السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
إخوتي الكرام، من المعلوم أن من أهم أسباب النجاح لأي مشروع وضوح هدفك، ومعرفة حجم قدراتك، ومتابعة الإنجاز، ثم التعديل في وسائلك وتخطيطك بحسب هذا الإنجاز. ولذا فقد ختمنا الحلقة الماضية بأسئلة ستة موجهة للإسلاميين المنخرطين في العمل البرلماني الانتخابي الدستوري، ولمن يؤيد مسلكهم، لنعرف إلى أين يسير هذا العمل. دعونا الآن نتعاون معًا في مناقشة هذه الأسئلة الستة.
السؤال الأول: ما هو هدفكم تحديدًا من الدخول في العملية الديمقراطية؟
المتتبع لتصريحات الإسلاميين البرلمانيين يلاحظ ارتباكًا في تحديد الهدف. فمرة يكون الهدف المعلن إعادة الخلافة الإسلامية التي ستكون عاصمتها القدس الشريف، وأن نعيد للأمة هيبتها. ومرة يكون الهدف تقليل الشر والمحافظة على بقايا الهوية الإسلامية، ومنع فلول الأنظمة الفاسدة من استلام الحكم مجددًا، لأنها إن استلمت فلن يعبد الله في الأرض بعد ذلك على حد تعبيرهم. ومرة يكون الهدف إقامة الشريعة وأسلمة مؤسسات الحكم ومؤسسة الجيش. ومرة يكون مجرد الصدع بالحق تحت قبة البرلمان، وتدريب الكوادر الإسلامية على العمل السياسي، وتخفيف الضغط على الدعوة، وأخذ حصتنا من الكعكة، مع إقرار بأن البرلمان ليس هو الطريق إلى إقامة الشريعة.
فهل الهدف فعليًا هو إقامة الشريعة والخلافة أم مجرد إصلاحات جزئية؟ الحاصل أن كثيرًا من الإسلاميين البرلمانيين إذا ما أرادوا حشد التأييد الشعبي لهم، فإنهم يبرزون ويرفعون الشعارات الرنانة والأهداف العظيمة كالخلافة وتحكيم الشريعة. ثم عندما يواجهون بالحقيقة المرة أنكم قد أضعتم أوقاتكم وشتتم جهودكم وميعتم قضيتكم بسلوككم طريق البرلمانات والانتخابات والدساتير الوضعية، يكون ردهم: "نحن لم ندعِ أصلًا أننا نريد تحكيم الشريعة من خلال هذا الطريق، إنما نريد تقليل المفاسد وإتاحة مساحة من الحريات لدعوتنا".
هذه الازدواجية غير مقبولة. عليهم أن يحددوا الهدف من البداية بدلًا من دغدغة مشاعر الناس بشعارات وطموحات يقرون هم أنفسهم من حين لآخر أنها لا تنال من خلال الديمقراطية. ثم لا يقبل من صاحب المشروع الإسلامي أن يكون كمن يخرج من بيته ويسير هائمًا على وجهه لا يدري إلى أين يتجه. "أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أم من يمشي سويًا على صراط مستقيم؟" فلا بد ابتداءً من تحديد الهدف لأسباب منها:
أولًا: أن الارتباك في تحديده يمنع الإسلاميين من مراجعة حساباتهم ومعرفة مدى نجاحهم المرحلي في تحقيق هدفهم، إذ أن الهدف الذي يريدون تحقيقه غير محدد.
ثانيًا: أن كثيرًا من الذين قعّدوا وأصلوا للمشاركة البرلمانية اشترطوا لجوازها أن يكون الهدف منها تحقيق مصلحة عامة كبرى شمولية، ووضعوا ضوابط للتنازلات التي يمكن أن تقدم في المقابل. وإذا بنا نرى الإسلاميين الذين يحتجون بفتاوى هؤلاء العلماء يتحللون من الضوابط ويقدمون التنازلات دون حد ولا قيد. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل مصالح أي أهداف جزئية ثانوية مظنونة لا عامة ولا كبرى ولا شمولية.
إذًا مطلوب من الإسلاميين البرلمانيين الإجابة بوضوح عن هذا السؤال: ما هو هدفكم تحديدًا من الدخول في العمل البرلماني الرئاسي الدستوري؟ وهذا السؤال ينبني عليه ما بعده، ألا وهو:
السؤال الثاني: ما هي التنازلات التي قدمتموها في البداية؟
أو بلغة البعض: المفاسد التي قبلتم بها؟ فإن العمل الإسلامي البرلماني قدم تنازلات ذريعة كالاعتماد على دساتير تجعل حق التشريع لغير الله تعالى، وإشراك العلمانيين، ورهن تطبيق الشريعة بموافقة البرلمان، والتأكيد على أنها ستطبق ليس دفعة واحدة وإنما بآليات غير واضحة، إلى غير ذلك مما سيأتي بيان عدم مشروعيته بالتفصيل بإذن الله عز وجل.
السؤال الثالث: ما هي المكتسبات أو المصالح التي من أجلها رضيتم بهذه المفاسد الكبرى؟
في الواقع، حتى يبرر الإسلاميون البرلمانيون لأنفسهم وللمؤيدين التنازلات المذكورة، فإنهم كثيرًا ما أعلنوا أهدافًا أو مكتسبات ومصالح عامة شمولية كبرى كتطبيق الشريعة وأسلمة نظام الحكم وإعادة عزة الأمة إلى غير ذلك. ومع قناعتنا بأن الأهداف العظيمة لا تنال بالتنازلات، إلا أن عظم الهدف برر في أنظار الإسلاميين البرلمانيين عظم التنازلات، فأصبحت التنازلات صغيرة نسبيًا ومسوغات في أنظارهم. واجتهدوا في التقليل من شأن هذه التنازلات والاستهانة بخطورتها وآثارها، وحديثهم في ذلك عظم الهدف كالاستمناء.
ولم تبدُ أية بادرة لتحقق الأهداف، لكن بقي الأثر المشؤوم وهو الاستهانة بالتنازلات. فتكرس هذا الاستخفاف وهذه الاستهانة بالتنازلات في نفوس الإسلاميين البرلمانيين ومن يؤيدون مسلكهم. وهذا ينقلنا إلى:
السؤال الرابع: هل لا زالت المكتسبات التي رجوتموها في البداية قائمة أم أنها بدأت تتساقط والطموحات تضيق؟
طبعًا عندما نرى أن العمل البرلماني فشل في فرض أية إرادة على مؤسسة الجيش، وأن البرلمانيين لم يستطيعوا بالطرق الرسمية ولا حتى إخراج أخواتنا النصرانيات اللواتي أسلمن من جدران الحبس الكنسي في بلادهم، فإنه يصبح من الهراء والهزل والضحك على النفس أولًا ثم على الناس أن يتكلم عن إقامة الخلافة الإسلامية وإعادة الهيبة إلى الأمة وإخراج الأمة بأكملها من سجن التبعية للغرب بالطرق الرسمية ذاتها. هذا يصبح عبثًا حقيقة.
إذًا فالواقع يقتضي منهم أن يعترفوا بأن المكتسبات تتساقط والطموحات تضيق. فنتوقع من الإسلاميين البرلمانيين أن يقولوا الآن: "هدفنا هو إتاحة بعض الحريات للدعوة، وعدم ترك مؤسسة الحكم للعلمانيين والفلول، ومنع الفساد الإداري والمالي، وإجراء بعض الإصلاحات الاجتماعية". وهذه مكتسبات جزئية ثانوية مظنونة غير قطعية. تنقلنا إلى:
السؤال الخامس: هل عدلتم في التنازلات بما يتناسب مع حجم المكتسبات الجديدة الثانوية نسبيًا؟
نحن نذكر الإسلاميين البرلمانيين: أنتم عندما قدمتم التنازلات الكبرى بداية، قدمتموها من أجل أهداف كبرى. بعبارة أخرى: رضيتم بمفاسد كبرى من أجل مصالح كبرى. الآن تدنت المصالح جدًا، فهل قللتم التنازلات جدًا في المقابل؟
للأسف ما نراه هو العكس تمامًا: زيادة التنازلات جريًا وراء هذا السراب المسمى بالمكتسبات والمصالح. وكلما انتبه الإسلاميون إلى اختلال التوازن الذي افترضوه بين المكتسبات والتنازلات، خدر شعورهم أمران:
الأول: هو الاستهانة التي تكرست في نفوسهم بالتنازلات التي قدموها، فبعد أن كانت تنازلات صغيرة نسبيًا أصبحت صغيرة بشكل مطلق.
الثاني: هو هبات الادعاءات غير الواقعية بأنه لا زال من الممكن تحقيق الهدف العظيم وهو إقامة الشريعة بهذا الطريق الذي سلكوه. وهذه الهبات ناتجة عن التخبط والارتباك المذكور آنفًا في تحديد الهدف. بل العجيب أنه بعد ظهور فشل التنازلات في تحقيق حتى هذه الأهداف الجزئية الثانوية، استنتج كثير من الإسلاميين من البرلمانيين أن ما عليهم فعله هو زيادة التنازلات. زيادة التنازلات كمن يشرب من ماء البحر ولا يرتوي. بان لهم أن عدوهم لن يسمحوا لهم بالتغلغل في أجهزة الحكم وهم يحملون أية صبغة إسلامية، فكان استنتاجهم: "إذًا فلنتجرد من حمل الهوية الإسلامية حتى نشارك في الحكم". فباعوا الهدف من أجل الوسيلة، وفعلوا كما فعل صاحبنا الذي أراد أن يكسو الأيتام كما ذكرنا في الحلقة الماضية. وصدق الله العظيم إذ قال: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان".
إذا كما رأينا ازدواجية وارتباكًا في تحديد الهدف، وتنازلات كبرى في مقابل مكتسبات صغرى، بل وموهومة، ومع ذلك يصر الإسلاميون ومن يؤيد المسلك البرلماني يتمسكون باحتمالية تحقق الأهداف الجزئية الثانوية.
السؤال السادس: هل تعتبرون أنفسكم كإسلاميين في العمل السياسي حاليًا ممكنين أم مستضعفين؟
وهنا أيضًا نرى ازدواجية. فعندما يتحدثون عن المكتسبات المرجوة من الخوض في العمل البرلماني، يتكلم الإسلاميون البرلمانيون بنبرة الممكن. فهم يتكلمون عن انقلاب في الدستور، وأسلمة مؤسسات الحكم، وتغيير القيادات الفاسدة في الجيش. وهذه جميعًا لا يقوم بها إلا ممكن. وعند لومهم على التنازلات وعلى التصريحات الغريبة، فإنهم يتعذرون بالاستضعاف. فلنحدد قدراتنا وإمكانياتنا كإسلاميين، هل نحن ممكنون أم مستضعفون؟
الممكن له دوره وواجباته ووسائله، والمستضعف له دوره وواجباته ووسائله. ولا ينبغي الخلط بين الوضعين، وضع التمكين ووضع الاستضعاف. لا ينبغي أن تخوض هذا المخاض البرلماني زاعمًا أنك ستحدث انقلابًا كبيرًا في الأوضاع، ثم إذا بك تضفي شرعية على النظام الجاهلي، وتنفذ أجندته، وتفقد هويتك وتميزك، ثم تتعذر بالاستضعاف.
خلاصة: فقدان البوصلة والحل
لا يخفى أن ما سبق جميعًا يمثل حالة من الارتباك وفقدان البوصلة التي أصابت العمل الإسلامي، كانت بدايتها القبول بتقديم تنازلات عن ثوابت منهجية باستدلالات غير منضبطة كما سنرى بإذن الله. كانت هذه إضاءات سريعة، أتمنى من كل من يؤيد الخوض في اللعبة الديمقراطية أن يتأملها ويستحضر أثناء ذلك قوله تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله". وما رواه البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ". وأظن أن هذه الحلقة تحتاج أن تعيد سماعها مرة أخرى في ضوء هذه الآية وهذا الأثر.
في الحلقة القادمة سنتعاون معًا بإذن الله لنحدد الهدف الذي ينبغي أن نسعى من أجله جميعًا كعاملين للإسلام.
خلاصة الحلقة: القبول بالتنازل عن الثوابت جر العمل الإسلامي إلى متاهات خسائرها كبيرة مقابل مكاسب موهومة. فعلى الإسلاميين تحديد هدفهم ومعرفة أنه لا ينال بالتنازلات. والسلام عليكم ورحمه الله.