→ عودة إلى نصرة للشريعة

الحلقة 23 - تحذير العلماء من التلبيس العقدي

٢٣ يوليو ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله

مقدمة: التلبيس العقدي وأثره

يجب ألا يؤدي إلى التلبيس على الناس في أمور دينهم. لكن أين المشكلة؟ المشكلة أنه بعدما وقعت ممارسات سياسية في غاية الخطأ وأدت إلى هذا التلبيس بأشد أشكاله، توقعنا أن يطبق هؤلاء العلماء قاعدتهم وينادوا بتحريم هذه الممارسات وينأوا بالناس عنها ويوجهوا ممارسيها علناً، لأنها وقعت في العلن وآثارها عمت.

لكن مشايخنا بدلاً من ذلك دعوا إلى تأييد وانتخاب من يمارس هذه الممارسات المنحرفة. فاجتمع على الناس ثلاثة عوامل تسهم كلها في التلبيس عليهم في أمور دينهم: الممارسات الخاطئة، ودعوة المشايخ إلى انتخاب من يمارسونها، ثم في المقابل عدم إنكار المشايخ لهذه الممارسات الحديثة. فكانت مفسدة التلبيس التي، وبتقرير هؤلاء العلماء أنفسهم فيما مضى، تفوق كل مصلحة مرجوة من دعوة الناس إلى انتخاب أصحاب هذه الممارسات.

ما نطالب به هؤلاء العلماء هو أن يطبقوا قاعدتهم التي نادوا بها من قبل: أن أي تحرك سياسي يجب ألا يؤدي إلى التلبيس على الناس في أمور دينهم. فانظروا يا مشايخنا إلى الواقع لتعلموا أن هذا التلبيس حصل فأنكروه وعالجوه.

أمثلة من العلماء

سنأخذ مثالاً من علماء السلفية ومثالاً من العلماء المعتبرين لدى الإخوان: الداعية العلامة الدكتور محمد إسماعيل المقدم، شيخ السلفية في الإسكندرية ومن كبار مشايخ السلفية في مصر.

وهنا أقول للدكتور المقدم ومشايخ الدعوة السلفية في مصر: نحن الآن نعتب عليكم في العلن، مع أننا أحببناكم واستفدنا منكم في الماضي ونافحنا عنكم ونشرنا محاضراتكم ومحاسنكم، لكن الحق أحب إلينا منكم. ووالله ثم والله لرجوعكم إلى الحق أحب إلينا من الأرض وما عليها، ونحن حينئذ لدعوتكم خدم، وما بنا إلا رجاء المساهمة في استرعاء انتباهكم لهذه الأمور وإنقاذ الأمة التي نخشى أن يكون عليكم كفل منها. فاللهم إن كان الدعاء هذا حقاً فانشر هذا الكلام وتقبله وانفع به، وإن كان باطلاً فاقبره في مكانه ولا تحملني وزر الكذب فيه.

موقف الدكتور المقدم قبل الثورات

الشيخ المقدم كان قبل الثورات العربية يرى بحرمة دخول المجالس النيابية، ومع ذلك يرى دخولها أمراً خلافياً. لكن لاحظ الشرط الذي وضعه حتى تعتبر المسألة خلافية. قال الدكتور المقدم: "فلا يصح أن نضحي بعقيدتنا في سبيل مقعد في مجلس الشعب، فالشرط الأساسي للرخصة عدم التنازل وعدم استخدام التقية، لأن التقية في قضايا العقيدة والقضايا الجوهرية يترتب عليها تلبيس الحق على جماهير الناس، فتلتبس عليهم الأمور وتختلط عليهم مفاهيم أساسية تمس العقيدة. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ ثم انظر ماذا بعدها، جريمة كبرى وانحراف خطير يمس بأصل الدين." انتهى كلام حفظه الله.

كلام من أوضح ما يكون تظهر فيه حراسة التوحيد. تعالوا نستنبط الدروس من هذا الكلام:

  1. أكد الشيخ حفظه الله على عدم جواز استخدام التقية. التقية مثل ماذا؟ مثل التصريح بكلام يلبس على الناس في قضايا العبودية والحاكمية، ويجعل الشعب صاحب الحق في أن يقر ما شاء من القوانين ويرفض ما شاء، بحجة أن هذه تصريحات سياسية وبالتالي فهي معفاة من الضوابط الشرعية لأنه يراد بها كسب الشعب ومراوغة العدو. أكد الدكتور محمد إسماعيل أن ذلك كله لا يجوز، لماذا؟ قال: "لأن التقية في قضايا العقيدة والقضايا الجوهرية يترتب عليها تلبيس الحق على جماهير الناس، فتلتبس عليهم الأمور وتختلط عليهم مفاهيم أساسية تمس العقيدة."
  2. سمى الدكتور المقدم التلبيس على الناس في أمور العقيدة جريمة كبرى وانحرافاً خطيراً يمس بأصل الدين. البعض يلومني عندما أقول أن ممارسات الأحزاب الإسلامية ليست اجتهاداً مقبولاً ولا خلافاً سائغاً. انظر إلى كلام الدكتور المقدم الذي وإن رأى أصل المشاركة البرلمانية أمراً خلافياً، إلا أنه اعتبر التلبيس على الجماهير جريمة كبرى وانحرافاً خطيراً يمس بأصل الدين، وليس أمراً خلافياً.

تحليل الخطاب الرئاسي وموقف العلماء

الآن ما الموقف الذي نتوقعه منك يا دكتور محمد إسماعيل بعدما فاز المرشح الذي حشدتم الناس إلى تأييده؟ فكان مما جاء في أول خطاب له أن قال: "الإخوة والأخوات، الأبناء والبنات، أيها المسلمون في مصر، أيها المسيحيون في مصر." إلى أن قال: "أيها الشعب العظيم، جئت إليكم اليوم لأنني مؤمن تماماً بأنكم مصدر السلطة والشرعية التي لا تعلو عليها شرعية. أنتم أهل السلطة ومصدرها، وأنتم الشرعية وأقوى ما فيها." ثم قال: "جئت إليكم لأنكم مصدر السلطة والشرعية التي تعلو على الجميع، لا مكان لأحد ولا لمؤسسة ولا هيئة ولا جهة فوق هذه الإرادة. الأمة مصدر السلطات جميعها وهي التي تحكم وتقرر وتعقد وتعزل من أجل ذلك." ثم قال: "لا سلطة فوق هذه السلطة، أنتم أصحاب السلطة، أنتم أصحاب الإرادة، أنتم مصدر هذه السلطة، لكم ما تشاء وتمنع عما تشاء."

لاحظ "لكم ما تشاء وتمنع عما تشاء". ذكرني هذا بقول ابن هانئ الأندلسي في مديح الخليفة العبيدي المعز لدين الله: "ما شئت لا ما شاءت الأقدار، فاحكم فإنك أنت الواحد القهار." والعياذ بالله.

ثم قال بعد أن أكد على رفضه انتزاع سلطة الشعب والصلاحيات الموكلة إليه باسم الشعب قال: "ولا يعني ذلك أننا لن نحترم القانون أو لا نعلي من قيمة الدستور والقضاء." وختم بقوله: "نحترم إرادة الشعب والقانون والدستور والأحكام التي تصدر من قضاء مصر الشامخ." والدستور طبعاً الذي ينص في مادته الثالثة على أن السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات. طبعاً تتلى الآيات كما يتلوها كل رئيس عربي حالي أو ممن سقطوا، لكن ليس العبرة بتزيين الخطاب بالآيات بل بالعمل بها. يذكر المسيحيين نصاً في مطلع الخطاب وتجعل السلطة والشرعية والإرادة لهم مع المسلمين، ولا تذكر الشريعة لا تصريحاً ولا تلميحاً. يقدس الدستور والقضاء الوضعي ولا تذكر الشريعة. ولا يقل قائل: فرق بين السيادة والسلطة، سيادة الشعب وسلطة الشعب. فها قد نص المتحدث باسم رئاسة الجمهورية على أن رئيس الجمهورية مسؤول عن تأكيد سيادة الشعب واحترام الدستور وسيادة القانون. وتصريحات الجماعة عبر العقود الماضية تصب في المفهوم ذاته، مفهوم سيادة الشعب كما سنرى لاحقاً إن شاء الله. وفي المقابل لا تذكر سيادة الشريعة في هذا الخطاب من قريب ولا بعيد. كل هذا يكرس في الأذهان أن للشعب الحق في أن يسن ما شاء من القوانين فهو صاحب السيادة والشرعية.

موقف الدكتور المقدم من سيادة الشعب سابقاً

قبل الثورة ماذا قال الدكتور محمد إسماعيل المقدم في مثل هذا الكلام؟ قال حفظه الله في سلسلة "السيادة للقرآن لا للبرلمان": "خلاصة الكلام في هذه القضية أن القضية قضية مبدأ، فإما أن تكون السيادة للشرع وإما أن تكون السيادة للأمة. إما أن يكون الحق في التشريع لله خالصاً لله وحده، وينحصر دور الأمة في التخريج على أصول الشريعة والاجتهاد في تطبيق أحكامها على النوازل لتكون حينئذ على دين الله وذلك هو الإسلام. وإما أن يكون الحق في التشريع المطلق لأحد غير الله كالبرلمان أو غيره، يحل به ما شاء ويحرم به ما شاء ويعطل به من الأحكام الشرعية ما شاء ويمضي به منها ما شاء ويصبغ الشرعية على ما شاء وينزع الشرعية على ما يشاء. فذلك، قال الدكتور المقدم، فذلك هو المسلك الذي اتفقت الأمة قاطبة، يعني إجماع ليست مسألة خلافية. فذلك هو المسلك الذي اتفقت الأمة قاطبة على رده على مدار القرون وهو باطل بطلاناً أصلياً لا تقبل الأحكام معه التصحيح ولا الإجازة. وأذكركم هنا بقصة عجلان الذي كان زواجه بسليمة باطلاً بطلاناً أصلياً لا يقبل التصحيح."

ثم قال: "فكل سلطة تقوم على أساسه، أي على أساس أن التشريع للبرلمان، فكل سلطة تقوم على أساسه فهي منعدمة وكل قانون يصدر بناء عليه فهو باطل. أرأيت لو أن دولة من دول الكفر في أوروبا أو أمريكا أصدرت صلاحية بعض الحدود الإسلامية في قطع دابر الجريمة من مجتمعاتها، فقررت اقتباسها من الحضارة الإسلامية لتصلح بها الخلل في بلادها، أتصبح بذلك دولة إسلامية؟"

ثم قال: "إن تطبيق الشريعة الذي يعتد به في هذا المجال لا يبدأ من اختيار بعض الأحكام الشرعية وتقنينها وفرضها على الناس، ولكنه يبدأ من إصلاح هذا الخلل الأكبر الذي تفشى روحه الدنيسة في كل مرابط الأمة، وهو مبدأ سيادة الأمة بالمصطلح الغربي وما يعنيه من الإقرار لممثليها بحق التشريع المطلق ونزع السيادة عن الشريعة الإسلامية. السؤال وحسم هذه النقطة في البداية سوف يظل الناس في غبش وعماية، ولا يعد ما يأتي بعد ذلك من الإصلاحات إلا ترقيعاً جزئياً لا تصلح به دنيا ولا يقبل في دين." انتهى كلامه حفظه الله.

كلام دقيق محكم واضح مؤيد من أدلة. فنقول للدكتور محمد إسماعيل: يا دكتور، تأييد من خطاباتهم تؤكد على سيادة الأمة بهذا الشكل يكرس المفسدة العقدية التي لا تعلوها مفسدة كما علمتمونا. فالاستدراكات والتأكيدات أن تأييدكم هذا من قبيل ارتكاب أخف الضررين، هذه الزيادات كلها تضيع ويبقى في الأذهان وفي التاريخ أن مشايخ السلفية يؤيدون هذا الرئيس. حتى لو قلتم أننا مقتنعون بأنه لن يطبق الشريعة، عندما تكلمنا عن حرمة المشاركة في الانتخابات كان المخالفون يعترضون علينا بقولهم: ها هم مشايخ السلفية يؤيدون فلاناً. هكذا يبقى في الأذهان أنكم تؤيدون أصحاب هذه التصريحات. فالخطاب الرئاسي السابق الذي ليس فيه لله نصيب، هذا الخطاب في نظر الناس مدموغ بختمكم.

الموقف الحالي من مشايخ الدعوة السلفية

طيب حصل ما حصل وأيدتموه، نتوقع منكم الآن يا دكتور أن تستنكروا هذه التصريحات وتبرأوا إلى الله منها وينتشر ذلك عنكم ليعلم الناس أنكم ترفضون هذا الكلام. الآن نتصفح المواقع الإسلامية ومواقع العلماء فلا نكاد نجد إنكاراً لمثل هذه التصريحات إلا قليلاً، وهذه ظاهرة غريبة حقاً.

طبعاً هذا كله ناهيك عن هذا الموقف المستغرب جداً من مشايخ الدعوة السلفية من الحزب الذي يتسمى بالسلفية، ثم هو يدور حول المفهوم ذاته من حق الشعب في اختيار ما يريد، ويستخدم عبارات ملفقة ما بين الشريعة وحق المجتمع والديمقراطية والشورى، وينص في برنامجه على حق المجتمع في تحديد الاختيارات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للدولة عبر مؤسسات تمثيلية. وهي عبارات تكرس لدى الناس المفهوم الفاسد من سيادة الشعب وحقه في اختيار ما يريد أن يحكم به. ثم مع ذلك يؤيده عامة مشايخ الدعوة السلفية، يؤيدون هذا الحزب ويضفون عليه الشرعية ويصفونه بأنه أقرب الأحزاب إلى مبادئ السلفية النقية.

ثم لما جسد هذا الحزب مبدأ سيادة الشعب بتقديم أسماء شخصيات يسمونها التوافقية ليشتركوا في كتابة الدستور، وعندما أقر المادة الثانية بشكلها المهترئ بحيث لم يدع مجالاً لمتعذر له، نكاد لا نسمع من علماء الدعوة السلفية استنكاراً وتبرؤاً وتراجعاً عن تأييد هذا الحزب. أليس في هذه الممارسات ثم سكوتكم يا دكتور محمد إسماعيل ويا مشايخ الدعوة السلفية، أليس فيها ما حذرت منه يا دكتور سابقاً من التلبيس العقدي؟

الخلاصة

خلاصة الحلقة هما عبارتان للدكتور المقدم نفسه، هاتان العبارتان نوجههما منه إليه:

  1. التقية في قضايا العقيدة والقضايا الجوهرية يترتب عليها التلبيس، تلبيس الحق على جماهير الناس.
  2. التنازل عن أي قضية من حقائق الدين أو تلبيسها بما يخالف مفاهيم الدين جريمة كبرى وانحراف خطير يمس بأصل الدين.

والسلام عليكم ورحمة الله.