→ عودة إلى نصرة للشريعة

الحلقة 17 - عبودية الديمقراطية وبداية الزلل

٢٨ مايو ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله

عبودية الديمقراطية وبداية الزلل

ترك الشريعة على الباب قبل دخول البرلمان. فكرة البرلمان تقوم على أن الشعب ينتخب من يمثله ليقوم بتشريع القوانين له. وطبعًا القوانين التي نتكلم عنها ليست محصورة في أمور إدارية وفنية تركها الشرع لتقدير البشر، بل هي استفتاء للبشر في أمور حكم فيها رب البشر سبحانه وتعالى. وهذا مستند إلى مبدأ أن الشعب هو الذي له الحق أن يشرع لنفسه من القوانين ما يريد.

الديمقراطية ونقض الإسلام

لذا فالديمقراطية هي نقض للإسلام. فالإسلام هو الاستسلام والخضوع التام لحكم الله عز وجل، والاعتراف بأن حق التشريع هو له وحده سبحانه. وهذا من توحيد الربوبية، فكما أنه هو الخالق فهو صاحب الأمر المطاع: "ألا له الخلق والأمر، ألا له الخلق والأمر". وطاعته في تشريعه سبحانه هي من توحيد الألوهية، فتوحيد الألوهية يقتضي إفراده تعالى بالعبادة التي هي الطاعة والمحبة.

والديمقراطية نقض لهذا كله، فهي تجعل التشريع لغير الله، وتوجب الطاعة لغير الله تعالى في دين الله سبحانه. "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا".

مقارنة بين دين الله ودين الديمقراطية

في دين الديمقراطية إذا قضى الله ورسوله أمرًا فيعرض هذا الأمر على البرلمان ليختار، وللبرلمان الحق الكامل في أن يقبل حكم الله أو أن يرده. فإذا عصى البرلمان الله ورسوله فرأيه محترم لأنه يمثل الأغلبية.

في دين الله تعالى: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا". وفي دين الديمقراطية إنما كان قول الديمقراطيين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سنعرض حكم الله على البرلمان، فإن أذن البرلمان لحكم الله أن ينفذ نفذ.

في دين الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا". وفي دين الديمقراطية: فلا وربك لا يؤمنون بالديمقراطية إيمانًا صادقًا حتى يحكموا البرلمان فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم نية لاستغلال اللعبة الديمقراطية أو التخلي عنها مستقبلًا لفرض الشريعة، بل عليهم أن يسلموا بقواعد اللعبة الديمقراطية تسليمًا.

في دين الله عز وجل: "إن الحكم إلا لله". وفي دين الديمقراطية: إن الحكم إلا للبرلمان يحكم حتى على حكم الله. فالديمقراطية مناقضة للإسلام، حيث أن تعريف الإسلام هو الاستسلام والانقياد التام والإذعان لحكم الله عز وجل وتطبيق أمر الله تعالى لأنه أمر الله. والديمقراطية هي جعل البرلمان حكمًا على كل شيء حتى على شريعة الله.

الديمقراطية كأداة للغرب

فإن طبق حكم من الأحكام فلا يطبق لأنه واجب التطبيق من حيث هو حكم الله، إلا ليطمس بها الدعوة إلى تطبيق الشريعة مرحليًا، حتى إذا نال هذه الغاية انقلب على الديمقراطية ودعم أنظمة مستبدة تنفذ أجنداته غير ملتفتة إلى إرادة الشعب ولا حريته ولا كرامته.

ترى البلد من بلاد المسلمين يرزح تحت نظام مجرم يستبيح الأرواح والأموال والأعراض عقودًا طويلة بدعم من أمريكا والدول الأوروبية. حتى إذا سقط هذا النظام وتعالت الأصوات بإقامة دولة إسلامية وتطبيق الشريعة، أسرعت الدول الغربية لتتدخل في المشهد السياسي وحركت أذنابها في الداخل لينادوا بالديمقراطية، وانضم إليهم بقصد أو غير قصد بعض المنتسبين إلى العمل الإسلامي.

ثم ترى متابعة أمريكية حثيثة لإجراء الانتخابات وتغطية العرس الديمقراطي وثناء أمريكي على نزاهة الانتخابات واحترام إرادة الشعب. هذه الإرادة التي كانت أمريكا ذاتها والعالم الغربي تقدم الرشاوة للأنظمة الفاسدة بمقدار ما تقمع الشعب وإرادته، كما بين المؤلف نعوم تشومسكي في كتابه "ما الذي يريده العم سام".

طمس الدعوة إلى تحكيم الشريعة

في الواقع كل هذا لطمس الدعوة إلى تحكيم الشريعة تحكيمًا صحيحًا يقوم على أساس أنها شريعة الله. حتى إذا ما تم للغرب وأذنابه ذلك، وسحب الاعترافات من الإسلاميين المغرر بهم ومن جماهير الناس بالديمقراطية ومبدئها الشركي، واستدرجهم لمواقف معادية لتطبيق الشريعة، انقلب الغرب ذاته على الديمقراطية ودعم رئيسًا أو جيشًا يتفنن في قمع الشعب واحتقار إرادته، ويسخر البلاد والعباد لخدمة المصالح الأجنبية. فلم يكن للشعب إلا مرارة الديمقراطية التي فوتت عليه الشريعة، ولم يجني من حلو حريتها شيئًا.

وإن لم يتدخل الغرب بشكل سافر كما فعلت، فإنه يسعى على الأقل أن توصل الديمقراطية إلى الحكم نماذج ممسوخة تستعلن بعدم نية تطبيق الشريعة أو تضحي بالشريعة من أجل الحكم في طريقها الديمقراطي الذي سلكته.

خطابنا للشعوب

لذا فعلينا أن ننتبه نحن الذين نعارض الديمقراطية وننقضها إلى أن خطابنا للشعوب يشوه من الآلة الإعلامية ومن أذناب الغرب الذين يقولون للشعوب: هؤلاء يريدون فرض الشريعة عليكم، هؤلاء لا يريدون الحرية لكم، لا يحترمون إرادتكم، هؤلاء يروجون لشكل آخر من أشكال الاستبداد الذي ثرتم عليه أيها الشعوب. يعني باختصار يظهروننا أعداء للشعب ولحريته.

ينبغي أن نركز في خطابنا على أنه لا حرية حقيقية لك أيها الشعوب إلا بالعبودية المطلقة لله تعالى بتطبيق شرعه، وهذا يخلصك من العبودية للغرب وأذنابه. نحن دعاة الشريعة دعاة حرية وكرامة وسيادة للشعوب الإسلامية، سيادة على أهل الأرض بالشريعة التي يحملونها. قال الله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".

وهم الحرية في الديمقراطية

بينما الديمقراطية هي عبودية دنسة لغير الله، فهي في الظاهر عبودية العبيد للعبيد، وفي الحقيقة عبودية للغرب الذي يستخدم الديمقراطية لتمرير مخططاته الاستعبادية للعالم الإسلامي.

في الحديث الذي حسنه الألباني أن عدي بن حاتم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم"، فقال رسول الله: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم". فما استقر في ذهن الكثيرين من المسلمين أن الديمقراطية تساوي الحرية هذا وهم، بل الصحيح أنها عبودية. عبودية بدلًا من أن تكون عبودية لديكتاتور واحد فإنها تصبح عبودية لمجموعة من المشرعين وللغرب الذي يحرص على أن لا يستعز المسلمون بعبوديتهم لله تعالى.

الزلل في المشاركة البرلمانية

الإسلاميون هداهم الله عندما انخرطوا في العملية الديمقراطية قبلوا بقواعد هذه اللعبة الاستعبادية، الاستعبادية للبشر في ظاهرها وللغرب في حقيقتها. ولنأخذ مثالًا لذلك الحالة المصرية قبل سقوط رمز النظام السابق.

تغيير الموقف من المشاركة

كان كثير من الإسلاميين يقر بحرمة المشاركة في برلمان قائم على جعل حق التشريع للشعب ومحتكم في تشريعاته إلى دستور وضعي. ثم بعد الثورة افترضوا حدوث حالة من الفراغ التشريعي الدستوري، وبالتالي فقد اعتبروا أنهم لم يعودوا مطالبين بالتنازلات التي منعت من مشاركتهم في العمل البرلماني من قبل.

الصورة الساذجة للمشاركة

فسادت في أذهان البعض صورة مبسطة جدًا وهمية للمشاركة البرلمانية على النحو التالي: البلد في حالة من الفوضى، الشعب متعارض المطالب، فمنه المسلم والنصراني والعلماني، وكل واحد يريد أن يحكم بغير ما يريده الآخر. إذن فليس هناك طريقة للخروج من الخلاف إلا بأن يقوم الناس بترشيح النواب. هؤلاء النواب سيجتمعون تحت قبة البرلمان ليوصل كل واحد منهم صوت شريحة من الشعب. والمأمول أن يغلب الصوت الإسلامي لأن الأكثرية تدعمه، فيتخذ القرار بكتابة دستور إسلامي صرف يجعل الشريعة المصدر الوحيد للتشريع، فتقوم دولة إسلامية ويخضع الجيش ويسلم للإسلاميين مقاليد الحكم، ويقتصر دور الناس والبرلمان بعدها على الخضوع والانقياد للشريعة من حيث هي حكم الله عز وجل. وتتحقق هذه المصلحة العظيمة دون مفاسد تذكر.

فدخول البرلمان في هذه الحالة لا يعني الإقرار بالمبادئ الشركية للديمقراطية، بل إنما تفرغ الديمقراطية من مضمونها وتتخذ كوسائل وآليات، والنائب الإسلامي دوره إنما هو إيصال صوت الشعب أننا نريد تحكيم الشريعة، والنائب لن يلتزم بدستور وضعي بل الإسلاميون هم الذين سيكتبون الدستور.

طبعًا هذا التبرير الذي سنظهر بطلانه احتفى به من كان يرى أصلًا حرمة سلوك طريق البرلمان وأنه مزلة عقدية، وإلا فهناك أحزاب إسلامية كانت منخرطة في العمل البرلماني ومقدمة للتنازلات قبل الثورات ولا ترى فيما سبق جميعًا أي مزلة عقدية. وعلى كل فالصورة الساذجة المذكورة قد توهمها البعض عند الحديث عن الفراغ الدستوري. فهل هذا هو الذي حصل بالفعل يا ترى؟

الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية

بل الذي حصل أن الإسلاميين الجدد على العمل البرلماني ومن اللحظة الأولى التزموا قواعد اللعبة الديمقراطية، مهما رقعوا لذلك بمواقف ثانوية وتصريحات عاطفية لا تغير حقيقة الأمر. فأولًا التزموا المادة الرابعة من الإعلان الدستوري والتي جاء فيها: "ولا يجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أساس ديني". أرى أنه ما دام قد اتفقوا على أنه لا تكون هناك أحزاب دينية لأن هذا قد يؤدي إلى احتقان طائفي، خلاص يبقى ما فيش أحزاب دينية. "لا أرى أن تكون الأحزاب دينية، لا أرى أن تكون الأحزاب دينية". وهذا بداية الزلل.

تفاديًا لإرضاء حفنة من النصارى المتغطرسين وعملًا بإعلان دستوري قائم على الديمقراطية، وافقوا على ألا يكون الحزب دينيًا. وبالتالي تبعه الانصياع للقانون الوضعي الذي يحرم استخدام شعارات دينية في الحملات الانتخابية. إذن ما توهمه البعض من أن دور البرلمانيين الإسلاميين مقتصر على إيصال رغبة الشعب في تحكيم الشريعة هذا لا علاقة له بالواقع. لو كان هذا دورهم فإن الحزب لن يكون إلا دينيًا شعاره المعلن تطبيق الشريعة، إذ أنه ما أنشئ بزعمهم إلا من أجل ذلك.

خلع الشريعة على أعتاب البرلمان

لكن الإسلاميين خلعوا الشريعة على أعتاب البرلمان. فإنه في الحالة الوهمية الافتراضية التي تصورها البعض كانت الشريعة سبب وجود البرلمانيين كممثلين للشعب، وكانت الشريعة هويتهم وقضيتهم وسبب شرعيتهم، يستمدون شرعيتهم من الشريعة التي يحملونها ويريدون تطبيقها. مرة أخرى كان المفترض أنهم يستمدون شرعيتهم من الشريعة.

استمداد الشرعية من الشعب لا من الشريعة

لكن البرلمانيين بخضوعهم لهذه المواد فإنهم استمدوا شرعيتهم البرلمانية من الشعب الذي انتخبهم وليس من الشريعة. يستمدون شرعيتهم من الشعب الذي انتخبهم وليس من الشريعة. وهذا تسليم منهم بمبدأ الديمقراطية. يعني تصور النائب الإسلامي واقفًا على باب البرلمان يريد الدخول، فيقال له: بأي صفة تريد أن تدخل؟ فيقول: باسم الشريعة التي نريد أنا ومن انتخبوني تطبيقها. فيقال له: لا، هذا لا يعطيك شرعية لدخول البرلمان، عليك أن تقر بأنك إنما تدخل البرلمان باسم الشعب الذي انتخبك، وتستمد شرعيتك من انتخاب الشعب لك كمشرع لا من الشريعة. تستمد شرعيتك من انتخاب الشعب لك كمشرع لا من الشريعة. لن يقبل تصويتك على تشريع ولن يسمح لك باقتراح قانون إلا بصفتك ممثلًا عن الشعب المشرع.

فيخلع النائب الإسلامي الشريعة على الباب ويدخل البرلمان بهذا الشرط وبهذه الصفة، ويصول من ثم ويجول باسم الشعب الذي يستمد وجوده في البرلمان منه، تمامًا كما ترك صاحبنا الملابس على باب الدار الأيتام في حلقة "نجحت العملية ومات المريض". هذا الفرق الذي يظنه البعض ثانويًا هو مربط الفرس وأصل المسألة وبداية الانحراف وصرف حق التشريع من الله عز وجل إلى عبيده.

بل إن بعض الدول العربية عدلت بعد الثورات العربية في قانون الأحزاب بحيث تمنع الأحزاب الدينية، وهذا استكمال لأركان دين الديمقراطية. ومع ذلك فالذين حبكوا النظام البرلماني سدًا منيعًا أمام تطبيق الشريعة لم يكتفوا بذلك، بل وضعوا أمام النائب أبوابًا أخرى ليضمنوا أن يخلع عندها أي تبقية من دعوة تطبيق الشريعة قبل أن يجلس تحت قبة البرلمان. ما هي هذه الأبواب؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله.

خلاصة

الديمقراطية تجعل النائب يستمد شرعيته من البشر لا من شريعة رب البشر، وتتمعن في استعباد الغربي للعالم الإسلامي. والسلام عليكم ورحمة الله.