المادة الثانية وإخضاع الشريعة للبشر
السلام عليكم ورحمة الله أحبتي الكرام.
لا يغير من واقع المسألة شيئًا لسببين. سنفرغ بداية من السبب الأقل أهمية منهما.
السبب الأول: غموض مفهوم الشريعة وتأويله
السبب الأول هو إبقاء المحكمة الدستورية مفهوم الشريعة عامًا غير محدد، حيث فسرت الأحكام الشرعية بأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً.
إذن، لاحظ: "مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً". فإذا عدنا إلى كلمة "مبادئ" التي بينا عموميتها في الحلقة الماضية، أما كلمة "الثابتة" فمن الثبوت، أي أن تكون قطعية الثبوت. ومعلوم أن العلمانيين والحداثيين في مصر ما فتئوا، وبدعم من وزارة الثقافة المصرية، يطعنون على السنة النبوية وينكرون ثبوتها وحجيتها، لكي يخلصوا من ذلك إلى ترك أحكام القرآن دون دلالة. وهم يعلمون قاعدتنا: "إذا حاجك أهل الأهواء بالقرآن فحاججهم بالسنة".
لدينا القرآن والسنة. عندما يقول قرار المحكمة: "أصولها الثابتة"، يخرجون السنة على طريقة العلمانيين والعصرانيين. ثم عندما يقولون: "لا تحتمل تأويلاً"، يخرجون القرآن الذي يتأولونه ألف تأويل بعيدًا عن السنة.
تضييع الشريعة بالاجتهاد الشاذ
وزيادة في تضييع الشريعة، نصت المحكمة في حكمها أنه: "ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سندًا أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفًا لآراء استقر عليها العمل زمنًا". وهذا النص يمكن من الاعتماد على رأي شاذ مخالف للإجماع. وعند الحاجة، يمكنهم طبعًا الرجوع إلى آراء الشيعة، معتمدين على ما قاله الدستوري المستشار عبد الرزاق السنهوري في كتابه "الوسيط في القانون المدني": "ومذهب الإمامية يمكن الانتفاع به إلى حد بعيد". ومذهب الإمامية يعني الشيعة.
غياب المرجعية المحددة
بعد هذا كله، هل هناك كتاب معتمد لدى المحكمة الدستورية اسمه "مبادئ الشريعة الإسلامية الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً"؟ هل لديها كتاب كهذا يمكن أن نتصفحه لنعرف ما هي هذه المبادئ أو الأصول؟ بالطبع لا يوجد كتاب كهذا، لا يوجد. فالأمر يراد له أن يبقى هلاميًا عامًا.
وهم الاستفادة من القرار
سيقال: لكن حصل أن يستفاد من هذا القرار عندما قضي لصالح موظفين في مصر للطيران بعد أن فصلوا لامتناعهم عن تقديم الخمور. وكغيرها من القضايا، فأقول إخواني: الباطل يعلق الناس بأمل وهمي حتى يبقوا مخدوعين به، تائهين في دهاليزه، بدلًا من أن يبين لهم قبحه فييأسوا منه ومن دهاليزه ويبحثوا عن المخرج الحقيقي.
وإلا فماذا استفاد البرلمانيون الإسلاميون من هذا القرار طوال السنوات الماضية؟ هل استطاعوا أن يؤسلموا القوانين من خلاله؟ ألم يكن القرار موجودًا والخمارات وبيوت البغاء مفتوحة على مصراعيها بقوة القانون؟ والكتب تؤلف والإعلام ينضح بالسخرية من الله وكتابه ورسوله؟ والدعوة تحارب والأنفاق تردم على أهل غزة والمسلمات يسلمن للكنيسة؟ هل استفاد الإسلاميون من قرار المحكمة الدستورية في وقف هذا كله؟ فلما لم تستخدم هذه المادة لإبطال هذه القوانين المخالفة لشرع الله؟ فموافقة حكم شرعي في حادثة أو حادثتين لا يزيد عن أن يكون استنزافًا لطاقات الإسلاميين وإيهامًا لهم بوجود أمل في أسلمة الواقع من خلال الدستور الوضعي.
كان هذا السبب الأول لقولنا أن حكم أو قرار المحكمة الدستورية لا يعين أبدًا على تطبيق الشريعة.
السبب الثاني: إخضاع الشريعة لحكم البشر
السبب الثاني والأهم هو أن الدستور والمحكمة الدستورية يخضعان الشريعة لحكم البشر. فما يطبق من أحكام الشريعة لا يطبق لأنه حكم الله، بل لأن الدستور ومحكمته ومن ثم البرلمان أذنوا لهذا الحكم بالتطبيق. وهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو تأليه للبشر بجعلهم حكامًا على شريعة رب البشر سبحانه، متحكمين بهذه الشريعة.
إن المادة الثانية لا تعرض من الناحية الدستورية البحتة على أنها حكم الله أو شرعه الذي لا راد له ولا معقب، بل تعرض على أنها اختيار وحكم الشعب القابل للأخذ والرد والتعديل، لأن سلطة الشعب والبرلمان فوق الشريعة وحاكمة عليها في الدستور. ومن حق البرلمان أن يعدلها أو يلغيها في أي وقت متى توفرت الأغلبية اللازمة لذلك بموجب الدستور. وبالتالي فهي لم تشرع على أنها تعبد لله وإذعان لحكمه أو تسليم له ولشريعته، بل شُرعت لأنها توافق هوى البرلمان وحكمه واختياره. فالدستور يخضع الشريعة لأهواء البشر في كل المراحل.
مظاهر إخضاع الشريعة لأهواء البشر
الدستور يخضع الشريعة لأهواء البشر في كل المراحل:
أولاً: وجود المادة الثانية منوط بإرادة البرلمان
فالمادة 189 من دستور 71 تقول: "لكل من رئيس الجمهورية ومجلس الشعب طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور". وهذا طبعًا يشمل المادة الثانية. وكذلك المادة 60 من الإعلان الدستوري تعلق العمل بالدستور بموافقة الشعب عليه دون أدنى إلزام بوجوب موافقته للشريعة. وبالتالي فليس في الدستور ما يلزم ببقاء المادة الثانية.
ثانيًا: تأثير المادة الثانية يقتصر على القوانين اللاحقة
قررت المحكمة الدستورية أن تأثير المادة الثانية يقتصر على القوانين التي صدرت بعدها فقط، أما القوانين القديمة فلا تأثير للمادة الثانية عليها.
ثالثًا: لا سيادة للمادة الثانية على بقية مواد الدستور
لا سيادة للمادة الثانية على بقية مواد الدستور، فتأثيرها يقتصر على القوانين فقط وليس على مواد الدستور الأخرى. بل نص من يسمون فقهاء الدستور على تقييد مادة الشريعة الإسلامية بباقي مواد الدستور المخالفة للشريعة. فقد قال السنهوري في وسيطه: "يُراعى في الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي التنسيق ما بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها التشريع المدني في جملته، فلا يجوز الأخذ بحكم في الحكم الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه".
وقال المستشار حامد الجمل: "والمادة الثانية لا يمكن تفسيرها وحدها بمعزل عن المواد الأخرى في الدستور، ومنها ما يتعلق بالمساواة وعدم التمييز بين المواطنين". يعني إذا خالف حكم من أحكام الله مبدأ من مبادئ الدستور كسيادة الشعب والمدنية والمواطنة وحق الردة وولاية الكافر وغيرها، فما الحل؟ الحل أن يُرد حكم الله ويُعمل بحكم الدستور، إذ لا يجوز عندهم أن يُعمل بحكم الله في هذه الحالة. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
رابعًا: المحكمة لا تتخذ الشريعة مرجعية
بل يحكمون بإعمال الدستور ولا يخضعون في تقييمهم لأية معايير شرعية. وبالتالي فتفسيرهم للمادة الثانية، والذي فرح به الإسلاميون البرلمانيون، هذا التفسير قابل للطعن والمحكمة قد تغير رأيها وأعضاؤها قد يتغيرون، وليس هناك ما يلزم ببقاء قرارها ما دام أن المحكمة ذاتها لا تتخذ الشريعة مرجعية، بل تخضع الشريعة لقواعد الدستور الوضعي.
خامسًا: المادة الثانية لا تجبر البرلمان على قبول حكم شرعي
المادة الثانية ليس لها أي تأثير أو سلطة أو سيادة على البرلمان في عملية إصداره لقراراته، ولا تجبره على قبول أي حكم شرعي. فإذا كان القانون المراد تشريعه أمرًا من الفرائض أو الواجبات الشرعية مثل فرض الزكاة مثلًا، فمن حق البرلمان دستوريًا حينئذ أن يرفض حكم الله طبقًا لرأي الأغلبية. فإن رفضت الأغلبية حكم الله فلا أحد يجبرهم عليه ولا حتى المحكمة الدستورية.
سادسًا: الحكم الشرعي يصدر باسم الشعب لا باسم الله
على فرض أن البرلمان وافق على حكم من أحكام الله، فإنه لا يصدر إلا بعد أن ينزع عنه صفة أنه حكم الله ويكسى بصفة حكم الشعب ليعطيه صفة برلمانية دستورية. وأعيد مرة أخرى، فهذه نقطة مهمة: على فرض أن البرلمان وافق على حكم من أحكام الله، فإنه لا يصدر هذا الحكم إلا بعد أن ينزع عنه صفة أنه حكم الله ويكسى بصفة حكم الشعب ليعطيه صفة برلمانية دستورية. وهذا هو حرفيًا معنى المادة الثالثة التي تقول: "السيادة للشعب وحده"، والمادة الرابعة والعشرين التي تقول: "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب". باسم الشعب، أي لأن الشعب أرادها، إذ هو في الدستور يحكم لا معاقبة لحكمه.
قال المستشار حامد الجمل: "وهناك مسألة مهمة ترتكز على أن الشريعة الإسلامية لا تطبق بقوة نصوص الدستور ولكن تطبق بإرادة المشرع المصري". وهذا في جريدة الأهرام يوم الجمعة 1 إبريل 2011. أي أنها لا تطبق لأنها شريعة الله، ولا لأن الدستور اعتبرها مصدرًا، ولكن يطبق منها ما يأذن البرلمان المشرع بتطبيقه من حيث هو حكمه لا من حيث هو حكم الله. وهذا هو نص فلاسفة الدولة المدنية كتومس هوبس الذي قال: "إن الكتاب المقدس لا يصبح قانونًا إلا إذا جعلته السلطة المدنية الشرعية كذلك".
سابعًا: المادة الثانية لا سلطان لها على القضاة
المادة الثانية لا سلطان لها على القضاة في المحاكم، وإنما هي تخاطب المشرعين في البرلمان. وبهذا أفتت المحكمة الدستورية العليا واستندت إلى المادة 165 في الدستور التي تنص على أن: "الحكم في المحاكم بالقانون". وشبيه بها مادة 46 من الإعلان الدستوري التي تنص على أن: "السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون". وفق القانون. ولهذا يمنع أي قاض من أن يحكم بالشريعة بدلًا من القانون الوضعي. ومعروف في ذلك حادثة القاضي المصري المستشار محمد محمود غراب الذي حكم بالحد الشرعي على رجل ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام، فنقض حكمه بموجب الدستور وتم عزله من العمل القضائي.
خلاصة القول
ملخص القول أن الشريعة الإسلامية في الدستور المصري ليست حاكمة بل هي محكومة. لم أستطع أن أحدد كاتبه، لم أجده، وهو مبحث عظيم نفع جدًا، من أرقى ما قرأت في طريقة توثيقه وعرضه وتأصيله، جزى الله كاتبه خير الجزاء. وأنصح إخواني جميعًا بقراءته والاستفادة من منهجيته التوثيقية التحليلية.
هذه هي المادة الثانية وهذا هو تفسير المحكمة الدستورية لها في سياق الدستور. مادة مقيدة، قاصرة، مموهة، مبتورة، مزوية، محكومة، ذليلة. بينما شريعة الله عز وجل عزيزة، طاهرة، مطلقة، واضحة، حاكمة.
إخواني، وأنا أحضر هذه المادة، ماعت نفسي وكدت أصاب بالغثيان لما أراه من تجرؤ البشر على ربهم الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا. والله إنه لجرأة على شريعة الله بالكلية لأقل وقاحة من العبث بها والتعالي عليها وإخضاعها لأهواء البشر بهذا الشكل. ألا لعنة الله على قلوب تشمئز إذا ذكر الله وحده، وشاهت وجوه ترفع جبهتها رفضًا لشريعته، وذلت نفوس تستعلي على رب العزة.
ثم ماذا أصابكم أيها الإسلاميون البرلمانيون؟ أهذه المادة التي تصرون على بقائها وتعتبرونها خطًا أحمر؟ أهذه المادة التي تريدون تفعيلها لا تعديلها؟ أهذه المادة التي تبررون بها قسمكم على احترام الدستور؟ أهذا الدستور الذي يسميه بعضكم دستورًا محافظًا وجيدًا؟ أهذا الدستور الذي لا يحتاج سوى تعديلات طفيفة؟
هل أسمى أمانيكم أن تعرض أحكام الله على البرلمان حكمًا حكمًا، ثم تلتمس أعذار لهذه الأحكام من القوانين الوضعية، فيستمع البرلماني صاحب البول والغائط لهذا الحكم وهو ساهل في كرسيه واضع رجلًا على رجل يهز قدمه ويتثاءب ثم يصوت؟ فإن لم يعجبه حكم الله هز حاجبه ورفع يده بالرفض كصورة ديكتاتور يأمر بأخذ سجين للإعدام. وإن وافق فلسان الدستور يقول: ليس لأنه حكم الله بل لأنه حكم البرلمان.
والله لو لم يكن من مفسدة لتنازلاتكم إلا تهزيل صورة الشريعة بهذا الشكل لكفى. شريعة الله أيها البرلمانيون لا تطبق من خلال ثغرة في الدستور والقانون الوضعيين، فاربعوا بها عن هذا المقام الدنيء. ولا والله لا معنى للتشبث بهذه المادة، لا معنى للتشبث بهذه المادة واصطبروا كمن جعل البشر أربابًا يشرعون من دون الله وتجب لهم الطاعة بنص الدستور.
لم تغير المادة ولا تفسيرها من حقيقة الدستور المصري شيئًا، حاكها أرباب الدستور وقيدوها بمواده لتكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات في نصها وظلمة في سياقها وظلمة في تقييدها وظلمة في قصورها وظلمة في تفعيلها، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
خلاصة الحلقة: المادة الثانية موجودة في الدستور باسم الشعب وهي قابلة للإلغاء، ولا تفاعل في القوانين السابقة لها، وهي مقيدة بمواد الدستور غير الشرعية، وتفسيرها لا يخضع لأسس شرعية، ولا تجبر البرلمان على القبول بحكم شرعي، وإن تسببت في إصدار قانون فإنما يصدر باسم الشعب لا لأنه حكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله.