سد ذرائع شرك التشريع أولى!
مقدمة: قاعدة سد الذرائع وتطبيقها
قاعدة سد الذرائع، ووسعوا شقوقها. في هذه الحلقة نذكر العلماء بهذه القاعدة ونطالبهم بتطبيقها. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الممارسات المشوهة التي ننتقدها في العمل السياسي الديمقراطي ليست ذريعة إلى المحرم، بل هي محرمة في ذاتها. بل منها ما هو نقض لعرى الإسلام، كتبني الديمقراطية والدعوة إلى انتخاب الديمقراطيين محرمة في ذاتها لأسباب أجملناها في كلمة "الموقف من الانتخابات".
فلماذا الحديث عن سد الذرائع إذن؟ لنقول للعلماء والدعاة: لئن كنتم تحرمون أقوالاً وأفعالاً هي الذريعة إلى الحرام، فكيف بالحرام ذاته؟ خاصة أننا لا نتكلم عن صغائر، بل عن الحرام الأكبر، عن الشرك في التشريع، وعن تضييع العبودية. أليس أولى بكم أن تنكروها وتحذروا منها بدلاً من دعوة الناس إلى الولوج فيها وانتخاب ممارسيها، ثم السكوت عن أفعالهم الضالة، بحيث أصبحت هذه الأقوال والأفعال مدموغة بختمكم؟
إذن، نعيد: خوض إسلاميين من أطياف منهجية متباينة، خوضهم في العمل الديمقراطي تسبب في تلويث عقائد الناس ومفاهيمهم، لا مجرد أنه اشتمل على ممارسات يمكن أن تؤول إلى هذا التلويث في المستقبل.
موقف الشرع من الأقوال الموهمة للشرك
هنا سنستعرض موقف الشرع من كلمات وعبارات يمكن أن تؤدي إلى تلويث عقائد الناس. لنقول للعلماء والدعاة بعدها: إن كان الله عز وجل قد حرم هذه الأقوال والأفعال حتى ولو كانت عقيدة صاحبها نقية غير ملبسة، لكنه تعالى حرمها لأنها ذريعة إلى فساد العقيدة، فكيف وقد وقع هذا الفساد والتلبيس والتخليط بالفعل؟
ولنقول للعلماء والدعاة: لطالما أصلتم وفصلتم في قاعدة سد الذرائع لمعاصٍ مما يمكن أن يغتفر، فأين سدكم لذرائع الشرك؟ الشرك الذي لا يغتفر في مسائل الديمقراطية وسيادة الشعب والحكم والتشريع.
أمثلة من السنة على سد الذرائع
-
سد ذريعة الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم: سمى الله رسوله عبداً في أشرف المقامات، وهذا فيه سد لذريعة المغالاة في تعظيم النبي، حيث يعلم أن غاية ما يصل إليه إنسان من مراتب العظمة هو العبودية لله. ونهى النبي عن الغلو في مدحه فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" سداً لذريعة المبالغة في تعظيمه.
-
سد ذريعة الشرك في القبور: وقال قبيل وفاته عليه الصلاة والسلام: "لعنة الله على اليهود والنصارى". قال ابن تيمية: "إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثاناً. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده". يعني حرم أفعال التعظيم هذه أو أفعال التزيين على من قصد اتخاذها أوثاناً ومن لم يقصده. قال: "وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده، بل قصد خلافه، سداً للذريعة". يعني حتى من أراد إفراد الله عز وجل بالعبادة يحرم عليه كل الأفعال التي قد تكون ذريعة في يوم من الأيام إلى شرك القبور.
-
سد ذريعة التشبه بالمشركين: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر سداً لذريعة التشبه بالمشركين الذين كانوا يسجدون للشمس في هذين الوقتين، مع أن هذا التشبه كما قال ابن القيم لا يكاد يخطر ببال المصلي، فليس من المسلمين من يخطر بباله إن صلى في هذين الوقتين مشابهة الكفار، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سد ذريعة المشابهة بالكلية.
-
سد ذريعة عودة الشرك: ونذر رجل على عهده صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة (موضع)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها - يعني في بوانة - وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا. فأمره النبي أن يوفي بنذره. لاحظ: هل كان فيها قديماً وليس الآن؟ كل هذا سداً لذريعة عودة الشرك.
-
سد ذريعة التسوية في التعظيم مع الله: ونهى عليه الصلاة والسلام عن الحلف بالآباء وبأي شيء دون الله، بل وقال في الحديث الحسن: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". كل هذا سداً لذريعة التسوية في التعظيم مع الله تعالى.
-
سد ذريعة الشرك في الألفاظ: ونهى رسول الله أصحابه أن يقولوا: "ما شاء الله وشئت"، وذم الخطيب الذي قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى" ذمه. كل هذا حسماً لمادة الشرك حتى في الألفاظ. وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يقول أحدكم أطعم ربك وضئ ربك" يعني سيدك، "وليقل سيدي ومولاي، ولا يقول أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي". والحديث متفق عليه، مع أن ألفاظ "ربي" بمعنى سيدي و"عبدي" بمعنى فتاة المملوك، هذه كلها كانت تستخدم لغة دون قصد الشرك. قال البغوي: "فإدخاله مملوكه تحت هذا الاسم اسم عبد يوهم التشريك" يعني مع الله عز وجل. انظر لمجرد أنه يوهم منع منه النبي صلى الله عليه وسلم.
-
سد ذريعة الفتنة في التعاملات الاجتماعية: ونهى رسول الله عن أن ينحني الرجل لصديقه إذا لقيه. كل هذا لماذا؟ حفاظاً على سلامة العقيدة.
ازدواجية المعايير في سد الذرائع
ألستم تقرون أيها العلماء الذين حشدتم الناس إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية والتصويت بنعم على الاستفتاء، ألستم تقرون بما تقدم كله، بل درستموه ونشرتموه؟ فأين حراستكم للتوحيد؟ وأين حسمكم لمادة التلبيس؟ وأين سدكم للذرائع؟
عندما يقول القائل للشعب: "أنتم الشرعية التي لا تعلو عليها شرعية"، عندما يقول في خطابه الأول: "لكم ما تشاء وتمنعوا عما تشاء". أيهما أقرب للشرك وأولى أن ينكر سداً للذريعة: تسمية السيد رباً مع سلامة القصد؟ أم عبارة "السيادة للشعب وحده والشعب مصدر السلطات جميعها" والتي تعني ربوبية التشريع بالقصد الفاسد الذي يكرس في نفوس الناس؟
أيهما أقرب للشرك وأولى أن ينكر سداً للذريعة: إضاءة المصابيح على القبور؟ أم عبارات التعظيم للدستور الوضعي والقسم على احترامه؟ هل يعقل أن تمنع الشريعة من السجود لله عند طلوع الشمس وغروبها سداً للذريعة، وتسمح في الوقت ذاته بالقسم على احترام الدستور، دستور يجعل التشريع للبشر من دون الله؟ ما لكم كيف تحكمون؟
أيهما أقرب للشرك: عبارة "ما شاء الله وشئت"؟ أم "الشعب مصدر السلطات جميعها" وعبارة "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب"؟ فهي ليست عبارات "ما شاء الله وشاء الشعب"، بل "ما شاء الشعب" وحدها. ومع ذلك حشدتم الناس للموافقة على دستور تضمن هذه العبارات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألم تكونوا تحرمون على الناس تعليق صورة أب متوفى على اعتبار أن هذا التعليق تعظيم وهو ذريعة إلى الشرك، فتمنعون من ذلك قولاً واحداً ولا ترونهم قابلاً للخلاف، حتى غدا ذلك من ملامح الدعوة السلفية؟ فأين حزمكم وعزمكم وإنكاركم في الحملات الانتخابية لتعليق صورة عملاقة لرئيس سيحكم بغير ما أنزل الله؟
ألم تكونوا تحتاطون جداً في سد الذرائع في العلاقة بين الجنسين، حتى أنكم حرمتم لفترة من الزمان استخدام الفيسبوك؟ سئل الشيخ ياسر برهامي عن التشات بين الجنسين فقال: "إن من باب سد الذريعة إغلاق هذا الباب" يعني التشات بين الجنسين لما فيه من الفتن. وأنا هنا لا أنكر الاحتياط في هذا الأمر، لكن أقول: سد الذرائع للتلبيس العقدي أولى أيها المشايخ.
ألم تكونوا تتمسكون بوجوب النقاب وتذكرون من حججكم في ذلك سد الذريعة إلى الفتنة، وتعرضون هذا على أنه القول الأوحد الذي لا يقبل فيه خلاف؟ أليس سد الذريعة إلى التلبيس العقدي أولى وأحرى ألا يقبل فيه خلاف؟
ألا تهدينا مرونة التفكير إلى أن شرك الأصنام والقبور كان الظاهرة الأشد خطراً وقت نزول الرسالة؟ ننكر قول من قال منهم: "نريد تطبيق مبادئ الشريعة فقط"، فيقال لنا: لكنه قال في المقام الآخر: "نريد تحكيم الشريعة".
ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من ألفاظ موهمة لفساد عقدي، حتى وإن جاء الصحابة بألفاظ أخرى صحيحة أحياناً؟ فهم وإن حلفوا بآبائهم أحياناً إلا أنهم حلفوا بالله وحده أحياناً أخرى، فكيف والصحابة في ذلك كله سليمة عقائدهم يحاربون ليكون التشريع كله لله، بينما أصحاب التصريحات التي فيها شرك التشريع والتي فيها تسويغ واضح للحكم بغير ما أنزل الله يطبقون تصريحاتهم هذه على أرض الواقع، وتبقى تصريحات تطبيق الشريعة في المقابل وعوداً في الهواء تدغدغ عواطف المطالبين بها وليس لها من الواقع نصيب.
التناقض في فهم الناس
وهنا نلاحظ ازدواجية عجيبة، فالمدافعون عن المسلك الديمقراطي يتعذرون لهذه التصريحات الفاسدة بأن الناس "فهموا كل شيء". الناس فهموا كل شيء وهذه التصريحات لن تلبس على الناس لأنهم يعرفون أنه إنما يراد بها مراوغة عسكري. بينما هؤلاء المتعذرون أنفسهم يبررون تعطيل الشريعة بقولهم: "أن الناس لديهم جهل بمفاهيم الدين وتصورات مشوهة عنه، فكيف تريدنا أن نطبق عليهم الشريعة مرة واحدة؟" سبحان الله! فالناس عند هؤلاء المتعذرين، الناس عندهم مرة يفهمون كل شيء ومحصنون ضد التلبيس العقدي، ومرة أخرى جهال ملوثة مفاهيمهم، حسب مصلحة المدافعين عن المسلك الديمقراطي.
ثم هل الناس أكثر فهماً للعقيدة وأكثر حصانة ضد التلبيس من صحابة النبي الذين حرم عليهم رسول الله هذه الألفاظ سداً للذريعة؟
الخلاصة: فشل المسلك الديمقراطي في سد ذرائع الشرك
خلاصة الأمر أن سالكي المسار الديمقراطي لم يفشلوا في سد الذرائع إلى شرك التشريع فحسب، بل صرحوا تصريحات فيها شرك تشريع واضح وفيها تسويغ للحكم بغير ما أنزل الله. ثم ها نحن نرى هذه التصريحات تطبق على أرض الواقع. ليست مشكلتنا أنهم قالوا: "ما شاء الله وشاء الشعب"، بل قالوا: "ما شاء الشعب وحده". ثم لم يكن هذا سوء تعبير جبره الواقع، بل قناعة آتت ثمارها الخبيثة في مفاهيم الناس وفي منظومة الحكم والتشريع.
في الحلقة القادمة سنعرض لمفهوم سيادة الشعب وآثاره على عقيدة الناس وتصوراتهم، ونرصد مدى انتشار هذه الآثار في المجتمعات الإسلامية بإذن الله.
خاتمة الحلقة
لئن كان العلماء يسدون الذرائع إلى محرمات، فسد الذرائع إلى شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله أولى. والسلام عليكم ورحمة الله.