يا أهل غزة لا تحزنوا
السلام عليكم.
أستحي أن أخاطب تيجان الرؤوس من أهلنا في غزة، فهم من يعلمنا. والله أعلم بالقهر الذي يحس به أحدنا من عجزه عن نصرتهم النصرة الكاملة بالنفس والمال. لكن من إخواننا في غزة أنفسهم من يطلب أن ننشر كلمات التثبيت والتبيين، وهي منا جهد المقل. وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
قصة تثبيت
أقول لإخواني في غزة، حصل معي موقفٌ ثبَّتني الله فيه بأخ، وأنا أطمع أن أكون سببًا من أسباب تثبيتكم. يوم سُجنت على مقال قبل ثماني سنوات، جاءني خاطرٌ يقول: "هل كنت يا إياد مخلصًا في نيتك حين نشرت المقال؟ هل قصدت بالفعل أن تنصر دين الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وتنكر المنكرات؟ أم أنَّ نيتك كانت مخلوطة بالتطلُّع إلى مدح الناس أنَّك شجاع تقول كلمة الحق؟ فإن كنت كذلك فلا أنتَ نلتَ الأجر عند الله، ولا بقيتَ سالِمًا بين أهلك وعيالك وفي عملك ومكانتك الاجتماعية المحترمة."
كنتُ في سجنٍ انفرادي، ومع ذلك أستطيع أن أكلمَ الإخوةَ القريبينَ مني عبرَ الأثير. فبحتُ بهذا الهم لأحدهم، وكان ذكيًّا تقيًّا فيما أحسبه. فقلت له: "يا فلان يأتيني هذا التفكير وأخاف منه." فصارت صرخة يا إخواني جلجلت في كياني ولازلت أذكرها حتى الآن. وقال: "يا شيخ إياد أسألك بالله إياك أن تفكر بهذه الطريقة، هذا من الشيطان. حبسوا جسمك فجاء الشيطان ليحبس روحك ويحطم عزيمتك. أنت فعلتها لله وعملك مقبول وأنت عليه مأجور بإذن الله، فإياك أن تقول ذلك مرة أخرى أسألك بالله."
وسبحان الله، أحسست وقتها أن عملي مقبول بإذن الله وأن الخاطر كان وسواسًا من الشيطان بالفعل، خاصة وأن الله قد يسر بلطفه أن يرسل لي هذا الصوت الصادق المجلجل ليثبت به قلبي. وأنا الآن أتقرب إلى الله بتثبيتكم يا أهل غزة، وشعاري: "فثبتوا الذين آمنوا".
يا أهل غزة: أنتم فعلتموها لله
أنتم يا أهل غزة فعلتموها لله. أطلقتم طوفان الأقصى لله. والتففتم حول مجاهديكم لله. ولم تخونوهم ولم تخذلوهم ولم تعينوا عليهم لأنكم تريدون الله والدار الآخرة فيما نحسبكم.
حين تسمعون قول من يقول: "لقد جروا على أنفسهم الويلات"، فاعلموا أن هذا صوت الشيطان ينطق على ألسنة بني آدم. أنتم أساتذة اليقين فلا تسمحوا لمن ضعف يقينهم أن يحزنوكم. فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
الرد على المثبطين
الذين يلومونكم لا يفهمون معاني العزة والكرامة والتضحية في سبيل الله كما تفهمونها أنتم. ليس بينكم وبينهم لغة مشتركة فلا تلتفتوا إليهم. لو كان كلامهم قبل وقوع الأحداث وكان دافعهم له تقدير المصالح الدينية لكان له وجه، وإنما يضيفون إلى معاناتكم إدخال الحزن والندم على نفوسكم.
الشيطان يجلب عليكم بخيله ورجله، يحرِّك أولياءه من الكافرين ليقصفوا أجسادكم، ويوسوس إلى طائفة من المسلمين ليقصفوا عزيمتكم. فإذا سمعتموهم فتذكَّروا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك". وهؤلاء المثبطون قد جمعوا الخذلان والمخالفة، فاصبروا حتى يأتي أمر الله.
مجاهدوكم لم يجنوا عليكم كما يقول المخذلون، بل أنتم ومجاهدوكم أحييتم معاني العزة في أمة كاملة وضربتم مثالًا رائعًا للأجيال القادمة. قتلاكم إن شاء الله في الجنة، وفطائس عدوكم في النار.
الذين يجرون الويلات على شعوبهم هم الذين يملؤون بلادهم بالفسق والمجون ويقتلون فيهم روح الجهاد، فيموت الشباب بجرعة مخدرات زائدة أو بحوادث من تصرفات طائشة أو بشجار تافه، ومن عاش منهم فالشهوات والشبهات تعشش في قلبه. فهؤلاء يقتلون الأرواح وهو شر من قتل الأبدان، والفتنة أكبر من القتل.
ولو كان مخذلوكم يفقهون لعلموا أن هذا وقت النصرة لا وقت العتاب، ولكن ينطبق عليهم قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
الكل سيموت، لكن فرق بين من يعيش جبانًا ويموت جبانًا، وفي المقابل من يضرب مثال عزة للأجيال ويمرغ أنف عدوه في التراب ويكون آيةً من آيات الله في التضحية والثبات. فلا تلتفت للمثبطين فهم لا يفهمون هذه المعاني التي بها تعيشون واللغة التي بها تتكلمون.
الكل سيموت بسببٍ أو بآخر. في الشهور والأسابيع الأخيرة ضحايا زلزال تركيا وسوريا زادوا عن خمسين ألفًا، وضحايا إعصار ليبيا وزلزال المغرب زادوا عن ثلاثة آلاف، وضحايا زلزال أفغانستان زادوا عن ألفين وخمسمائة. ونسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء.
لكن كما قال أخونا الأستاذ محمد الهامي: "فلو كانت المنية تأتي للواحد منا فلتكن في معركة يلتقي فيها خيرة عباد الله في صفوة أرض الله ضد شر الدواب عند الله في أظهر معركة بين الحق والباطل لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وتكون كلمة الله هي العليا". وصدق، أنتم بشنكم هذه المعركة كأنكم اخترتم طريقة وفاتكم لتكون أشرف طريقة.
فخ إشعار المسلمين بالضعف
ثم تجده يراقع أحداثًا، ويربط بينها بأيَّ طريقة ليثبت نظريته الجوفاء. وهؤلاء أيضًا ينطقهم الشيطان، وهم لا يشعرون. عشَّش في نفوسهم الضعيفة أنه ليس شيءٌ في الدنيا يخرج عما خطَّطه الغرب. وكأنَّ الغرب قدَّر أقدار الخلائق بحيث لا مفرَّ من قدره. وهذه أسهل وسيلةٍ للسيطرة على الشعوب وكسر إرادتها، لأنها ستشعر أنها مهما فعلت فكله سيصب في صالح الآلهة الغربية. فإذا قاومنا الظلم فسيكون وفقًا لمخططات الغرب، وإذا أعنَّا إخواننا فسيكون وفقًا لمخططات الغرب، فعلى ماذا العمل إذن؟
نحن نبذل ما يمكن من أسباب ونعد ما استطعنا من قوة، ثم {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ}. أما إذا أخذنا بقول المرجفين فإنا سنقعد خشية أن نكون من المستدرجين.
لا النظام الدولي ولا الكيان الصهيوني ولا أذنابهم من مصلحتهم ما فعلتموه يا أهل غزة من كسر هيبة الكيان بهذا الشكل والدوس عليها ورميها في المزبلة إلى الأبد بهذا الشكل، بل وهيبة من يدعمونه ويحمونه. لا النظام الدولي ولا الكيان الحقير من مصلحتهم إشعار المسلمين بأنهم قادرون. فهذا يحطم القيود النفسية التي عملوا على تركيبها فينا عبر عقود. وهم الذين عملوا في صفقة شاليط على تكريس أن الواحد منهم بألف منا. ثم الآن آلاف منهم يقتلون ويهانون ويؤسرون ويصابون بالذعر ويفرون.
الغرب ببساطة يحسن استغلال الحوادث، لكنه لا يصطنعها كلها. فافترض يا صاحب نظرية الفخ أن الكيان أو حلفائه علموا وخططوا. لماذا لا تستغل الأحداث كما يستغلون؟ وتسعى إلى أن تقلب مكرهم عليهم وتكون من أدوات الله في ذلك، فهو سبحانه القائل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. إنما الذي وقع في الفخ هو أنت، فخ إشعار المسلمين بالضعف والعجز وأنهم لا يملكون أن يفعلوا أمام عدوهم شيئًا ولا أن يخرجوا عما رسمه لهم.
فلا تسمعوا يا أهل غزة للمثبطين، {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
أهمية الالتفاف حول المجاهدين
التفافكم حول مجاهديكم سبب لنزول رحمات الله عليكم. يعمل أعداؤكم جاهدين على شق صفكم ولم ينجحوا من قبل في أفغانستان، فكانت النتيجة أن خرجوا خائبين مهزومين بعد عشرين عامًا من القتل والتنكيل، ومع ذلك فشلوا وذلوا وولوا خائبين. بينما استطاعوا في أمثلة أخرى أن يشقوا الصف ويستميلوا مرضى القلوب ويضربوا الناس بعضهم ببعض كما فعلوا حين سلطوا سلطة العار على المسلمين في الضفة الغربية. فلا خيار إلا الالتفاف حول شرفائكم.
تذكروا قول الله تعالى فيما حصل في معركة أحد: رأى المؤمنون ما يحبّون من عزَّة وتغلُّب على الكافرين، لكن تنازعوا فيما بينهم، وعصى بعضهم لأنه يريد الدنيا، فوقعت المصيبة على الجميع.
آيات للتثبيت من سورة آل عمران
ختامًا أيها الأحبة من أهلنا في غزة وفي فلسطين، تأمَّلوا هذه الآيات العظيمة من سورة آل عمران، والتي كأنها أنزلت اليوم. أنزلوها على واقعكم وتلمسوا تثبيت ربكم في كلماتها.
قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. أنتم الأعلون ما دمتم مؤمنين صابرين محتسبين. أنتم الأعلون فأحديتكم فوق رؤوس من يقاتلكم ويتآمر عليكم وإن فعلوا بأجسادكم ما فعلوا. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
لاحظ، حتى ولو قُتل محمد صلى الله عليه وسلم، ستستمرُ الدَّعوة، وتستمرُ التَّضحيات، وتستمرُ المعركة، ولا ينقطعُ عون الله لعباده المؤمنين. تذكَّروا ذلك وأنتم ترون أبطالكم يرتقون في هذه المعركة.
يقول تعالى بعدها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}.
نسأل الله أن يثبتكم ويعيننا على نصرتكم ويجمعنا أمة واحدة عزيزة. والسلام عليكم ورحمة الله.