هل نحن قريبون من النصر؟
السلام عليكم إخوتي.
ماذا نقول في رجل يتمنى الذرية لكنه يكسل عن الزواج وأعبائه، فيقعد يدعو الله عز وجل قائلاً: "اللهم أنت القائل: ادعوني أستجب لكم، اللهم فإني أدعوك أن ترزقني بنين وبنات فارزقني إياهم كما وعدتني"، بينما هو لا يريد الزواج أصلاً؟
ماذا نقول في طالب أنهى الثانوية ويتمنى دراسة الطب، لكنه انشغل بطلب الرزق، فقال: "اللهم أنت القائل: ويرزقه من حيث لا يحتسب، اللهم فارزقني شهادة الطب لا أحتسب"؟
ماذا نقول في هذا الرجل وذاك الطالب؟ أليس دعاؤهما هذا نوعاً من الاعتداء الذي نهى الله عنه إذ قال: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين}؟ من معانيها أن يعتدوا في دعائهم بطلب ما لا يصح طلبه.
لكن اسمحوا لي إخوتي أن أقول: نحن أيضاً نعتدي في الدعاء كهذا الرجل وذاك الطالب. نعتدي إذ نقول: "اللهم نصرك الذي وعدت"، وكأننا أخذنا بأسباب النصر التي أمر الله بها، وما بقي إلا أن ينجز الله لنا وعده.
ليست كلمتي هذه للتثبيط، بل ولله الحمد بتنا نرى طلائع الإيمان تحقق الكثير، ونرى ضعف النظام الدولي الذي يريد توجيه ضربة جوية ثم يتردد ولا يجترئ على إنزال قوات برية لما ذاقه من قبل، ويترجى مجاهدين للتفاوض معه وفتح مكتب لهم، بينما هم يوجهون له الضربات الموجعة. الله تعالى يعطينا بذلك الأمل لنتلمس طريق النصر ونأخذ بأسبابه.
ما هي أسباب النصر؟
كثيرة، تعالوا نستعرضها من الكتاب والسنة والتاريخ. لكن إخوتي قبل أن نبدأ بها، أود أن أؤكد على معنى مهم جداً: هذه الأسباب نعرفها مسبقاً، لكننا نتعامل معها على أنها كماليات تحسينية، بينما هي كما دلت الأدلة أسباب لسنا موعودين بالنصر دون الأخذ بها. أسباب كالزواج لذاك الرجل والدراسة لذاك الطالب.
مشكلتنا أننا نركز على أحدها ونظن أن العناية به تسد النقص الحاصل في الأسباب الأخرى، بينما قد جعل الله لكل شيء قدراً. فالنصر له أسبابه التي لا بد من الأخذ بها بقدر معين، والله عز وجل إنما شكر من يسعى السعي المطلوب، وليس مجرد سعي أي سعي، فقال: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً}. إذن المطلوب هو سعيها المخصوص.
اليوم نستعرض بعض هذه الأسباب بإيجاز، ونفصلها في كلمات أخرى بإذن الله.
السبب الأول: سلامة المنهج
السبب الأول للنصر: سلامة المنهج الذي نقاتل عليه ونضحي من أجله. لكن عامة الناس افترقوا في هذا السبب على ثلاث طوائف:
- الطائفة الأولى: فرطت في المنهج وأعملت فكرها في ابتداء طرق للوصول إلى النصر والتمكين وإن صادمت الأدلة.
- الطائفة الثانية: تمسكت بالمنهج واعتنت بتجريد التوحيد ونبذ الديمقراطية والتمسك بالحاكمية، لكنها تعاملت مع هذا السبب كأنه كل شيء، وظنت أن سلامة المنهج راقعة لكل خرق وجابرة لكل نقص، فما اعتنت بالأسباب الكثيرة الأخرى ولا رعتها حق رعايتها.
- الطائفة الثالثة: وهي السواد الأعظم من المسلمين. ليحصل على لقب الدكتوراه الذي هو بذاته دون تسخير لخدمة الدين ليس سبباً في دخول جنة ولا نجاة من نار، يربع قرن من عمره أنفقها من أجل الدنيا. وهو مع ذلك إذا طلب منه قراءة بحث أو سماع سلسلة تعينه على تبين المنهج القويم الذي يوصله إلى رضوان الله وجنته، فإنه يتكاسل ويحسب أن سلامة نيته كافية له عند ربه، ويكتفي بعد ذلك بانطباعات عاطفية عامة عن الأفراد والجماعات والمناهج شكلها من خلال لفتات عارضة وأخبار متفرقة سمعها هنا أو هناك. وهو مع ذلك يدافع عن انطباعاته هذه وتأخذه العزة بالإثم إن خطئ فيها.
وأحسب أن أكثرنا معاشر المسلمين متوزعون على هذه الطوائف الثلاثة، ومع ذلك نرفع أيدينا في وتر التراويح وبعد خطبة الجمعة لنؤمن على دعاء: "اللهم نصرك الذي وعدت". لا والله ما على مثل هذا وعدنا الله بالنصر.
السبب الثاني: أعمال القلوب
السبب الثاني إخواني من أسباب النصر: أعمال القلوب. قال الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}. إذن فالفتح كان ثواباً على ما وقر في قلوب الصحابة.
أعمال القلوب هذه تشمل الإخلاص والتبرؤ من حولنا وقوتنا والتجرد من حضور ذوات أنفسنا. هذه كلها مطلوبة، وليس إرادة نصر الدين فحسب. قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}. فالعجب عمل قلبي سبب الهزيمة، وسلامة المنهج لن تسد الخلل حينئذ.
السبب الثالث: اجتماع كلمة المسلمين
السبب الثالث من أسباب النصر: اجتماع كلمة المسلمين. قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}. هذا التشبيه فيه لفتة جميلة، فالبنيان لا يكون قوياً إلا بشرطين: قوة اللبنات (يعني الطوبات)، وقوة الملاط (أي المادة التي تلصق اللبنة باللبنة). إذا اختل أي من هذين الشرطين كان من السهل هدم البناء إذ هو غير مرصوص.
حتى لو كان المجاهدون أقوياء في ذواتهم، لدى كل منهم عقيدة ناصعة ومنهج سليم، لكن الروابط بينهم ضعيفة، فإنهم حينئذ يكونون كسور لبناته من حديد لكن المادة التي تلصق اللبنات بعضها ببعض ضعيفة، فما أسهل أن ينهدم هذا السور. فكيف إذا كان بينهم تنازع؟ والله تعالى قال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
كثيراً إخواني ما نجعل سلامة المنهج سبباً في تنازعنا مع غيرنا ممن لم تخرجهم أخطاؤهم عن كونهم مسلمين، ومع أنه يسعنا أن نتعامل مع أخطائهم بما يحفظ وحدة الصف وتراصه دون تميع المنهج، ولا ندري أننا بقطع صلتنا بهم باسم فضح الباطل نعصي الله ورسوله إذ ننكر المنكر بطريقة غير سنية تفشلنا وتذهب ريحنا.
إخوتي، هناك حادثة منسية في التاريخ وما لا يعلمه كثيرون أن هذا الجمع من المسلمين هزم تتار هزيمة نكراء في منطقة غزنة بأفغانستان، ثم هزيمة نكراء أخرى في كابل. ومع ذلك لا نسمع عن هذين الانتصارين للمسلمين، بل نعلم أن التتار اجتاح العالم الإسلامي بعدها وقتلوا الملايين وأفنوا مدناً بأكملها. لماذا؟ لأن جيش المسلمين بعد الانتصارين المذكورين اختلف على الغنائم إلى حد الاقتتال، مما أدى إلى انسحاب القوات التركية بقيادة بغرق، ففشلوا جميعاً وذهبت ريحهم. هل كان المقتتلون على الغنائم حينها يدرون أن هذا المتاع التافه الذي اختلفوا فيه سيكون سبباً في قتل الملايين من المسلمين وتشريدهم وتعذيبهم؟ وكم من الآثام لحقتهم بتنازعهم الذي أدى إلى ذلك كله.
السبب الرابع: حسن الإدارة والتخطيط
السبب الرابع من أسباب النصر: حسن الإدارة والتخطيط. إخوتي، من منا جلس يوماً وأمسك بورقة وقلم وقال: "أريد أن أخطط لخدمة ديني، أريد أن أرتب الأولويات وأحدد الرسالة والرؤية والأهداف"؟ أم أننا نعطي لديننا فضول الأوقات للتنفيس عن الشعور بالذنب كلما شعرنا أننا قصرنا في حقه؟
لا بد من وقفات مع حسن تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل السرية في مكانها والعلنية في مكانها، والمواجهة في حينها والصبر على الأذى في حينه. رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم نجح هو ووفد الأنصار أن يعقدوا بيعة العقبة الثانية في سرية تامة، تسلل 73 رجلاً وامرأتان ليلاً من بين مئات المشركين الحاجين معهم ليلتقوا رسول الله ويتفقوا على المرحلة المقبلة دون علم أهل مكة ولا حتى المسلمين منهم.
رسول الله الذي كان إذا سار إلى وجهة ورّى عنها بغيرها، فيسير الجيش خلفه وهم لا يعلمون الوجهة حتى يربك المنافقين وجواسيس الكفار. بينما يظن كثير منا أن البركة وحسن النية سينجي من عواقب سوء التخطيط وإفشاء الأسرار والثرثرة التي ضررها يتعدى إلى إخوانه من المسلمين والمجاهدين، ويغيب عن ذهنه أنه بذلك يعصي الله تعالى القائل: {خذوا حذركم}. ثم بعد هذا إذا ابتلي بفعله يقول: "اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم فرجك الذي وعدت". لا والله ما على مثل هذا وعد الله النصر.
السبب الخامس: حسن الخلق
السبب الخامس إخواني للنصر: حسن الخلق. في حديث بدء الوحي المتفق عليه، قالت أمنا خديجة رضي الله عنها للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً". لماذا لن يخزي الله نبيه بل سيعزه وينصره؟ ما هي الأسباب؟ تابعت رضي الله عنها قائلة: "فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق". وهذه كلها أخلاق كانت نتيجتها أن الله تعالى لن يخزي نبيه. وهذا ما نحتاجه اليوم، ألا يخزينا الله ولا يخذلنا في معركتنا مع أعدائنا، فلا بد من الاعتناء بالأخلاق ولا بد من الاعتناء بأخلاقنا.
السبب السادس: الإعداد
{وأعدوا لهم ما استطعتم}. فعدم الإعداد معصية. هل نحن أمة إعداد أخواني أم أمة غثائية؟ الطلاب في مدارسهم، المعلمون، الموظفون، الباحثون، الأمهات المربيات. كم من طلابنا يتكاسل عن تحصيل العلم الدنيوي النافع ويكثر الطعام ثم النوم، وهو مع ذلك يدعو الله أن يبلغه الشهادة. ولو أراد الخروج لأعد له عدة. وحتى إذا بلغه الله ساحة جهاد ووقع في يديه وأيدي إخوانه مستودع من المعدات، فقد يحرم من الانتفاع بها لتقصيره في الهندسة التي سجل فيها لكنه تلهى عن دراستها وما استجاب لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم}. أيحق له أن يقول بعدها: "اللهم نصرك الذي وعدت"؟
إخوتي، ذكرنا هنا ستة أسباب ولا زال هناك غيرها. إنما أردت بهذه الكلمة توسيع مداركنا لألا نحصر أسباب النصر في سلامة المنهج أو حسن القصد. ولأجل ما تقدم، فإني أعجب من جرأتنا على الله وصبر الله علينا إذ نعتدي في الدعاء فنقول: "اللهم نصرك الذي وعدت". لا والله ما على مثل هذا وعدنا الله النصر. فلا ينبغي أن ندعو بهذا الدعاء أمام أبنائنا الذين تمر السنون تلو السنون وهم يسمعون منا هذا الدعاء ولا يرون نصراً، وكأننا ننسب إخلاف الوعد إلى الله تعالى، مع أننا في حقيقة الأمر كباغي الذرية بلا زواج والطب بلا دراسة. ونظن حسن الظن ونظن حسن النية يسد كل فجوة ويرتق كل خرق، ونظن أن المطلوب شيء من العمل أي عمل.
تساؤلات وإجابات
طبعاً هذا الطرح سيثير تساؤلات كثيرة: أليس لنا أن نقول: "اللهم انصر الإسلام والمسلمين"؟ أيعني كلامك أنه لا بد أن يكون المسلمون كلهم على قلب رجل واحد مستكملين لأسباب النصر؟ ألم ينتصر المسلمون في فترة من التاريخ وفيهم من العيوب ما فيهم؟ سنجيب عن هذه التساؤلات في كلمات قادمة بإذن الله.
وأختم بالإجابة عن السؤال: هل نحن قريبون من النصر أم بعيدون عنه؟
الجواب فيه حقيقتان: حقيقة محزنة وأخرى مفرحة.
الحقيقة المحزنة
أما المحزنة فبناءً على ما تقدم إخواني، فنحن بعيدون عن النصر جداً، لأننا لم نأخذ بأسبابه بالقدر المطلوب. ومعاندة السنن والتماس حالة شاذة عنها لن يجدي شيئاً. لا درب يوصل غير درب يؤخذ بها وإن بدا درباً طويلاً.
الحقيقة المفرحة
أما الحقيقة المفرحة فهي أننا قريبون من النصر جداً. نعم، قريبون من النصر جداً. لماذا؟ لأننا نملك زمام المبادرة، فنحن الذين نستطيع بتوفيق الله أن نأخذ بالأسباب، ولن تستطيع قوى الكفر كلها حينئذ أن تشل إرادتنا، تماماً كعجزها عن انتزاع الإيمان من قلوبنا. وحينئذ فسيبارك الله تعالى في القليل الذي استطعناه واستنفدنا وسعنا فيه، وسيصنع الله تعالى لنا العجائب لأننا ببساطة أطعناه بأن أعددنا ما استطعنا. وحينئذ فسندعو بيقين قائلين: "اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت".
الخلاصة
الخلاصة إخواني: نصر الله قريب، قريب جداً، لكن نحن الذين نقترب منه أو نبتعد عنه.
والسلام عليكم ورحمة الله.