يا أهل مصر تعالوا نضمد الجراح
اخوتي وأحبتي في الله بمصر، السلام عليكم ورحمة الله. في هذه الكلمة نحاول أن نضمد جراحنا، ونحيي الأمل، ونجيب عن بعض التساؤلات: كم سيستمر هذا الابتلاء في مصر؟ ما المخرج منه؟ هل نستمر في المسيرات والتظاهرات؟ هل السلمية هي الحل؟ هل نتوقف عن الإحسان إلى العامة الذين أعطوا تفويضاً للقاتل وشمتوا بنا؟
بدايةً، اخوتي الذي يتوقع أن يجد في هذه الكلمة حلاً خارقاً سريعاً للأزمة في مصر، فإنه لن يجد. هذه الكلمة هدفها أن أجعلك تيأس من الطرق غير الموصلة، لئلا تضيع وقتك فيها، وأن تصب جهدك في الطريق الموصل مهما بدا طويلاً، وتتخلص مما يعيق تقدمك فيه.
استيعاب الصدمة وتصحيح المنهج
بداية الحل، اخوتي، أن نستوعب الصدمة. صدمة أن فرصتنا في الحكم -نحن أصحاب الهم الإسلامي- قد ضاعت. عدم استيعاب الصدمة والمكابرة وإنكار الواقع والتعلق بآمال وهمية أمور مؤذية جداً. فهي ذاتها التي خدرت في بدايات الثورة عندما عاد العسكر إلى طغيانهم وتحكمهم بالبلد، ومع ذلك تعامى الناس عن حقيقة سرقة الثورة، ولم يهبوا لإنقاذها، متعلقين بآمال زائفة كالانتخابات البرلمانية والرئاسة، فضاعت الفرصة تدريجياً عبر سنتين ونصف ونحن تحت تخدير الآمال الوهمية نسير في طرق غير موصلة.
أخطاء الماضي
لذا فمن العبث والضحك على النفس والآخرين تصيد الأخبار التي تعطي أملاً برجوع الفرصة من الوهم. الظن بأن الخلافات في صفوف العسكر والمتحالفين معه تعني عودة الفرصة لنا، فسقوطهم لا يعني صعودنا مع ما وصلنا إليه من فقدان ثقة كثير من شعبنا.
من العبث أن نقول للجماهير: "أبشروا فنصر الله قريب" ثم لا نصرة، فتنتك النفوس وتساء بالله الظنون، فما على هذا المنهج الذي سرنا به وعدنا الله بالنصر. كذلك من العبث أن نتفنن في الاستهزاء بالناس الذين انخدعوا بالعسكر، ووصفهم بالعبودية للبيادة والانخداع بالإعلام، فهذا لن يزيد الناس إلا نفوراً عنا وعداوة لنا.
كذلك لن يجدينا استنفاد طاقاتنا في رصد جرائم العسكر وحكومتهم، وإن كان شيء من بيان جرائمهم مطلوباً ليعلم شعبنا حقيقتهم، لكن أعيد: سقوط العسكر لن يكون كافياً أبداً لصعودنا. كذلك من العبث هدر أوقاتنا في تتبع المواقف المخزية لشيوخ رسميين أو من انتسبوا للسلفية وتحالفوا مع العسكر. هذه كلها اخوتي ممارسات وخطاب يعمق المشكلة ولا يحلها، أو على أقل تقدير يهدر أوقاتنا وليس لدينا وقت نهدره تائهين في دهاليز الأسباب الأرضية المنقطعة عن الله تعالى.
ما أخرني اخواني عن إصدار هذه الكلمة أننا كثيراً ما نرفض الحقيقة إن كانت مرة. كنت ذكرت من قبل أن المرحلة الآن هي مرحلة دفع ثمن الأخطاء والتعلم منها، لا مرحلة الخروج من الأزمة بحل سريع أو الانتصار في هذه الجولة. فما الحل؟ ستسمع هنا كلاماً مكرراً، لكن إن أعرضت عنه فقد تقول بعد سنين: "ليتني عملت به في حينها لكنت وصلت الآن".
بداية الحل في أن نعلق قلوبنا بالله الذي بيده وحده أن يكف أذى الظالمين ويعطف علينا قلوب شعبنا ليؤذن في محنتنا. أن ندرك بأننا فرطنا في جنب الله في هذه التجربة السياسية، فسلط الله علينا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا، فنلتمس النجاة في التوبة وتنقيه منهجنا بتجرد وتسليم كامل لله.
وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: كم سيستمر هذا الابتلاء؟ اخوتي، المعلم الخصوصي إذا أراد أن يعلم التلميذ درساً، لكن هذا التلميذ كان بطيء التعلم، ماذا سيفعل المعلم؟ سيزيد عدد الحصص فتزداد المدة. ولله المثل الأعلى، الله يحب لنا أن نتعلم بهذه الأحداث دروساً في سننه تعالى في التغيير وفي أعمال القلوب كالتعظيم وخلو القلب من التعلق بالبشر ونصرتهم والاستكانة.
الذين سنتسبب في تطويل مدة البلاء إن كابرنا وأصررنا على أخطائنا المنهجية وغفلنا عن تعلم هذه الدروس.
رصيد الفطرة
اخوتي صحيح أن الأحداث أرجعت الدعوة سنوات طويلة إلى الوراء، وأحدثت فجوة كبيرة بيننا وبين الناس، لكن لكم بشارة، لكم بشارة: إن تعلمنا الدرس بسرعة فسيردم الله تعالى لنا هذه الفجوات برصيد عظيم منه سبحانه أودعه في قلوب الناس، هو رصيد الفطرة. الفطرة التي في قلوب شعبنا المسلم في عمومه، الفلاح الذي أعطى التفويض، طالب الجامعة الذي شمت بنا. هؤلاء في النهاية سيقفون أمام المرآة ويتذكرون أنهم مسلمون، سيفتحون القرآن ويقرأون قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
إن نحن أصلحنا أخطاءنا وظهرت منا توبة نصوح، فهذا أدعى أن يزول الركام عن فطرة شعبنا لتعود زيتاً نقياً يضيء بهذه الآيات فينير بصيرتهم. هؤلاء سيقرأون أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. إن تحلينا بالخلق الحسن في التعامل مع شعبنا فستوقظ هذه الآية قلوباً كثيرة على حقيقة أنهم انخدعوا بالإعلام الفاسق فآذونا.
سيسمعون قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. فإن عرضنا حكم الله هذه المرة بنقاء وصدق وتجرد من حظ النفس، فإن هذه الآيات التي يقرأونها ستردم الفجوة بينهم وبين الشريعة التي ساهم بعضنا في التنفير عنها. إنه رصيد الفطرة الذي سيكون في صالحنا ويختصر علينا السنوات ويقرب المسافات من الناس، إن نحن عرضنا الإسلام بصدق والتزمنا بصدق وتبنا إلى الله صدق.
هذا الرصيد لا تحركه أبداً شعارات الشرعية والديمقراطية والرئيس المنتخب، بل تزيد الركام على الفطرة في قلوب الناس. فإذا قرأوا كلام الله لم ينتفعوا به إذ لن يستطيعوا إنزاله على الواقع، فلا نحن إخوة بالنسبة لهم يرحمونا كما أمر الله، إذ أننا نرفع شعارات غير {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. وسيصدقونك الذي يصفنا بالمراوغة، وأن من يدعون إليها غير صادقين في تبنيها. فالله الله في فطرة الناس، الله الله في فطرة الناس، استنقذوا وأزيلوا عنها ركام، أزيلوا عنها الركام بحسن توبتكم وصدق نيتكم، ولا تخسروها بإصرار على شعارات بعيدة عن نور الوحي.
التعامل مع الناس
الصبر والإحسان
يا إخواني، نحتاج اخوتي أن نصبر على أذى الناس وسفاهتهم، وأن نتجاوز التجربة السياسية الفائتة وأداء الإسلاميين فيها، وألا نعلق معهم عند قضية تبرئة أو إدانة الأشخاص أو الجماعات وإن كانوا مظلومين، وأن نعود إلى دعوة الناس وتألفهم ومقابلة إساءتهم بالإحسان، وأن نتجنب مرحلياً طرح المواضيع التي تشعرهم بأننا نبحث عن الحكم من جديد.
ليس هذا خذلاناً لإخواننا المظلومين والماسورين، ولا خذلاناً لتحكيم الشريعة، لكن شعبنا بحاجة إلى فترة نقاهة ستعيد فيها ثقته بدينه. سيقول قائل: "لكن العسكر لن يتركونا نفعل هذا بسلام، بل قد يبطشون بنا في أثنائه". صحيح، وليس أمامك إلا الصبر، وليس هناك خيار صحيح آخر. فاستوعب الصدمة أخي، استوعب الصدمة أخي.
والمهم جداً اخواني أن نصحح النية من تألف الناس والإحسان إليهم، أننا لا نفعل ذلك خوفاً منهم ولا طمعاً في إعانتهم لنا أمام العسكر، بل نفعله لنستعيد ثقتهم وإيمانهم بالإسلام نفسه، ولنكفر عن خطايانا التي كانت سبباً في تنفيرهم من دين الله وشريعته. نفعل ذلك لنسترجع.
إذ فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً}. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
وهذا يقودنا أحبتي إلى السؤال التالي: هل نتوقف عن الإحسان إلى العامة الذين أعطوا تفويضاً للقاتل وشمتوا بنا؟ هل نحرمهم من الأضاحي والصدقات؟ إن فعلنا فهذا يكرس أيضاً الصورة التي تشكلت لديهم عنا: أننا أناس نفعيون أصحاب أجندات، نحسن إليهم طمعاً في أصواتهم الانتخابية، ونمنع عنهم الإحسان لأننا لم نحصل على المنفعة الدنيوية التي نريدها منهم، فلا أحسنا ولا منعنا لله، بل المطلوب منا أن نتألف الناس.
المسيرات والتظاهرات
السؤال التالي: هل نستمر في الاعتصامات والتظاهرات؟ هذه المسألة اخوتي لا تناقش أبداً بمعزل عما ذكرناه من وجوب استيعاب الصدمة وتصحيح المنهج. نخطئ جداً إن تظاهرنا بهدف تعطيل الحياة العامة حتى تنهار دولة العسكر، وكان ذلك دون تصحيح المنهج والشعارات، إذ أن هذا سيكرس الصورة التي يرسمها الإعلام في نفوس الشعب أن هؤلاء الإسلاميين لا يريدون مصلحتكم أيها المصريون، بل الصعود على ظهوركم، وهم على استعداد للإضرار بكم وبمصالحكم في سبيل تنفيذ أجنداتهم الخاصة.
التظاهر وسيلة مطروحة إذا اصطلحنا مع شعبنا والتحمنا به وعبرنا بالتظاهر عن آلامه وآماله، وليس مقبولاً إن كان في عيون الناس تعطيلاً لمصالحهم لفرض رأينا في نظرهم. علينا أن نحرص ألا يكون التظاهر والمسيرات في عيون الناس امتداداً للتجربة السياسية الفائتة التي وضحنا مراراً عدم شرعيتها والتي فقدت مصداقيتها لديهم. ولا ينبغي أن يكون هدفنا إسقاط العسكر فحسب دون عمل على إصلاح أنفسنا والتصالح مع شعبنا من جديد، وإبراز قيادات جديدة نقية منسجمة مع شعاراتها تكتسب ثقة الناس. لا ينبغي أن يكون التظاهر على حساب هذه الأولويات، لأنه بدونها فإن إسقاط العسكر لا يعني صعود نموذج إسلامي يكتسب معية الله ثم تأييد شعبنا.
بالمجمل اخواني، نحتاج وضع نقطة وسطر جديد، وأياً كان الخيار، التظاهر أم غيره، يبقى التأكيد على التوبة والتصحيح، حتى إذا ما ابتلينا كان بلاؤنا في الله خالصاً، وإذا قتلنا كان ذلك في سبيله تعالى، وهذا أدعى أن يرحم الله المجموع ويقرب التعافي من البلاء.
السلمية والصدام
السؤال التالي: هل السلمية هي الحل أم أن السلمية مناقضة للإسلام؟ أما إن قصدنا بالسلمية أننا نريدها منهجاً يلتزم به البشر جميعاً في كل الظروف بحيث يخطئ من يلجأ إلى القتال حتى ولو كان يدافع عن حق واضح، فإنها حينئذ بلا شك مناقضة لدين الله الذي أمر بالقتال في مواطنه المناسبة، فالسلم حينئذ كان فيها تخطئة لأمر الله تعالى ورضا بمنهج بديل عن منهج الإسلام، وهي بهذا المعنى فرع عن فساد الديمقراطية. وللأسف كثيراً ما تستخدم السلمية بهذا المعنى الفاسد هذه الأيام، حيث يذم استخدام القوة عموماً بنية تخطئة العسكر، لكن المؤمن ليس له أن يرفع شعارات باطلة لدفع مفاسد جزئية.
وأما إن قصد بالسلمية عدم لجوء المتظاهرين في مصر بوضعهم الحالي إلى القتال، فلا ينبغي اعتبار السلمية في هذه الحالة انحرافاً منهجياً أو خللاً في العقيدة، بل المسألة قابلة للتقدير والنظر، وإن كان الأفضل تجنب المصطلحات ذات المدلولات الفاسدة في عقول الناس. فالأفضل أن نقول مثلاً: "كف اليد".
فهل نكف أيدينا في هذه المرحلة أم نلجأ إلى الصدام؟ هذا السؤال أيضاً اخواني لا يناقش بعيداً عما قدمنا به من أننا أخطأنا في التجربة المصرية أخطاء تحتاج توبة وتصحيحاً. أي نعم افترى الإعلام كثيراً، لكننا أخطأنا أخطاء منهجية فصلتها في كلمات كثيرة. اختيار الصدام في هذه المرحلة يعني لدى شعبنا أننا لجأنا إلى القوة لفرض أنفسنا بأخطائنا هذه، وهذا ما سيعمق الفجوة ويعقد المشكلة ويسهل مهمة أعدائنا وإعلامهم في جعلنا على عداوة مع شعبنا الذي وقع ضحية ليس لجهله فقط بل ولأخطائنا.
لذا فليس كف اليد هو المذموم في هذه المرحلة، بل إصرارنا على أخطائنا والتغافل عن التصحيح هو المذموم. وليس الصدام هو الحل مرحلياً، بل التخلص من رواسب التجربة الديمقراطية غير الشرعية وآثارها على علاقتنا بشعبنا. وهذا لا يعني اتخاذ السلمية منهج حياة يصلح لكل زمان ويخطئ من يخالفه أياً كان ظرفه.
خلاصة الأمر
فخلاصة الأمر كله اخواني: تعليق قلوبنا بالله. {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ}. والسلام عليكم ورحمة الله.