→ عودة إلى مرئيات

مناقشة موضوعية للنموذج التركي

١٢ نوفمبر ٢٠١٣
النص الكامل للمقطع

مناقشة موضوعية للنموذج التركي

السلام عليكم ورحمة الله.

النموذج التركي وتجربة أردوغان، هل هي تجربة ناجحة تدل على صحة مشاركة المسلمين السياسية في الأنظمة الوضعية؟ هذه الكلمة إخوتي ليست للعاطفيين الذين جاؤوا ليروا إن كنت أكره أردوغان أم أحبه، وإنما هي مناقشة موضوعية لمنهج حزب العدالة والتنمية التركي الذي يراه البعض قدوة لمن أراد إصلاح أوضاع الأمة. وسنجعل نقاشنا على شكل نقاط.

هل التجربة التركية ناجحة؟

أولاً: هل التجربة التركية ناجحة؟ قبل الجواب نقول: ما الذي يقصده السائل بالنجاح؟

الرفاه الاقتصادي

إن كان يقصد رفع مستوى المعيشة الاقتصادية، فلا شك أن هذا قد تحقق في ظل أردوغان وحزبه. وقد تحقق كذلك في اليابان والصين وألمانيا بقيادات بوذية ولا دينية ونصرانية. لذا فليس الرفاه الاقتصادي دليلاً على صحة المنهج. وفي الوقت ذاته لا ينبغي أن نتكلف في إنكار هذا الرفاه لنثبت الخلل في المنهج، إذ لا تلازم بينهما.

رد بعض الحقوق والحريات الدينية

إن كان الحديث عن رد بعض الحقوق لأهلها كالمال العام وحق المرأة المسلمة في أن تلبس الحجاب، فنعم، حقق أردوغان وحزبه ذلك. وقد حققه أيضاً قادة النصارى واللادينيون في أوروبا، فالأندلس التي عاشت عقوداً من محاكم التفتيش يوجد بها الآن مسلمون يمارسون عباداتهم علناً. فليست إتاحة بعض الحريات الدينية دليلاً على صحة المنهج. وفي الوقت ذاته ليس من حقنا أن ننكر فائدة هذه الحريات ونقلل من قيمتها لإثبات الخلل في المنهج، ليس من حقنا ولا نحن ملزمون به ولا مضطرون إليه أصلاً.

أسباب إنجازات حكومة أردوغان

ثانياً إخوتي: هذه الإنجازات التي أنجزتها حكومة أردوغان جزء منها ناتج عن مقومات جعلها الله أسباباً لنهضة أي مشروع إسلامي أو غير إسلامي، وسواء أخذ بهذه الأسباب المسلمون أو غيرهم. منها البراعة في العلوم الأرضية التي يحتاجها الناس، والإدارة والتخطيط، والعمل الدؤوب، والصفات الشخصية القيادية من نزاهة وصدق وتسامح وحزم ونظافة يد وغيرها.

لذا فقولنا بحرمة المشاركة السياسية في هذه الأنظمة لا يعني إنكارنا لوجود هذه المقومات المذكورة الجيدة في التجربة التركية. وفي الوقت ذاته لا ينبغي نسبة إنجازات التجربة التركية كلها إلى المشاركة السياسية، بمعنى أن استنتاجنا لا ينبغي أن يكون كالتالي: سبب نجاح حزب أردوغان هو تبنيهم للديمقراطية. بل هذا الحزب الذي تبنى الديمقراطية أخذ بأسباب نافعة لأي مشروع، فينبغي للمشروع الإسلامي الأخذ بها استجابة لله تعالى الذي أمر بالأخذ بالأسباب.

تعريف النجاح في الإسلام

ثالثاً إخوتي: نحن المسلمين نؤمن بأننا في هذه الأرض لمهمة، فلا نعرف النجاح كما يعرفه من لا يؤمن بإيماننا، بل بما عرفه الله تعالى به إذ قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، و {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]. فالفلاح والفوز إنما يكونان في الاحتكام الكامل والطاعة المطلقة لله ورسوله بما فيه طريقة التغيير والإصلاح والنهضة بالأمة. لذا فحتى نعرف إن كانت التجربة التركية ناجحة أو غير ناجحة، نحتاج أن نرى إن تحققت فيها هذه الشروط أم لا.

علمانية الدولة التركية

حزب العدالة والتنمية انخرط في نظام الحكم بتركيا وقدم في سبيل ذلك ضمانات المحافظة على علمانية الدولة، وهو بالأصح علمن الدولة. فالدولة التركية لم تكن في حكم العسكر علمانية بالفعل، بل كانت معادية للإسلام بخصوص ومانعة للمسلمين من ممارسة شعائرهم الدينية الشخصية كالحجاب. جاءت حكومة أردوغان لتعامل الإسلام كباقي الأديان في تركيا، ولتتحول العلمانية بمفهومها الأصلي من فصل الدين عن الدولة دون منع للشعائر التعبدية الشخصية إلا ما تعارض منها مع قوانين الدولة. وكان في ذلك شيء من التنفيس عن المسلمين بالفعل، لكن هذا الوضع إخواني ليس إسلامياً ولا شبه إسلامي، بل هو وضع علماني بحت، شكل من أشكال الحيود عن جعل الأمر كله لله.

ترويج أردوغان للعلمانية

أردوغان يكرس هذا الوضع غير الشرعي الأقل وطأة من حكم العسكر ويتبناه ويروج له، ويشجع الشعوب عليه كهدف نهائي مثالي. وقد نص على ذلك في كلمته بالقاهرة بعد أحداث يناير حيث قال: "إن تركيا دولة حقوق وعلمانية وديمقراطية، وإنها تطبق مبدأ العلمانية وتقف على قدم المساواة من كل الأديان". وحث المكلفين بكتابة الدستور في مصر أن يجعل الدستور المصري يقف على مسافة واحدة من كل الأديان، أي جعل أمر الله ودينه الحق مثل أمر البشر وأديانهم المحرفة الباطلة. ونص على مثله في مؤتمر السوق الإسلامية المشتركة بتصريحه أن أي مشروع يقوم على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي فهو مشروع محكوم عليه بالفشل.

فهو يروج للعلمانية الحقيقية طواعية دون ما إكراه، ويقر هو وحزبه مبادئ كلية باطلة شركية من أجل منافع جزئية، فيشترك في حكم يجعل التشريع للبشر من دون الله، حكم يرفض قاعدة {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

مساحة تغيير أردوغان

أردوغان مساحة تغييره سلوكية لا قيمية، فهو لا يمس بقيم الدولة الرئيسية العلمانية. ومعلوم أن القيم هي أعمق ما في النظم السياسية، وتغييرها هو المعنى الحقيقي لتغيير النظام. إلا أن أردوغان لم يتبن الشريعة كمنظومة قيمية متكاملة تؤدي لتغيير شكل النظام في تركيا وبالتالي التأثير على مصالح النظام الدولي. وهذا ما تفهمه جيداً مراكز التخطيط الاستراتيجية الأمريكية، فقد نصت مؤسسة راند في دراسة لها مدعومة من وزارة الدفاع الأمريكية بعنوان "The Rise of Political Islam in Turkey" أي صعود الإسلام السياسي في تركيا، على أن حزب العدالة والتنمية لا يحاول إقامة الشريعة في تركيا. وهذا يفسر تقبل الغرب لهذا النموذج في دولة مؤثرة كتركيا، في الوقت الذي لا يتحمل فيه الغرب أي نموذج يسعى إلى التفلت من قواعد اللعبة الدولية ولو كان في دولة فقيرة بأقاصي أفريقيا أو آسيا، بل يسعى إلى تقويضه سريعاً كما حصل في مالي والصومال وأفغانستان.

الأساس الرأسمالي للاقتصاد التركي

لم يتنازل أردوغان عن أصول كلية فحسب، بل حتى إنجازاته صار فيها مساراً متحللاً من الشريعة. فالرفع الاقتصادي التركي جزء منه ناتج عن النزاهة ومحاربة الفساد وحسن الإدارة بالفعل كما قدمنا، لكنه مبني أصلاً على أساس رأسمالي فاسد يعتمد على الديون الربوية التي استدانتها حكومة أردوغان وعقود غير شرعية لا تلتزم بشروط الشركات في الإسلام ولا تمتنع عن أي محظور كتأجير شواطئ تركية للسياحة العارية.

وما لا يعلمه الكثيرون أن تركيا إنما سددت ديون صندوق النقد، وإلا فإن الدين الكلي على تركيا قد بلغ الآن 367,343 مليون دولار حسب "Debt Management Report"، أي حوالي 367 مليار دولار، وهو أضعاف ما كان عليه قبل حكومة العدالة والتنمية. وإنما يعتبر الاقتصاد التركي الآن ناجحاً بالمقياس الرأسمالي لأن مستوى النمو الاقتصادي والناتج القومي يواكب هذه الديون وما يترتب عليها من الربويات. فهو اقتصاد قوي لكنه معتمد على أسس الرأسمالية بشكل كامل لا ينفك عنها بهذا التعريف.

وبناء على ما سبق وبمنظار شرعي، فليست تجربة أردوغان وحزبه تجربة ناجحة، لأنه يضيع أصولاً من أجل فروع. والحكم عليها بالنجاح يقتضي أنه لو عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترك في دار الندوة بمكة ويقر قريشاً على ما هي عليه مقابل التخفيف عن أتباعه المستضعفين لقبل، حاشاه عليه الصلاة والسلام.

ليست مشكلتنا في أنه لا زال هناك فساد لم يقضِ عليه أردوغان أو أنه لم يصل إلى إقامة الدين بشكل كامل كما قد يفهم البعض، بل مشكلتنا في أن طريقته فيها نقض لأهم قواعد الدين ابتداءً وهو جعل التشريع لله واعتزال كل نظام يقوم على غير هذا الأساس بل والسعي إلى تغييره. ثم وسائله أيضاً ملتزمة بالمنظومة الرأسمالية المناقضة للإسلام. وحقيقة إخواني لن يتفهم هذا الكلام إلا من عظم في قلبه مقدار التوحيد، أما من غلب عليه الافتتان بالرفاه الاقتصادي والتسهيل على المسلمين في شؤونهم الشخصية فسيراه مبرراً للتضحية بتوحيد الله في التشريع والاحتكام إليه في الحياة كلها الاقتصادية وغيرها.

هل الحريات والقوة الاقتصادية تمهيد لإقامة الدين؟

رابعاً: سيقال إن الحريات والقوة الاقتصادية التي حققها حزب العدالة والتنمية خطوة ممهدة لإقامة دين الله تعالى. والجواب من وجوه:

التكليف بالطاعة لا التمكين بالطرق المحرمة

أولاً: إنما نحن مكلفون بالطاعة وحسن الاتباع لا بالسعي إلى التمكين ولو بطرق محرمة. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. نحن مأمورون بتحقيق الشق الأول بأن نكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن ذلك عدم اتخاذ أية وسيلة محرمة للتمكين. وحينئذ فالتمكين مضمون من الله تعالى.

تمكين حقيقي لا مجرد حريات دينية جزئية، بل تمكين تنفك عاتق فيه البلاد من الاستعباد للنظام الدولي، لا أن تبقى تركيا رهينة الاقتصاد الرأسمالي وشريكة في الحرب على الإرهاب وجزءاً من حلف شمال الأطلسي المحتل لأفغانستان، وتعتبرها مراكز التخطيط الغربي نموذجاً للإسلام المعتدل المتوائم مع العلمانية والديمقراطية ينبغي تشجيعه وجعله قدوة للشعوب الإسلامية منعاً لتنامي الإسلام المتطرف كما في الدراسة المذكورة "صعود الإسلام السياسي بتركيا". تمكين يكون مقدور المسلمين فيه نصرة المستضعفين كما في سوريا نصرة حقيقية، لا أن تمر السنين والمسلمون يذبحون على الناحية الأخرى من الحدود التركية. تمكين لا نجد فيه شواطئ العراة بمرمريس والعلاقات الاقتصادية الحميمة مع ما يسمى بدولة إسرائيل على الرغم من التصريحات الإعلامية.

وجود عواقب حسنة لا يدل على صحة المسلك

ثانياً: على فرض أن ما حققه أردوغان سيمهد قدراً بالفعل للتمكين، فليس هذا دليلاً على صحة منهجه الديمقراطي. نصر أبو طالب من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكنه من نشر دعوته وكف أذى المشركين عنه، فهل يعني هذا صحة ما كان عليه أبو طالب من شرك؟ وهل دعا رسول الله عمه للبقاء على شركه ليشكل له غطاء يتقبله المشركون وهم يرونه يسجد للأصنام؟ أم أنه دعاه حتى آخر لحظة من حياته للإسلام؟ وهل لو علم رسول الله أن بقاء عمه على شركه أنفع لدعوته فإنه كان سيكف عن مطالبته بالإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم". ليس هذا مقام وصف أردوغان بالفاجر أو بغيره، ولا يعني هذا مساواة أبي طالب بأردوغان الذي يستعلن بانتسابه إلى الإسلام، وإنما التدليل على قاعدة أن وجود عواقب حسنة في المآل ليس دليلاً على صحة المسلك.

أمور نفرح بها قدراً ولا نرضى بها شرعاً

ثالثاً وأخيراً إخواني: هناك أمور نفرح بها قدراً ولا نرضى بها شرعاً. وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم أدى إلى تنفيس عن المسلمين والحد من سلطات المعادين الصرحاء للإسلام. وهذه نتائج نفرح بها قدراً، وقد يكون لها دور في تهيئة الأجواء لدعوة نقية وتمكين حقيقي مستقبلاً. لكن هذا لا يعني إقرار الحزب على مشاركته في الحكم الوضعي ولا إعانتهم على ذلك. إذاً هناك أمور نفرح بها قدراً ولا نرضى بمسبباتها شرعاً.

خاتمة

ختاماً إخواني: سيقول قائل أليس أردوغان أفضل من حكام المسلمين؟ نعلم طبعاً أن حكام المسلمين جمعوا إلى مشاكل أردوغان المذكورة الخيانة والعمالة الصريحة وحرب الدين والفساد والخسة. لكننا نتحدث عن النموذج التركي لأن الناس افتتنوا به وتلوثت عقائدهم بحيث رضوا بقلوبهم وألسنتهم بمنهجه المناقض للإسلام على اعتبار أنه مرحلة للوصول إلى الإسلام، ثم إذا منهم من يرتضي منهجه وديمقراطيته وعلمانيته كهدف نهائي بديل أصلح لهذا الزمان من النظام الإسلامي الأصيل. نتحدث عنه لأنه يعطي لهم أملاً وهمياً في اتخاذ طرق للإصلاح تحيد عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله أن يهديهم وأردوغان وحزبه. والسلام عليكم ورحمة الله.