→ عودة إلى مرئيات

مناصحة مفتوحة للدكتور طارق السويدان

٢٤ أبريل ٢٠٢١
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله. هذه مناصحة مفتوحة للدكتور طارق السويدان.

مقدمة المناصحة

سبب المناصحة وأهدافها

مناسبتها الجدل الذي دار بعد تغريداته الأخيرة، وحالة الإحباط التي حصلت بين كثير من المسلمين نتيجة الخلاف بين أطراف يحبونها ويحسبونها على خير. فنسعى لأن ينقلب الإحباط ألفة وهداية بإذن الله، راجين أن ينطبق عليه قول ربنا: {لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم}. ونسعى إلى أن نسد الباب أمام الحاقدين على الإسلام ممن يسرهم أن يروا خلافاً بين المنتسبين إلى الدعوة ومن يتابعونهم.

مناسبة النصيحة المفتوحة أن الدكتور طارق وفقه الله وإيانا لما يحب، كان قد نشر كلاماً إشكالياً يفهم منه أن الإسلام ليس شرطاً في دخول الجنة. فاستنكرته أنا وكثيرون غيري. فنشر بعده كلاماً فيه اقتراب من الحق. فنقول والله يا دكتور طارق لرجوعك إلى الحق أحب إلينا. واقترابك من الحق في هذه المسألة يطمعنا في أن تراجع نفسك في أمور أخرى.

وأنت لك يا دكتور فضل قديم في إحياء الهوية الإسلامية في الجامعات العربية وفي أمريكا، ولك جهد حبب كثيراً من الشباب في دينهم، ولك مواقف من الطغاة ومواقف في نصرة قضايا المسلمين. ونسأل الله أن يوفقك بهذه الأعمال إلى أن تعود إلى ما كنت عليه.

اعتذار عن الأسلوب لا عن المضمون

وأقول بوضوح: مع كبر الأخطاء التي ننكرها، إلا أني أعتذر للدكتور طارق عن الأسلوب، أعتذر عن أيَّة كلمةٍ جارحة وقد حذفتها، وأسأل الله أن يهديني لأحصن الأخلاق. أعتذر عن الأسلوب ولا أعتذر عن اعتبار ما أنكرته منكراً كبيراً.

لماذا المناصحة علناً؟

لماذا لا ترسل هذه النصيحة إلى الدكتور طارق سراً؟ لأن الأخطاء لم تكن سراً، وتأثيرها السلبي لم يكن سراً. ومع ذلك فنحن نطمع في أن تتحول هذه المناصحة إلى نقاش هادئ مفتوح يستفيد منه كثير من المسلمين. نريد أن تجتمع كلمة المسلمين، لكن أن تجتمع على الحق، ليس بالمجاملة على حساب الحق.

لذلك فأنا سأطرح ما عندي من مناصحة، ثم أنتظر من الدكتور طارق أن يناقشني فيها مشكوراً. أعرض الحجج والبينات التي أقول بها أنا وغيري ممن يخالفونك يا دكتور، فناقشنا فيها. وبين لنا مواطن الخطأ في الفهم، وإني والله حينئذ لراجع إلى الحق أنا أيضاً. أو يوضِّح أحدنا مقصوده، أو ليقول أي مننا يا دكتور أخطأت وأعود إلى الصواب في المسألة. وحينئذ فوالله سنرتفع في عين الله أولاً ثم في أعين الناس، وسيكون ذلك سبباً في اجتماع كلمة كثير من المسلمين على الخير في هذا الشهر شهر التزكية، وفي هذا الظرف الذي يتعرض فيه المسلمون في الأقصى وخارج الأقصى لما يتعرضون له.

ولك علينا يا دكتور أن نبذل وسعنا ليبقى النقاش هادئاً. ليس من عادة إخواني أن أطلع على كل التعليقات ولا أن أحذف كل التعليقات المسيئة لي شخصياً، فلا وقت لذلك. وكثيراً ما أستحي أن أشغل أوقات إخواني المعينين لي في الصفحة بأن أطلب منهم ذلك. لكن عملاً على تهيئة الأجواء الهادئة الصحية سأطلب بإذن الله من بعض الإخوة أن يحذف كل ما فيه إساءة.

المشكلة الجوهرية: الغبش في مسائل الإيمان

الخلل في الطروحات المتكررة

ما المشكلة يا دكتور طارق؟ المشكلة ليست مع منشور مبهم أسيئ فهمه حسب تعبيرك يا دكتور. ليست المشكلة زلة عابرة تمسكنا بها، بل إننا نحاول أن نصحح المفاهيم دون ذكر الأشخاص ما استطعنا، وكانت لي انتقادات كثيرة جوهرية من سنوات طويلة ولا أنشرها، لكن الأمر بلغ حداً جعلني أستنكر علناً أنا وكثير من الإخوة الفضلاء على طروحاتك.

المشكلة يا دكتور هي مع الغبش الشديد والتعبيرات المشوشة التي تحمل على وجوه في غاية الخطورة في أهم قضية ألا وهي اليقين والحسم في مسائل الإيمان والشرك والكفر. وهذا تكرر في عدة منشورات ومحاضرات وفي برنامج الوسطية الذي عرضته يا دكتور من سنوات طويلة، وهو الذي ولد مثل المنشورات الأخيرة التي أثارت الجدل.

وتدليلاً على وجود هذه الإشكالية سآخذ نماذج محددة، قد تقول بعدها يا دكتور: "لكن أنتم أسأتم فهمي حتى في هذه الكلمات، فما أقصده هو ضرورة أن يكون المسلم من دينه على بينة، ويكون منفتحاً إذ ليس لديه أصلاً ما يخشاه لأن دينه دين رصين، أما أنه يؤمن هكذا دون معرفة لماذا يؤمن فإن هذا سيؤدي إلى ضعف العقيدة والهشاشة أمام الشبهات وضعف الحجة في دعوة الآخر".

قد تقول هذا جميل، نحن متفقون على ذلك. لكن عندما يتكرر أن يستنكر أهل العلم والدعوة كلامك، فلا يكفي في كل مرة أن نلقي اللوم على سوء الظن وسوء الفهم. حضرتك لك باع طويل في الإعلام ومعاينة أفهام الناس ولا يخفى عليك هذا. لذلك دعنا نقف وقفة جادة لنرى هل هناك مشكلة منهجية ولدت هذه الخلافات؟

نموذج من محاضرة 2017: "الحق المطلق"

مثلاً في المعرض الرابع للكتاب في إسطنبول عام 2017 (هو إحنا رجعنا إلى 2017؟ نحن وإخواني نعود لنماذج محددة لنعرف أصول الخلاف حتى نتناقش ونتفق على الحق بإذن الله). عندما تقول يا دكتور: "لأنه لما أنا أعتقد أني أنا أملك الحق المطلق، عندي الحق المطلق، تجب كل واحد صاحب دين آخر يعتقد أنه عنده الحق المطلق، مشكلة؟ وإحنا نطالب الآخرين ونقول لهم تعالوا ادرسوا ديننا لأن هذا الدين الحق. الرسول صلى الله عليه وسلم على فكرة ما كان يعمل هذا. نعم، الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا".

ما يُفهم هنا هو أنَّ الإسلام ليس حقاً مُطلقاً. راجع نفسك يا دكتور لترى كيف يتعارض هذا مع ما تُؤمن به أنت. فأنت تؤمن بالآيات الكثيرة القائلة: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}. حق نسمي أم حق مُطلق؟ وإن كان حقاً مُطلقاً فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

أنت يا دكتور تؤمن بقول الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}. لم يقل الله تعالى: "لا يعلمون أنه الحق بالنسبة لكم"، بل "لا يعلمون أنه الحق من ربهم". هناك حق واحد من ربهم. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. هل هذا يعني الحق النسبي من ربك فلا تكونن من الشاكين في هذا الحق النسبي غير المطلق المش أكيد مئة في المئة؟ كلمة حق بمشتقاتها وردت في القرآن ما لا يقل عن مئة وسبعين أو مئة وثمانين مرة.

كيف يا دكتور نفهم قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}؟ ثم لم يرتابوا يعني لم يشكوا في أن ما يؤمنون به هو الحق المطلق وجاهدوا على ذلك بأموالهم وأنفسهم. {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} يعني لا شك في أنه الحق المطلق. إذا كان الإسلام هو الحق المطلق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

الخلط بين الحق المطلق والطغيان

تقول يا دكتور: "لأني لما أعتقد أني أمتلك الحق المطلق وكل الأديان الأخرى ضالة مضلة دخلنا في الطغيان". لسنا نحن من وصفنا الأديان الأخرى بأنها ضالة مضلة، بل هذا هو وصف الله لها كما في سورة المائدة قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. قال ابن كثير ما معناه: أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق كما صنعتم مع المسيح إذ جعلتموه إلهاً من دون الله، متبعين أهواء أسلافكم الذين ادعوا ذلك فضلوا وأضلوا.

ألسنا نقرأ في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}؟ أليس كلام المفسرين أن ذلك في أهل الكتاب أو أنهم على الأقل داخلون في الوصف ما بين المغضوب عليهم والضالين؟ وفي الحديث الذي صحَّحَه ابن تيمية وابن القيم والألباني وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون".

تقول يا دكتور: "نحن نطالب الآخرين ونقول لهم تعالوا ادرسوا ديننا لأنه الدين الحق. الرسول صلى الله عليه وسلم على فكرة ما كان يفعل هذا". ثم تؤكد وتقول: "نعم الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا". الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يفعل هذا لمَّا دعا الناس والمشركين وأهل الكتاب وكان يقول لهم: "تعالوا إلى الإسلام لأنه بالنسبة لي حق لكن لا أدعي أنه حق مطلق وأحترم رأيكم أن دينكم أنتم هو الحق بالنسبة لكم".

هنا لعلنا نتعاون مع الدكتور على إزالة اللبس. حضرتك تقول في نفس المحاضرة يا دكتور: "هل نريد أن نزرع ثقافة تعزز أننا نملك الحق المطلق وكل مذهب آخر ودين آخر ليس فيه أي خير؟ هل هذه ثقافتنا؟" عندما نقول أن ديننا هو الحق المطلق، فهذا لا يعني أن الأديان الأخرى ليس فيها أي شيء من الخير، ولا ينفي أن أهل الكتاب في كتبهم شيء من الحق، مما بقي من الوحي الذي لم يحرف، لكنهم خلطوه بباطل. ولذلك خاطبهم ربنا عز وجل قائلاً: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ فهذا لا ينفي أبداً وصف أديانهم بأنها ضالة مضلة، لأنه لما يكون هذا الحق مختلطاً بشرك، وبما لا يليق بصفات الله تعالى، فالدين يوصف جملة بأنه ضال مضل.

الأمر ليس قسمة ثنائية إما أن أحترم الشرك والكفر أو أن أحتقر من أناقشه، فالإيمان بأن لدي الحق المطلق لا يمنعني من الجدال بالتي هي أحسن، ولا يمنعني من محاولة فهم منطلق الآخر لأناقشه.

عندما تقول يا دكتور طارق وفقنا الله وإياك للصواب: "مصيبة أن يغتر المرء بدينه والمصيبة مع الأيام تتطور إلى طغيان لأني لما أعتقد أني أمتلك الحق المطلق وكل الأديان الأخرى ظل مضلة دخلنا في الطغيان". عندما تقول هذا الكلام فنقول أولاً: اليقين بأن الإسلام هو الحق المطلق ليس اغتراراً بالدين، واليقين لا يعني الطغيان. أنا لما أوقن بأن ديني هو الحق المطلق هذا لا يجعلني أطغى وأظلم. وما نعمل عليه هو أن نحوّل اليقين في قلوب المسلمين بصحة الإسلام وبطلان الأديان الأخرى إلى رحمة بالأمم ودعوتها إلى الإسلام وإنقاذ لها من طغيان مستعبديها، لا أن يتحوّل اليقين إلى كبر وطغيان.

مغالطة "لو اكتشف دين أفضل"

طيب ماذا يعني؟ حتى وإن اعتقد ذلك هل اعتقاده هذا له أي قيمة إذا كان بلا دليل؟ هل إذا عابد البشر والبقر والحجر اعتقد أن دينه هو الحق المطلق فهذا يعطي وزناً لادعائه؟ ما تقوله يا دكتور يفهم منه أنه إذا أنا قلت أن علي الحق المطلق سيقول هو أنه على الحق المطلق فلنغلق الباب من أصله ونقول ليس أحد معه الحق المطلق، بل نقول فليدعي كل ما شاء كل واحد يدعي اللي بدو إياه ثم الدليل والبرهان يصدق المدعي أو يكذبه كما وجهنا الله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}.

تقول يا دكتور: "أعوز أسألكم سؤال قليلاً غريب، من فيكم وفي كلنا لو اكتشف دين أفضل من الإسلام مستعد يترك الإسلام فوراً وينتقل؟ يرفع ايده. التفتوا انظر، فأقلية شديدة جداً اللي رفعت ايدها. لحظة لحظة، إنتوا إيش تفرقوا إنتوا عن النصراني اللي متمسك بدينه؟ ما هو الفرق بينكم سامحوني وبين النصراني اللي يعتقد ان دينه حق ولا يمكن ان يكون هناك حق أحسن منه؟ مش كده؟ اللي ما رفع ايدهم قلت لا الإسلام هو الحق ما في اي حق آخر. أنا قاعد أقول لك لو اكتشف دين أفضل لو لو كيف ما ترفع ايدك كيف؟ طبعاً لا ترفع ايدك طبعاً ها مش كده؟ لأن احنا قاعدين ندعو كل الناس نقول لهم في شيء أحسن من اللي عندكم تعالوا شفوه، فلو تعاملوا بنفس تعامل الأغلبية اللي عندنا لا لا ما في شيء أحسن من اللي عندنا خلينا نسكروا الباب هذا كله مش عاوزين نسمع أصلاً. عرفتوا أين الخلل؟"

راجع نفسك يا دكتور ألا تخشى أن يفهم من كلامك هذا التسوية بين الإسلام الموافق للفطرة والعقل، والأديان المخالفة للعقل والفطرة؟ الإسلام القائم على الحجة والدليل، والأديان التي لا فيها حج ولا دليل؟ {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. نحن عندما ندعي أن من أسلم ففي الجنة ومن كفر بعدما بلغته الحجة ففي النار عندنا برهان، برهان على صحة الإسلام وبرهان من وحي الله المحفوظ.

التسوية بين الإسلام والأديان الأخرى

كيف يا دكتور تعتبر النصراني المتمسك بدينه مثل المسلم المتمسك بدينه؟ أنا أربأ بك عن أن تسوي بين الإسلام ودين يقول كتابه أن الله ثالث ثلاثة، وأن الرب استراح بعد خلق السماوات والأرض، وأنه صرخ كالثملان، وأنه صارع يعقوب حتى كاد يعقوب أن يصرعه، وينسب إلى أنبياء عليهم الصلاة والسلام زن المحارم وعبادة الأوثان والخيانة وشرب الخمر والتعري وغيرها.

نذكرك يا دكتور بقول الله تعالى في الآيات التي توضح أن التوحيد فطرة مغروسة في النفوس قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

الغبش في موضوع الحق المطلق يؤدي إلى ضعف النفور من الكفر والشرك، بل إلى النفور من تسمية الشرك شركاً والكفر كفراً، وكأن المشركين معذورون لأنهم يرون ما هم عليه هو الحق المطلق. لذلك لما تقول يا دكتور: "مناهج تدريس الدين المليئة بكلمات شرك وحرام ومرتد تخرج جيلاً من الإرهابيين والمتطرفين باسم الدين"، والكلام لا زال موجوداً من سبع سنوات.

نقول لك كما رد بعض الفضلاء حينها: عدد المفردات لكلمة شرك بمشتقاتها في القرآن مئة وثمانية وستين مرة، وكلمة كفر خمسمائة وخمس وعشرين مرة، وكلمة حرام بمشتقاتها ثمانين مرة. فهل القرآن كتاب تطرف وإرهاب؟ طبعاً أنا لا أدافع عن المناهج الدراسية في دول المسلمين، لكن نحتاج وقفة هنا يا دكتور لنلاحظ أن المشكلة ليست في استخدام ألفاظ شرعية مركزية في القرآن وأنها بذاتها لا تؤدي إلى التطرف والإرهاب، وأن الشرك يجب أن يسمى شركاً والمرتد مرتداً، لكن نواعي الشباب بالطريقة الشرعية في التعامل مع أصناف الناس كلهم. ألا تتفق معنا على ذلك يا دكتور؟

تراجعك أو توضيحك في شأن منشوراتك الأخيرة يجعلنا نطمع فيك أن تعدل وتراجع نفسك في هذه الأمور لعل الله تعالى يشرح صدرك وصدور أتباعك لما يوافق الدليل.

الضبابية في موضوع الحرية

إشكالية "من حق الناس أن تقول ما تشاء"

الضبابية في موضوع الحق المطلق يؤدي إلى الكلام الغريب في موضوع الحرية والذي يتأثر به كثيرون للأسف، مثل هذا القول: "من حق الناس أن تقول ما تشاء في غير الفساد الأخلاقي، الدعوة إلى الأفكار، الاعتراض على الدولة، الاعتراض على الحاكم، الاعتراض حتى على الإسلام لا عندي مشكلة به، حتى الاعتراض على الله تعالى وعلى رسول الله".

لأن الدكتور طارق نفسه لما رجع في هذا الكلام قال: "أول شيء إذا فهم إنسان أني أجيز الاعتراض على الله ورسوله فأستغفر الله تعالى لا أجيز رسوله هذا يخالف القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى نص صريح وواضح: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. لسنا مخيرين في هذه المسألة. ومن يرتدي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه مسألة محسومة في الدين". جميل الحمد لله.

لكن يا دكتور الضبابية ذاتها في موضوع الحرية حاضرة في الطرح كما في برنامج الوسطية. ثم إنك تشرح في هذا اللقاء أنك تقصد أن الناس الذين عندهم اعتراض على الله ينبغي مناقشتهم ومساعدتهم لتخلصوا من هذه الأفكار لا أن نمنعهم من التعبير للعلماء عما يجولوا في صدورهم فيموتوا كفاراً. طيب ما دمت لا تقصد أن من حقهم الاستعلان بالاعتراض على الله فهذا ينطبق أيضاً على الفساد الأخلاقي، إذا واحد عنده أفكار فاسد أخلاقياً فلا يمنع من التعبير عنها للعلماء لمناقشته أيضاً. فما الفائدة من قولك: "من حق الناس أن تقول ما تشاء في غير الفساد الأخلاقي حتى لو الاعتراض على الله"؟ هل نخطئ قول الدكتور أن هذا كان لا يقصده؟ لا، لكن أعود فأقول هناك ضبابية يا دكتور ينتج عنها هذا الكلام الإشكالي والمواقف المتعارضة.

فإذا لم يكن لدينا جزم وحسم بأن الإسلام حق المطلق فقد نتردد في الموقف من منع من يعترض عليه من أبناء المسلمين. وتصور يا دكتور لو بذريعة هذه العبارات المهمة منك صار كل واحد يريد التشكيك والطعم في الدين يعترض أمام العالم ويقول أنا أتساءل أليس من حقي أن أتساءل؟ بأتعلم نحن نناقش من عنده اعتراض على أحكام الله بروية وهدوء ونفرد لذلك السلاسل والحلقات، ولكن هذا لا يعني أننا نرى اعتراضه على الله علناً من الحقوق التي تحفظها الدولة الإسلامية حين تقام.

ألا تتفق معنا يا دكتور في أن القيمة الحاكمة المطلقة في الإسلام ليست الحرية بل الحق والعدل، وبالتالي فإذا خالفت الحرية قيم الحق والعدل كانت باطلاً وظلماً؟ إذا اتضح هذا الأصل فسيريحنا جميعاً من أي استشكالات في النظر إلى تشريعات الإسلام.

الفرق بين المنافقين والمعترضين علناً

وبالمناسبة قولك يا دكتور: "ألم يتكلم المنافقون بكلام سيء عن النبي عليه الصلاة والسلام ووضع هذا في القرآن الكريم؟" فأقول: المنافقون كانوا يلفون ويدورون {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ويلمحون بلا تصريح {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وإذا قالوا فيما بينهم كلاماً صريحاً في انتقاد النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته أنكروا بعد ذلك {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}. وما كانوا يجاهرون بالاعتراض على الله وعلى الإسلام ثم يتركون هكذا ويقالوا لهم من حقكم أن تعترضوا على الله.

خاتمة المناصرة

تأثير الضبابية على الأمة

لهذا كله يا دكتور طارق لما تنشر منشوراً عن آية بما يوحي بأن الكل سيدخل الجنة اليهود والنصارى والصابئين، لا تستغرب أن يفهم منشورك في سياق الضبابية السابقة والكلمات المشكلة المتكررة، لا سيما وأن النغمة الدولية وإعلام الدول والمناهج الدراسية تضرب على وتر توهين المفاصلة بين الحق والباطل وتوهين اعتزاز المسلم بدينه على أنه الحق المطلق. وقد بيّنت خطورة ذلك في حلقة تكفير المسلمين بهزيمتهم نفسياً. وهذا الذي يريده النظام الدولي يا دكتور طارق هو عكس مقصودك فيما نحسبك.

حضرتك تنصح الناس بالرجوع إلى كتابك مختصر العقيدة الإسلامية الذي كتبته قبل خمس وأربعين عاماً، أو إلى البرنامج الذي أذيع العام الماضي. طيب ليتك وفقك الله تحرص على أن يكون طرحك منسجماً لا يخالف بعضه بعضاً ليستفيد الناس من هذه الطروحات.

لما أطال معاذ بن جبل الصلاة غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟" فما بالك يا دكتور بمنشورات فيها كلام موهم قد يفتن الناس في هذه المسألة المصيرية، مسألة أن دين الله الذي ندعو إليه هو الحق المطلق.

نصيحة أخيرة وتساؤل مفتوح

نختلف معك يا دكتور في أمور أخرى لن نفصلها اليوم، ومنها استدلالك في موضوع الحق المطلق بحديث سويد وقصة الفتوحات في بلاد البوذيين ولنا في ذلك كلام كثير. ومنها الدعوة لقيم المواطنة والدستور والقانون بدل المصطلحات الشرعية التي تعتبرها لا تناسب زماننا. ومنها فتح الباب للناس على مصراعيه لرد الأحاديث إذا رأوها لا توافق عقولهم. لكن لن ندخل في مزيد من التفاصيل أملاً في أن ترد بالنسبة لهذه النقطة المفصلية التي منها المنطلق.

سؤالنا لك ببساطة شديدة يا دكتور: ألا يجب على المسلم أن يعتقد أن الإسلام هو الحق المطلق ليتمسك بدينه ويسعى لإنقاذ البشرية به؟ ونرجو أن نسمع منك إجابة ومناقشة علمية لما تم طرحه.

الدعاء والختام

نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشرح صدورنا جميعاً للصواب ويهدينا جميعاً سواء السبيل، وأن يُسدَّ بذلك الباب على الحاقدين الذين يسرهم أن يرون في خلاف، وأن تُثلَج بذلك صدور المؤمنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله.