→ عودة إلى نصرة للشريعة

الحلقة 20 - هل ينال شرع الله بالقسم على مخالفته؟

١١ يونيو ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

هل ينال شرع الله بالقسم على مخالفته؟

اشتركوا في القناة. جعل التشريع لغير الله تعالى، ثم بينا أنه محبوك بحيث يخلع الإسلاميون الشريعة على أعتاب البرلمان، وأن أول باب يخلعون عليه دعوى تطبيق الشريعة هو قبولهم بقوانين الأحزاب التي تمنع من قيام حزب على أساس ديني، وأن هذا يجعلهم يستمدون شرعيتهم البرلمانية من الشعب الذي انتخبهم وليس من الشريعة، وهو بالتالي تسليم منهم بمبدأ الديمقراطية.

ثم بينا أن الباب الثاني الذي لا يبقي أي تبقية من دعوى تطبيق الشريعة هو القسم على احترام الدستور الوضعي المصري. بينا نصوصًا من هذا الدستور ترد التشريع إلى الشعب وتصدر الأحكام باسمه، وبالتالي فإن القسم على احترامه هو قسم على احترام إعطاء البشر صفة من صفات الربوبية ألا وهي التشريع.

ثم ذكرنا أحد أعذار البرلمانيين المعلنة لقسمهم هذا ألا وهو وجود المادة الثانية في الدستور التي تجعل الشريعة المصدر الرئيس للتشريع. لكننا وضحنا في الحلقتين الأخيرتين انعدام قيمة هذه المادة، بل إن عدمها أقل جرأة على الله من وجودها بنصها وسياقها وتحكم البشر فيها. هذا ما وضحناه في الحلقتين الأخيرتين.

القسم على احترام الدستور

إذن فليسلم معنا المنصف بأن القسم على احترام الدستور المصري هو قسم على احترام شرك التشريع، جعل البشر مشرعين من دون الله، ولا خفاء في حكم قسم كهذا في دين الله عز وجل. بل لو قال قائل: "أحترم أن يكون التشريع للبشر من دون الله" أو قال: "ليس التشريع لله" هكذا دون قسم، فهذا القول ينقض إيمانه. فكيف عندما يقسم على ذلك؟ وكيف عندما يقسم بالله العظيم على الشرك بالله العظيم؟

إذن فليسلم معنا المنصف بأصل الحرمة ابتداء، فليسلم معنا المنصف بأصل الحرمة ابتداء كخطوة أولى. في الخطوة الثانية، تعالوا نستعرض أعذار البرلمانيين الإسلاميين التي يبررون بها قسمهم هذا ليخرجوه عن أصل الحرمة، ونعرض هذه الأعذار على ميزان الشريعة.

أعذار البرلمانيين الإسلاميين

في الواقع عند استعراض هذه الأعذار ترى مناقشة للموضوع بمنظور مختلف تمامًا عن المطلوب، وكأننا نتكلم عن لمم من الإثم لا عن قضية متعلقة بالإيمان ونقضه.

عذر "بما لا يخالف شرع الله"

فأول هذه الأعذار أن بعض النواب الإسلاميين يقولون عقب قسمهم: "بما لا يخالف شرع الله". فأقول إخواني: في حل المعادلات الرياضية نرفع الرمز ونضع مكانه الرقم الذي يساويه. في حالتنا هذه، الدستور والقانون الوضعيان يساويان جعل التشريع للبشر، إن كان هذا التعبير أخف وقعًا من وصف الكفر بأن الله تعالى هو المنفرد بالتشريع.

فعندما يقول البرلماني الإسلامي: "أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون بما لا يخالف شرع الله"، فماذا يختلف عن قول: "أقسم بالله العظيم أن أحترم جعل التشريع للناس من دون الله العظيم بما لا يخالف شرع الله"؟ إخواني، هذه ليست مبالغة ولا تحميلًا للكلام ما لا يحتمل، هذا نزع أغلفة الزينة لنكتشف مرارة واقع المسألة. والعجيب أن القاعة تضج بالتصفيق عندما يصر النائب عليها، وكأنه فعل ما عليه وتجنب الإثم والخطأ بزيادته هذه العبارة.

فمثل هذا القسم تلبيس على الناس وتمييع لمفهوم أن الدستور يصادم الشريعة مصادمة كلية كاملة جذرية. فالدستور شريعة البشر القائمة على جعل التشريع للبشر، فهو على النقيض من شريعة الله عز وجل. المسألة ليست أنه يحتوي على مواد مخالفة، بل هو المخالفة ذاتها.

عذر تغيير النية والتورية

العذر الثاني الذي يتعذرون به أن البرلماني الإسلامي يغير نية القسم في قلبه. فمنهم من قال: ينوي أنه يحترم المادة الثانية أو ما لا يخالف الشريعة، وقد بينا بطلان هذا كله فيما تقدم. وقال بعضهم: ينوي بقلبه أنه يحترم القرآن الذي هو دستور المسلمين. ثم يسترسلون في بيان أحكام التورية وأن النية يمكن أن تكون على نية الحالف لا على نية المستحلف، وتضيع القضية في هذه التفاصيل التي ليست هي محل نقاشنا. ويتغاضى تمامًا الحديث عن التلبيس الحاصل على الناس في أخطر قضايا عبوديتهم لله وخضوعهم لشرعه.

نسأل البرلمانيين هنا سؤالًا طرحناه من قبل: أنتم عندما دخلتم البرلمان وأقسمتم هذا القسم، ما هدفكم تحديدًا؟ إصلاحات جزئية أم إقامة الشريعة؟ أما إن كان الهدف إصلاحات جزئية، فهل يجوز القسم على احترام جعل التشريع للبشر بدلًا من الله ولو تورية من أجل هذه الإصلاحات الجزئية؟

وأما إن قلتم هدفنا إقامة الشريعة، فهنا لا بد من وقفة. فنقول: هل يتصور إقامة الإسلام بالقسم على إطفاء صفة من صفات الربوبية على البشر؟ وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل ذلك؟

مقارنة بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم

لو قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسجد لصنم من أصنامنا مرة ونسمح لك حينئذ بأن تحكمنا بما شئت"، هل كان سيقول: "أسجد أمام الصنم بنية أن سجود هذا لله لا للصنم في مقابل هذه المصلحة العظيمة"؟

إجابة عن هذا السؤال تعالوا نتذاكر قول الله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}.

إذا استعرضنا ما ورد في سبب نزول هذه الآية وجدنا أن قريشًا طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر شيئًا يسيرًا من الاحترام لأصنامهم، شيئًا يسيرًا دون العبادة، كأن يمس أصنامهم مسًا، فإن فعل ذلك دخلوا في دينه. قالوا: "يا محمد تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك". وقد ذهب عدد من أهل العلم إلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه ولا حتى مقاربة الميل إلى تلبية طلبهم وذلك بتثبيت الله له، بل ولا الميل إلى إظهار الاحترام. ومع ذلك يأتي الوعيد الشديد من الله تعالى على الحالة الافتراضية من حصول الميل إلى إظهار شيء يسير من الاحترام مهما كان المقابل مغريًا. ذلك أن جناب التوحيد لا بد أن يبقى ناصعًا واضحًا، وأن يحرس حراسة عظيمة، ولا يحام حول حماه. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته من بعده، والتحذير لرسول الله تحذير لأمته من بعده، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام أبعد الناس أن يقع منه مثل هذا الركون.

خطورة التلبيس على الناس

إخواني، قضية التلبيس الحاصلة للناس بقسم كهذا لا تعطى حقها أبدًا في النقاش. فترى البرلماني يناقش مسألة التورية ونية الحالف والمستحلف، ولا يأخذ في الحسبان التلبيس على الناس بقسمه هذا في وقت نعلم فيه أن هذه الدساتير حلت محل الشريعة وعظمت أكثر من تعظيم الشريعة، بل وعقوبة سب الدستور أكبر من عقوبة سب الله عز وجل. ثم يأتي البرلماني الإسلامي أمام الناس ليقسم بالله تعالى على احترام هذا الدستور وتوطيد أركانه. هذا كله لا يأخذ أدنى نصيب من النقاش والاعتبار.

انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضبط ألفاظ الصحابة لرعاية جناب التوحيد مع علمه بأن ألفاظهم هذه كانت تصدر منهم بنية سليمة. قيل له: "ما شاء الله وشئت"، فرد عليه الصلاة والسلام: "أجعلتني لله عدلًا؟" يعني كفئًا، "بل ما شاء الله وحده". وهؤلاء هداهم الله يلبسون على الناس بقسم على ما يجعل البشر عدولًا لله، بل مشرعين بدلًا من الله. لم يقل الدستور: "ما شاء الله وشاء الشعب"، بل "ما شاء الشعب وحده". وليس هذا سوء تعبير مع نية سليمة كنية الصحابة، بل نص ملزم تتبعه قوانين نافذة يعاقب من خالفها. فأين حراسة جناب التوحيد يا أصحاب القسم؟ أبهدم التوحيد والتلبيس على الناس تقيمون الشريعة؟

عذر "مصلحة إقامة الشريعة"

ثم هؤلاء الذين يقولون: "نتحمل مفسدة القسم مع التورية من أجل مصلحة إقامة الشريعة". وقد يستدلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لمحمد بن مسلمة أن يوري أمام كعب بن الأشرف اليهودي بكلام يظهر منه عدم القناعة بالإسلام، إذ قال: "إن هذا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- قد عنانا وسألنا الصدقة"، وقال: "فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره". كلام عام أذن رسول الله له أن يقول هذا الكلام ليأمنه كعب بن الأشرف فيتمكن محمد بن مسلمة من قتله وإراحة المسلمين من شره وتأليبه للكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فنقول: هل تصح هذه الحادثة الاستدلال على واقعكم أيها البرلمانيون؟ هل واقعكم كواقع محمد بن مسلمة إذ ورى بإذن النبي تورية في لحظة فاصلة القصد منها خلع الكفر من جذوره ودحره دون أن يتبعه أي عمل مخل بالإيمان، ودون تلبيس على المسلمين في قضية الاحتكام إلى الشريعة، ودون أن يكون عمله هذا خداعًا للمسلمين قبل الكافرين، وتحرف على الفور مسار القطار لتضعوه على سكة الشريعة؟

الديمقراطية كمنظومة وسياق

هل المسألة بهذه البساطة؟ أم أن واقع الأمر أن البرلمانيين يقسمون ليدخلوا مجلسًا تشريعيًا تظله قوانين الدستور التي تجعل التشريع للشعب وتجعل الأحكام صادرة باسم الشعب، وإنما يصول البرلمانيون بعد ذلك ويجولون وفق مواد هذا الدستور؟ فانخراطهم في مجلس كهذا هو احترام عملي للدستور يصدق عمليًا ما أقسموا عليه بألسنتهم، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال. فلا هي لحظة فاصلة بين الإيمان والضلال، ولا هو قسم يتبعه استئصال الجاهلية من جذورها، بل يتبعه فعل محرم في ذاته ويلبس به على الناس وكأنه خداع لهم قبل أن يكون خداعًا لأعداء الشريعة.

فالبرلمانيون يقسمون قسمهم ليدخلوا قمرة القيادة لقطار يسير على سكة مرسومة. لا يهم من في قمرة قيادة هذا القطار طالما أنه يسير على السكة الديمقراطية المرسومة له مسبقًا. فالمطلوب في هذه الحالة تغيير السكة لا تغيير الطاقم في قمرة القيادة. المطلوب تغيير السكة وليس تغيير الطاقم في قمرة القيادة.

إذن فعند مناقشة جزئية القسم ينبغي وضعها ضمن المنظومة والسياق الديمقراطي الذي افتعل القسم ليكون إعلانًا باللسان يتبعه إعلان بالعمل أن مرد التشريع إلى البرلمان من دون الله. فبالإضافة إلى إشكاليتنا مع القسم ذاته، فالإشكالية مع سياقه وما يقسم من أجله أكبر.

حقوق الإنسان وحق الله

لعل قائلًا يقول: "لماذا تركز على هذه المواد من الدستور ولا تذكر المواد الأخرى التي تحفظ للمواطن إنسانيته وحريته وكرامته ومساواته بالآخرين؟" وليسمح لي من يتساءل سؤالًا كهذا أن أقول له: هان عليك حق الله تعالى يا والله هان عليك حق الله. ما من مبدأ جاهلي قديم ولا حديث إلا وفيه هذه الشعارات الرنانة عن الحرية والمساواة والكرامة. لكن ما الفائدة إن حصلنا حقوقًا بشرية وضيعنا حق الله تعالى؟

خطورة الكلمة

عندما نتكلم عن إشراك العباد مع الله في صفة من صفاته، فإن نقطة من هذا التجرؤ على الله لو وضعت في محيط من الحسنات لأفسدته. {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

ثم لعل قائلًا يقول: "كل هذا من أجل كلمة؟ كلمة يقولها البرلماني ونيته طيبة وقصده شريف؟" فنذكره أن المرء يدخل الإسلام بكلمة ويخرج منه بكلمة، وأن الله وصف قولًا فيه شرك بأنه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}. ونذكر بحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم".

خاتمة

إخواني، كان هذا فيما يتعلق بالضمانات التي وضعتها الديمقراطية لتضمن بها حماية نفسها كنظام بشري وضعي وتمنع التسلق من خلالها لتطبيق شريعة الله عز وجل. الحلقة القادمة هي في نظري أهم حلقات السلسلة حتى الآن، تعرض لحقيقة كبرى التبست على كثير من الخاصة فضلًا عن العامة فانتظروها. واسألوا الله لأنفسكم ولأخيكم وللمسلمين الهداية والعصمة من الفتن. والسلام عليكم ورحمة الله.