنبول حالياً. جمعية الاتحاد والترقي أجبرت عبد الحميد الثاني على تغيير الدستور وغيرت نظام الدولة كله، وبالنهاية وصلت قوتهم في عام 1909 إلى أن دخل عليه في قصره اليهودي إيمانويل قراصو رئيس محفل سالونيك الماسوني، وسلمه باليد قرار عزله وتعيين محمد رشاد بدلاً منه، مع نفي عبد الحميد إلى مدينة سالونيك نفسها التي كانت معقلاً للماسونية وهي اليوم داخل حدود اليونان.
وكل ما ذكرته لكم من حقائق حتى الآن موثق ومعلن في مراجع العلمانيين والماسونيين، هذه ليست مؤامرة سرية يخجلون منها بل هي مصدر فخر لهم. ومن يفزع من كلمة مؤامرة ويعتبرها وهماً ونظرية خرافية برانوية عليه أن يقرأ فقط.
جرائم جمعية الاتحاد والترقي
الآن خذوا هذه المفاجأة: معظم الكوارث التي تلصق اليوم بالدولة العثمانية كانت تتم بيد جمعية الاتحاد والترقي ويهود الدونمة. مثلاً تهجير الأرمن كان بتدبيرهم، اضطهاد العرب في سوريا وبلاد الشام، وكل محاولات تتريك العرب والشركس والأكراد والأرمن كانت على يد هؤلاء المجرمين. جمال باشا السفاح الذي كان حاكماً على العراق ثم على سوريا وحاول أن يحكم مصر أيضاً، معظم العرب حتى اليوم لا يعرفون أنه كان من ضباط الاتحاد والترقي وكان مشاركاً في كل الجرائم السابقة، بل كان ممن تآمروا لعزل السلطان عبد الحميد.
مع ذلك، حتى اليوم وبعد مرور قرن، ما زالت المناهج الدراسية والمسلسلات العربية تقدم لنا جمال باشا السفاح على أنه ممثل للاحتلال العثماني، ويلصقون هذه الجرائم والاضطهاد بالخلافة الإسلامية مع أنه هو نفسه كان عدواً للخليفة وللخلافة أكثر من القوميين العرب.
المضحك المبكي أن الخصوم دائماً يتعاملون مع نفس العدو ويتصارعون فيما بينهم، يعني تركيا الفتاة والعربية الفتاة كلاهما تعلم على يد الماسونية في أوروبا وبنفس المحافل وعلى يد نفس المعلم، وعدوهم المشترك كان هو الخلافة والإسلام. وحتى حملوا نفس الشعارات لكن مع فارق واحد: الأولى حملت القومية التركية والثانية حملت القومية العربية، وكلاهما بنفس التعصب وبنفس الحماقة، ثم حارب كل منهم الآخر ووقع في نفس الفخ وما زال بنفس العقلية. واليوم ترى حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي في تركيا هو الوجه المقابل تماماً لقومية عبد الناصر وحزب البعث وكل الأشكال القومية العربية عندنا.
الحرب العالمية الأولى ونهاية الخلافة
نعود للتاريخ وما بعد عزل عبد الحميد، بقية القصة معروفة. قامت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 واضطرت الدولة العثمانية المتهالكة للانخراط فيها وهي لا تعلم أنها ستكون نهايتها. أثناء الحرب كان هناك ضابط من الاتحاد والترقي اسمه مصطفى كمال كان في الصفوف الأخيرة للمؤامرة ولا ينتبه إليه أحد. يرجح مؤرخون أنه كان أيضاً من يهود الدونمة، وهناك شكوك في أنهم اتفقوا مع مصطفى كمال أصلاً على الانسحاب والتظاهر بالهزيمة ليصبح هو البطل العسكري والوطني. وأنصحكم هنا بمشاهدة فيلم "غاليبولي" من بطولة ميل جيبسون حيث نرى في نهاية الفيلم أن الضباط الإنجليز يوجهون أوامر غبية للجنود ويضحون بهم فيموت الجميع بالمجان.
انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 واحتلت الجيوش الغربية إسطنبول عاصمة الخلافة. بدأت بذلك نكبة جديدة تماثل نكبة سقوط بغداد على يد المغول وسقوط القدس بيد الصليبيين. بدأ المحتلون فوراً بتقسيم جسد الرجل المريض ووزعوا بلاد العرب بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وهذا بعدما وعدوهم بتحريرهم من الأتراك فخانوهم.
السلطان محمد وحيد الدين كان جالساً على عرش هزيل والعدو يحتل بلده، أجبروه على توقيع معاهدة سيفر التي مزقت أوصال هذه الدولة. لكن حتى يصعد البطل البديل، رفض مصطفى كمال وأعلن المقاومة. طبعاً لم يقاوم فرنسا وبريطانيا وإيطاليا معاً، بل راح يقاوم اليونان الضعيفة التي كانت قد احتلت خلال الحرب أجزاء من الدولة العثمانية، والدول الغربية جالسة تتفرج عليه حتى يصير بطلاً قومياً، أما السلطان فلا حول له ولا قوة.
انتهت المعركة وقال الحلفاء لليونان: "تعالي وقعي على تنازل للبطل مصطفى كمال". عزل السلطان محمد ووضع عبد المجيد مكانه حتى يوقع على معاهدة لوزان ويتنازل فيها للغرب عن كل الأراضي العثمانية باستثناء تركيا، يعني فقط جابوه حتى يوقع ثم خلعوه.
مصطفى كمال أتاتورك: إلغاء الخلافة وتغريب تركيا
أعلن مصطفى كمال نفسه رئيساً للجمهورية التركية في أواخر أكتوبر عام 1923، والشعب الذي كان يعيش صدمة الهزيمة والاحتلال لا يدري هل يحتفل أم يحتج. هم قدموا له اللعبة كلها على أنها هزيمة للخليفة الضعيف أمام العدو الغربي وليست مؤامرة داخلية، ونفى معه سلالة العثمانيين كلها.
كان مصطفى كمال في تلك المرحلة يقوم بحملة علاقات عامة، كان يخطب الجمعة وكأنه شيخ، ويلتقط صوراً وهو مع المشايخ ويدعو ويصلي، وفي كل مناسبة يقرأ الفاتحة والناس تؤمن على دعائه، وفي كل جولاته كان يصطحب معه زوجته لطيفة هانم بالحجاب والجلباب. لذلك مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) قرر بكل سذاجة أن يبايع الرئيس المؤمن لمنصب الخلافة، لكنه طلب منهم أن ينتظروا قليلاً، كانت أمامه خمسة شهور فقط ليعيد كتابة التاريخ.
إخواننا في الهند كانوا عايشين في نفس الغفلة، جمعية علماء المسلمين هناك كانت تسعى للاستقلال عن الانتداب البريطاني وإعلان الولاء لمصطفى كمال كسلطان وخليفة. نشطت الجمعية الهندية مع علماء ومشايخ في مصر لتقديم خطاب رسمي إلى مصطفى كمال يطالبونه فيه بالقبول بأنه خليفة. البند الأول يقول حرفياً: "المجاهد الأعظم مصطفى كمال باشا، يجب عليكم التفضل وقبول الخلافة وذلك لأجل حمايتنا نحن الناس الأسرى من التفرقة". البند الثالث كان يقول: "نحن الهنود لا نستطيع أن نعمل مع المصريين ولا مع الحجازيين ولا حتى السوريين والعراقيين لأنهم مثلنا أناس أسرى، وفي هذا الخصوص لا يوجد لهم رأي أو حتى حق في الكلام"، لأنه طبعاً كل الدول الإسلامية والعربية كانت تحت الاحتلال الفرنسي أو البريطاني وقتها.
تخيلوا بعد كل هذه العروض السخية مصطفى كمال رفض! هل هناك حاكم في العالم تأتيه شعوب أخرى وتقدم له الولاء وتتوسل إليه أن يقبل بأن يكون حاكماً لها ثم يرفض؟
صدمة سقوط الخلافة
أخيراً قطع مصطفى كمال على جميع طريق أحلامهم، وبعد خمسة شهور فقط على استلامه منصب الرئاسة في 24 مارس 1924، أعلن أن تركيا الجديدة ستكون جمهورية على الطراز الأوروبي، يعني على طراز الأعداء الذين حاربتهم تركيا العثمانية، وأصدر قراراً بإلغاء الخلافة. وجدوا أنفسهم تحت رحمة المحتل الذي غدر بهم، والمصيبة أنهم كانوا بلا جيوش ولا دولة ولا كيان مؤسسات ولا نظام عسكري ولا اقتصادي ولا أي شيء يحاربون به سوى البنادق. والاحتلال ما خرج بعدها من هذه البلاد إلا بعدما وضع أنظمة حكم علمانية مماثلة لنظام مصطفى كمال أو أسوأ منه.
كانت الشعوب المسلمة المطحونة والرازحة تحت الاحتلال والتي خرجت لتوها من حرب طاحنة كانت مستعدة تماماً لتلقي الصدمة. تحدثت سابقاً عن مصطلح "العلاج بالصدمة" في حلقة من برنامج "الإلحاد غير البريء"، وتحت نفس هذا المسمى أرى أن ما حدث للمسلمين في تلك المرحلة هو صدمة سقوط الخلافة. وتحت تأثير الصدمة كان هناك من يسابق الزمن ليضع الحكم الإسلامي والشريعة الإسلامية وأخلاق الإسلام في المتاحف. وقبل أن تستيقظ الشعوب المقهورة من تلك الصدمة، مصطفى كمال كان ينفذ الخطة في عاصمة الخلافة المنهارة، والاحتلال الأوروبي المباشر كان ينفذ بقية هذه الخطة في بقية الدول المسلمة.
ولمن لا يزال يبرر لمصطفى كمال انحيازه نحو الغرب، عليه أن يعيد قراءة معاهدتي سيفر ولوزان. الدولة العثمانية لم توقع على شروط تجبرها على أن تصبح دولة غربية تحارب الإسلام. لم تكن معاهدات الاستسلام مذلة كالتي أجبروا اليابان على توقيعها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وحولوها إلى الدولة غربية. وصحيح أيضاً أن حلفاء المنتصرين أرادوا أن يذلوا العثمانيين والألمان بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى ونهبوا خيراتهم. لكن لاحظوا كيف أدت هذه الهزيمة المذلة في ألمانيا إلى شعور شعبي عارم بالقهر استغله هتلر بعد عقدين فقط وصعد به إلى السلطة وحول هذا الشعب إلى وحش هائج لا يكاد يشبهه في التاريخ سوى شعب المغول، وحتى خرج هذا الشعب ليحتل كل إمبراطوريات العالم العظمى في الحرب العالمية الثانية.
أما مصطفى كمال وعصابته كان دورهم هو العكس تماماً، وهو تطبيق الإذلال الخارجي في الداخل لمحاربة ثقافة هذا الشعب ودينه. هتلر كان يبحث عن أي أسطورة في التاريخ أو في العلم المزيف ليثبت لشعبه أنهم الشعب المختار المتحدر من سلالة الآريين الأكثر تطوراً في البشرية. أما مصطفى كمال فمع أنه كان قومياً فعلاً، لكن كان دوره هو تحطيم العامل الوحيد الذي كان يعتز به الشعب التركي والذي تمكن به من إسقاط الإمبراطورية البيزنطية العظيمة وفتح نصف أوروبا وهو الإسلام. هو نفسه اكتفى بشعارات البطولة على اعتبار أنه حقق إنجازات في الحرب وأجبر الشعب على التغني بها، أما الشعب نفسه فيجب أن يخنع ويتبرأ من دينه ويقطع الصلة تماماً بتاريخه. ولو أنه فعل مثل اليابان لكان أقل سوءاً.
اليابان مثلاً قابلت بالهزيمة العسكرية ولم يتحول الألم لديها إلى حقد مثل الألمان، وحولت طاقاتها التي كانت مخصصة للصناعات العسكرية إلى التكنولوجيا، وتحول طموحها من النفوذ السياسي واحتلال دول الجوار إلى طموح اقتصادي. يعني لما كان الأوروبيون المنتصرون مشغولون بمواكبة التطور العسكري كانت اليابان في المقابل تسبقهم تكنولوجياً في كل شيء. أما مصطفى كمال فلا هو استعاد كرامة الشعب المهزوم مثل ما فعل هتلر، ولا حرضه على إثبات نفسه في ميدان المعرفة والتكنولوجيا مثل اليابان. هو تحول فقط إلى أداة بيد المنتصر لتدمير الإسلام في بلده. ولو كانت عاصمة الخلافة محتلة بشكل مباشر مثل دمشق والقاهرة وغيرها ما كان الاحتلال سينتقم من الإسلام بنفس تلك الطريقة التي فعلها شخص اسمه مصطفى كمال.
قرارات أتاتورك التعسفية
للأسف مصطفى كمال كان يسابق الزمن لفك الارتباط بين الشعب التركي وتراثه الإسلامي الذي بناه العثمانيون طوال ستة قرون، وإليكم بعض الأمثلة للقرارات المجحفة التي كانت تصدر تباعاً:
في عام 1928 صدر قرار تغيير الأبجدية من الحروف العربية إلى اللاتينية، كي يصبح الجيل الجديد عاجزاً عن قراءة أي نص عثماني قديم، وأيضاً بالضرورة عن قراءة أي نص عربي وخصوصاً القرآن الكريم. ومن شدة عداء العلمانيين للإسلام والإرث العثماني كله، أطلقوا مشروع بيع أرشيف الوثائق العثمانية لمن يريد على أنها ورق يعاد تدويره، وكان سعر الكيلو ثلاث قروش فقط. قررت بلغاريا الدولة المجاورة أن تشتري خمسين طناً من هذه الأوراق ولم تكن تعرف ماذا فيها، اكتشفت لاحقاً أنها اشترت مليون ونصف المليون وثيقة وفيها كل التاريخ العثماني الحديث، فاحتفظت بها لأنه كنز لا يقدر بثمن. تخيلوا مثلاً أن الفاتيكان مؤخراً اشترى بعض هذه الوثائق من بلغاريا لأنها تتعلق بتهجير المسيحيين الأرمن مقابل الملايين. تخيلوا سخف العلمانيين عندما يملأهم الحقد إلى أين يصل!
من القرارات الحاقدة أيضاً: منع الأذان باللغة العربية، إغلاق مدارس الأئمة والخطباء، إغلاق آلاف المساجد والزوايا الصوفية والمؤسسات الدينية الوقفية، منع الحجاب على النساء في المؤسسات الحكومية، وإجبار الرجال على لبس البرنيطة الأوروبية، تغيير المناهج التعليمية لتصبح غربية بحتة، العطلة الأسبوعية صارت السبت والأحد نفس عطلة اليهود والنصارى، اعتماد التقويم الميلادي بدلاً من الهجري، اعتماد قانون العقوبات الإيطالي والقانون المدني السويسري. حتى الأسماء الإسلامية صارت محرمة، المسلم التركي الذي يريد تسمية ابنه بمحمد صار مجبوراً على تحريف الاسم ليصبح "مهمت". تخيلوا! وعشرات القرارات الأخرى التي توجت بإدراج مبدأ العلمانية في الدستور عام 1937. وكل هذه الإجراءات التعسفية حدثت خلال أقل من 15 سنة فقط. تخيلوا صدمة الشعب التركي الذي كان يرى هذا الانقلاب الهائل أمام عينيه في مدة زمنية قصيرة.
أتاتورك: نموذج للإسفاف الصريح
وبالمناسبة مصطفى كمال كان نموذجاً للإسفاف الصريح بعد انتهاء مرحلة النفاق. كان يطبق العلمانية والانسلاخ من الدين ومحاربته بنفسه. زوجته المحجبة كانت أول امرأة تخلع الحجاب في الدولة، وسرعان ما اقتدت بها زوجات المسؤولين ثم انتشر السفور في كل الدولة، وأشهرهن صبيحة كوكجن التي كانت أول كابتن طيار امرأة في تركيا وأطلقوا اسمها على مطار إسطنبول الآسيوي.
الآن لو نظرنا لواقع العالم في تلك المرحلة من زاوية أعلى سنجد أن معظم الشعوب بعد أول حرب عالمية كانت مستعدة لاستقبال موجة ما يسمى بـ "إرهاب الدولة". الشيوعية بدأ تطبيقها عملياً في روسيا والصين وغيرها. الفاشية المتطرفة التهمت إيطاليا والشعب المتحضر المثقف بدأ يصفق لمجنون اسمه موسوليني. النازية أيضاً صعدت في ألمانيا بعد فترة وجيزة، وهتلر تعلم من موسوليني كيفية استغلال الديمقراطية للتحول في زمن قياسي إلى دولة شمولية إرهابية. فرانكو في إسبانيا طبق نفس المبادئ وكان صديقاً لهما. عملياً أكثر من نصف أوروبا كان يرزح تحت أنظمة ديكتاتورية رهيبة، وصارت معظم دول العالم مسرحاً لأبشع عمليات القمع، ولكنه كان قمعاً ممنهجاً تستخدم فيه أحدث العلوم لتحويل البشر إلى عبيد وحتى لإجبارهم على الإلحاد وعبادة أشكال جديدة من الآلهة باسم التقدم ونبذ الرجعية.
تطرف العلمانية في تركيا
وحتى في المعسكر الغربي الليبرالي الذي لم يعرف الشيوعية ولا الشمولية وكان الشعار المرفوع فيه هو الديمقراطية والعلمانية والليبرالية، ظهرت تأويلات أخرى لتطبيق العلمانية وصار من الممكن تحت مسمى الليبرالية نفسها أن تجبر الناس على العلمنة في حياتهم الشخصية، وصارت العلمانية بذلك مقدسة مثل الدين تماماً. وهذا التطرف العلماني للأسف تم إدراجه في الدستور في دولتين فقط: فرنسا وتركيا. لكن فرنسا لم تكن دولة محورية في الدين المسيحي الكاثوليكي، بل هي أصلاً مهد الهرطقة والجمعيات السرية الشيطانية منذ قرون، لذلك انطلقت منها الثورات إلى بقية الدول الغربية. أما تركيا فكانت عاصمة الإسلام والعلمانية طارئة عليها.
يعني تخيلوا مثلاً أن تتحول الفاتيكان إلى دولة علمانية متطرفة! هذا لا يحدث بحراك اجتماعي داخلي. يعني جيش الفتوحات الذي كان يجاهد في الشرق والغرب لنشر الإسلام وحماية الثغور تحول إلى حرس للماسونية ويهود الدونمة والعلمانيين، ولم يعد أعداؤهم البيزنطيون والصفويون والصرب والروس والهنجار والبلغار واليونان كما كان في الماضي، صار للأسف أعداؤه فجأة هم شريحة ضخمة من الشعب المسلم الذي لا يريد العلمانية. بهذا الإرهاب كان مصطفى كمال يريد أن يلحق بالغرب كما يقول. تخيلوا إذن حجم النكبة التي تجرعها أجدادنا قبل بضعة عقود فقط.
أتاتورك: أبو الأتراك ونهاية المطاف
في عام 1934 سمى مصطفى كمال نفسه "أتاتورك" يعني "أبو الترك"، ونص القانون على أنه لا يجوز إطلاق هذا اللقب على أي شخص آخر، يعني شوفوا التأله كيف يقنن. بعد حوالي سنتين فقط أصبحت العلمانية مبدأ مقدساً في الدستور التركي، وهو ما لم تنص عليه معظم دساتير أوروبا. وفي عام 1930 تشمع كبد أتاتورك وعجز الأطباء عن علاجه، وهناك روايات متعددة عن سوء خاتمته على سريره في قصر دولما باشا بإسطنبول والذي كان من قصور العثمانيين.
وجاء من بعده من يتابع مسيرة القهر والحرب على الإسلام. وقد زرت أيضاً في أنقرة ضريحه "أنيت كابير" وهو من أكبر الأضرحة في العالم لترسيخ صورة الإله الفرد. ولو لم أكن أعلم أنه كان ماسونياً لاكتفيت بما رأيته من الطراز المعماري الذي يحمل كل حجر فيه بصمة الماسون الذين كانوا يسمون أنفسهم "البنائين الأحرار". ولمن يريد الاستزادة أحيله إلى مقال "الماسونية" في موسوعة السبيل وفيه توثيق لزيارة أعضاء المحفل الماسوني الدورية لضريح أستاذهم أتاتورك. الرابط تجدونه في وصف هذا الفيديو.
وهذه صورة لقبر عصمت إينونو خليفة أتاتورك والمدفون بنفس المكان أيضاً في نفس الضريح، والذي كان لا يقل تطرفاً وكراهية للإسلام عن أستاذه أتاتورك. وهو تولى رئاسة الأركان ورئاسة الحكومة عدة مرات ورئاسة الجمهورية قبل أن يموت عام 1973.
محاولات استعادة تطبيق الإسلام
طبعاً الكثير من المسلمين الترك لم يقبلوا بالانقلاب على دينهم وتاريخهم. ولما أصدر مصطفى كمال قرار إلغاء الخلافة في عام 1924، أعلن الشيخ سعيد بيران الثورة المسلحة، لكن ما كان بيده سلاح ولا قوة بل مجرد ثورة شعبية عاطفية. لذلك لما طلب هو من الشيخ بديع الزمان النورسي أن ينضم إليه رفض النورسي وقال له: "هذه الثورة ستدفع الأخ لقتل أخيه"، يعني حرب أهلية. ومع أن النورسي رفض الثورة اعتقله العلمانيون ونفوه مع الكثيرين إلى بوردو، وظل حوالي 25 سنة يترحل بين السجون والمحاكمات، وبنفس الوقت كان يؤلف رسائل النور الشهيرة ويكافح سلمياً ضد العلمانية.
الشيخ سعيد بيران وبديع الزمان النورسي
وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره أدرك النورسي رحمه الله أن الإصلاح السياسي مستحيل. كان واضحاً تماماً أن ما تمر به الأمة غير مسبوق في تاريخ الإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فحتى بعد مقتل آخر خليفة عباسي على يد المغول، وبعد سقوط القدس في يد الصليبيين، وحتى بعد سقوط الأندلس أيضاً في يد القشتاليين، كل هذه المحن لم تصل إلى مرحلة انهيار الخلافة نفسها. كانت الخلافة تغيب في مكان وتبرز في مكان آخر، لكن هذه المرة هي المرة الأولى التي لا يوجد فيها ظهر للمسلمين على وجه الأرض. كل بلادهم محتلة وممزقة، وعاصمتهم الأستانة التي سماها محمد الفاتح "إسلامبول" أي أرض الإسلام صارت للأسف معقلاً للماسونية والعلمانية.
هنا توجه النورسي إلى الإصلاح الشعبي ومحاولة إعادة الإيمان إلى القلوب، أو على الأقل مواجهة المد العلماني في المجتمع على أمل أن يخرج جيل جديد يحمل الراية ويستعيد مجد الأمة المهزومة.
حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين
كان هذا في تركيا، أما في الدول العربية فكان الصراع ضد المحتل البريطاني والفرنسي كما قلنا. ومع أن بعض الدول بدأت تستعيد حريتها فيما سمي بـ "جلاء المستعمر"، لكن المحتل لم يكن يخرج من أي بلد إلا بعد أن يضمن أن النخبة العسكرية والسياسية والتجارية صارت معلمنة ومهزومة حضارياً ومهووسة بتقليد الغرب.
وضع البنا خطة عملية لتحضير الشعوب لتستعيد قوتها وكرامتها وتؤسس للخلافة من الصفر، وكان يتجول في أنحاء مصر ليؤسس جمعيات شبابية لتكون نواة المشروع، ثم انطلقت الفكرة إلى الخارج ونشأت جماعات أخرى تحمل نفس الرسالة في بقية الدول الإسلامية. بقية القصة معروفة طبعاً، تم اغتيال البنا وكان لسه عمره 43 سنة، ولاحقت الحكومات العلمانية الجماعة في كل مكان. وطبعاً هناك جدل طويل حول مسؤولية الجماعة عن العنف والاغتيالات في تلك المرحلة، ولن نخوض الآن في هذا الأمر لأن لكل طرف روايته. لكن اتضح في النهاية أن أهداف جماعة الإخوان كانت سامية، وربما وسائلها كانت فيها الكثير من الرومانسية، أما الأدوات فكانت ضعيفة للغاية، وخصوصاً بالقياس إلى أدوات الخصوم سواء الحكومات التي رباها الاحتلال على يده أو الغرب الذي بات وسيطر على العالم كله. وهذا ينطبق تحديداً على كل الجماعات التي حملت السلاح سواء من داخل الإخوان أو المنشقة عنها أو المتأثرة برسالتها.
يبدو أن العرب ما كانوا لسه متحررين من الصدمة ولديهم بقايا العنفوان والعزيمة. ولستم بحاجة لتعرفوا إلى الذي انتهت إليه جماعة الإخوان الآن بغض النظر عن أخطائها التراكمية الكارثية. الآن الجماعة صارت خارج الزمان تماماً وليس فقط خارج المشهد السياسي بعد انقلاب السيسي وإعلانها حركة إرهابية في عدة الدول العربية.
عدنان مندريس والانقلاب العسكري
نعود إلى تركيا. بعد 21 سنة من الإرهاب العلماني وحكم الدولة بحزب واحد (حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك)، انشق عدنان مندريس وبعض أصدقائه عن الحزب وأسسوا الحزب الديمقراطي متحدين بذلك إجراءات منع الأحزاب. شارك في الانتخابات عام 1950 وفاز بأغلبية ساحقة، وكان هذا أكبر دليل على أن غالبية الشعب التركي ضد العلمانية الفجة. صار مندريس رئيس الوزراء وقام بإصلاحات اقتصادية وكسب قلوب الناس أكثر، ثم فاز بأغلبية ساحقة أيضاً في انتخابات عام 1954. وفي عهده انضمت تركيا إلى حلف النيتو وأقام علاقات قوية مع الولايات المتحدة حتى لا تدعم أمريكا الجيش العلماني ضده.
في عام 1960، حاول إنشاء تيار ديني حتى يخلط الدين بالسياسة ويعيد نظام الخلافة ويطبق الشريعة الإسلامية، وهذه كلها بالنسبة لهم جرائم. هنا تحرك الجيش فوراً واعتقلوا مندريس وأصدقائه الوزراء وأعدموهم في محاكمة شكلية على جزيرة معزولة والشعب لا يعرف شيئاً عما حدث. هكذا عاد الإرهاب العلماني ليقمع الناس عشر سنوات.
نجم الدين أربكان ومقاومة العلمانية
في عام 1970 بدأ المهندس الشاب نجم الدين أربكان بتحريك المياه الراكدة، فأسس حزب النظام الوطني بهوية محافظة نسبياً وتحدى العلمانيين، لكنهم قضوا على حزبه بعد تسعة أشهر فقط. فعاد وأسس بعد سنتين حزباً آخر سماه حزب السلام الوطني، وتمكن من المشاركة بالانتخابات والدخول للبرلمان. وفي عام 1974 صار جزءاً من الائتلاف الحكومي مع حزب الشعب وجماعة أتاتورك أنفسهم. وكان يحاول التحرك بالهامش المتاح له بصفته نائب رئيس الوزراء، فقدم مشروع قرار بتحريم الماسونية في تركيا وفتح العلاقات مع الدول المسلمة ودعم القضية الفلسطينية وأظهر العداء لإسرائيل. وكان يحاول بكل خطوة أن يرى إلى أي مدى يمكنه التمادي أكثر، لكن يبدو أنه لم يدرك أن إسرائيل خط أحمر. ففي عام 1980 تجرأ ودعا الشعب للتظاهر ضد إسرائيل. هنا قال له الجيش: "الزم حدك"، وقام قائد الجيش كنعان إيفرين بانقلاب عسكري جديد وعطل الدستور وحل الأحزاب واعتقل أربكان وجماعته، وشهدت الثمانينات موجة جديدة من القمع والإرهاب العلماني.
هذا الفيديو الأرشيفي تجدون رابطه كاملاً أسفل هذه الحلقة، وترون فيه كيف كانت المواطنة التركية المحجبة تقمع في بلدها لأنها تغطي رأسها.
مروة قاوقجي وحرب الحجاب
في عام 1984 تدخلت الدولة بكل جبروتها لتصدر قراراً بحظر قطع القماش عن رؤوس طالبات الجامعات، ولم يكن الهدف التضييق فقط على المحجبات بل أيضاً لمنعهن من التعليم، كما منعهن أتاتورك سابقاً من العمل، أي حتى يصبح العلم حكراً على العلمانيين فقط. وهذه الحرب المفتوحة على غالبية الشعب. مروة قاوقجي، والتي كان والدها من الأساتذة الجامعيين، والتي سأعود لقصتها بعد قليل، حيث اضطرت إلى ترك بلدها المسلم ومتابعة دراسة الطب في أمريكا دون أن يمنعها حجابها هناك عن العلم والفهم.
لم ييأس أربكان وعاد بعد ثلاث سنوات لتأسيس حزب الرفاه، وفاز بالأغلبية في انتخابات 1996 وصار رئيس الحكومة هذه المرة. وانطلق كالصاروخ نحو الدول الإسلامية يشكل تحالفاً عالمياً معها. وكان يظن أنه صارت السلطة بيده، مع أنه حاول يتملق الجيش ويظهر لهم أنه علماني وحتى وقع اتفاقيات مع إسرائيل بعدما هدده الجيش بانقلاب جديد. كل هذا لم يشفع له عند العلمانيين، وبدأوا بتحريك الإعلام والشارع ضده كالعادة. ولما أحس أن الانقلاب سيحدث مجدداً قرر أن ينقذ البلد من الفوضى ويستقيل. طبعاً حل الجيش حزب الرفاه، لكن أربكان الذي لا يكل ولا يمل أسس حزباً جديداً وسماه الفضيلة وخاض به الانتخابات مجدداً.
في هذه الفترة عادت مروة قاوقجي إلى تركيا وانضمت إلى حزب الفضيلة وترشحت عام 1999 للبرلمان بحجابها وفازت وسط ذهول العالم. قصتها طويلة يمكنكم أن تقرأوها على ويكيبيديا، وأتوقع أن معظم الشباب الذين ولدوا بعد تلك المرحلة لن يصدقوا أن العصر الحديث كان فيه مثل هذا السخف العلماني. البرلمان قامت قيامته عندما دخلت النائبة المنتخبة من الشعب قاعة مجلس الشعب ورأسها مغطى بالغطاء الذي ترتديه معظم نساء الشعب، يعني لو دخلت القاعة عارية ما كانوا أصيبوا بهذا الجنون. البلاد كلها دخلت في أزمة بعد هذا الحدث المدوي. بالنهاية اضطرت مروة للعودة إلى أمريكا ومتابعة دراستها في هارفارد أقوى جامعة في العالم، أما حكام وطنها فسحبوا منها الجنسية واعتبروها عدواً. وحزب الفضيلة نفسه حظروه عام 2001.
نهاية مسيرة أربكان
لكن أربكان المشهور بعناده عاد بعد ثلاث سنوات وأسس حزب السعادة، وعاد العلمانيون وحظروه. ولما تعبوا هذه المرة حاكموه وسجنوه وعمره 77 سنة، وظل ممنوعاً من النشاط السياسي حتى مات في عام 2011.
محاولات استعادة تطبيق الإسلام (تكملة)
رجب طيب أردوغان: صعود العدالة والتنمية
في عام 2001 انشق رجب طيب أردوغان وعبد الله غل عن حزب السعادة وأسسوا حزب العدالة والتنمية، وشاركوا في الانتخابات عام 2002 وفازوا بأغلبية ساحقة. ثم فازوا في انتخابات 2007 و2011 و2015 و2018.
أردوغان كان رئيساً لبلدية إسطنبول، وعبد الله غل كان رئيساً للجمهورية، وأحمد داود أوغلو كان رئيس الوزراء، ثم أردوغان صار رئيس الوزراء ثم رئيس الجمهورية.
هؤلاء جميعاً كانوا من تلاميذ أربكان، لكنهم تعلموا من أخطاء أساتذتهم، فكانوا أكثر حذراً وذكاءً في التعامل مع الجيش والعلمانيين. لم يرفعوا شعارات إسلامية صريحة، وركزوا على الإصلاح الاقتصادي والتنمية، وحققوا نجاحات كبيرة في هذا المجال.
فتحوا المجال للحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية، وأعادوا تدريس القرآن الكريم والسنة النبوية في المدارس، وفتحوا آلاف المساجد والزوايا الصوفية التي كانت مغلقة. وأعادوا الأذان باللغة العربية، وأعادوا الاعتبار للتاريخ العثماني والإسلامي.
لكنهم واجهوا مقاومة شرسة من العلمانيين والجيش، وتعرضوا لمحاولات انقلاب عديدة، أشهرها محاولة انقلاب 2016 الفاشلة. لكنهم صمدوا بفضل دعم الشعب لهم.
التحديات المعاصرة
اليوم تركيا دولة قوية اقتصادياً وعسكرياً، ولها نفوذ كبير في المنطقة والعالم الإسلامي. لكنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة، منها:
- العلمانية المتطرفة: لا يزال هناك تيار علماني قوي في تركيا يرفض أي دور للدين في الحياة العامة، ويحاول عرقلة أي إصلاحات إسلامية.
- الجيش: لا يزال الجيش التركي يعتبر نفسه حامي العلمانية، وقد يتدخل في السياسة إذا رأى أن هناك تهديداً للعلمانية.
- القضية الكردية: لا تزال القضية الكردية تشكل تحدياً كبيراً لتركيا، وتؤثر على استقرارها الداخلي وعلاقاتها الخارجية.
- العلاقات الخارجية: تواجه تركيا تحديات في علاقاتها مع الغرب وروسيا وإيران والدول العربية، وتحاول أن تلعب دوراً متوازناً في المنطقة.
مقارنة بالدول العربية
ما حدث في تركيا يشبه إلى حد كبير ما يحدث الآن في بعض الدول العربية، حيث تحاول بعض الأنظمة العلمانية قمع أي تيار إسلامي، وتفرض العلمانية بالقوة على الشعوب.
لكن هناك فرق كبير بين تركيا والدول العربية. تركيا لديها تاريخ طويل من المقاومة الإسلامية، وشعبها لديه وعي إسلامي قوي. أما الدول العربية فمعظمها حديثة النشأة، وشعوبها لم تتعرض لنفس التجربة التاريخية التي تعرض لها الشعب التركي.
كما أن الدول العربية تعاني من ضعف اقتصادي وسياسي، وتدخلات خارجية كبيرة، مما يجعلها أكثر عرضة للقمع والاستبداد.
لكن في النهاية، إرادة الشعوب هي التي تنتصر. والشعب التركي أثبت أنه قادر على مقاومة العلمانية المتطرفة، واستعادة هويته الإسلامية. وهذا يعطي الأمل للشعوب العربية بأنها قادرة أيضاً على تحقيق ذلك.
الخلاصة
في الختام، قصة تركيا هي قصة صراع طويل بين الإسلام والعلمانية، بين الهوية والتغريب. وهي قصة مليئة بالدروس والعبر للشعوب المسلمة في كل مكان.
يجب علينا أن نتعلم من أخطاء الماضي، وأن نكون حذرين من المؤامرات الداخلية والخارجية التي تستهدف ديننا وهويتنا. ويجب علينا أن نتمسك بديننا وقيمنا، وأن نعمل بجد لبناء مستقبل أفضل لأمتنا.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.