مقدمة: الإلحاد وإنكار الضرورات العقلية
السلام عليكم أيها الأحبة، في الحلقة الماضية بيَّنا أن الملحد حين أنكر وجود الخالق، فإن ذلك أدى به إلى نزع الموثوقية عن المكونات الفطرية التي يجدها الإنسان من نفسه. وسنرى كيف أن هذا يؤدي به إلى سلسلة من الإنكارات: إنكار المسلمات العقلية، والأخلاق، وسؤال الغاية، والإرادة الحرة. إنكار وجود هذه المكونات بشكل فطري، أو إنكار أن يكون لها قيمة.
لماذا؟! أما كان يمكنه أن ينكر الخالق، ويحافظ على هذه المسلمات -التي يجدها الملحد من نفسه رغمًا عنه- بدل الدخول في سلسلة المكابرة والضياع هذه؟ لا، لا يستطيع! لماذا؟ سنرى... وسنبدأ بالضرورات العقلية.
هذه الحلقة ستكون غزيرة الفائدة، سنناقش فيها:
- دلالة الضرورات العقلية على وجود الله تعالى.
- كيف يسقط الإلحاد المنهج التجريبي؟
- هل الإلحاد يحترم العقل أم يسقطه؟
- تناقض الملحدين.
- مقولة: (الحقيقة نسبية، وليست هناك حقيقة مطلقة)، ما أصلها وما نتائجها؟
- هل الأشياء دليل على الله؟ أم أن الله هو الدليل على كل شيء؟
الإيمان والإلحاد: نظرتان للوجود والعقل
بدايةً -إخواني- الإيمان يؤسس كل شيء على وجود الله تعالى؛ ففي المنظور الإيماني: خلق الله السماوات والأرض بالحق، ووضع [لها] بحكمته سننًا ثابتة، وفطر الإنسان على فطرة تنتج له مسلمات عقلية ضرورية، ينطلق منها عقل الإنسان لاكتشاف حقائق الأشياء.
الملحد لديه مشكلة مع كل عبارة من هذه العبارات التسعة: (خلق)، (الله)، (بالحق)، (بحكمته)، (سننًا ثابتة)، (فطرة)، (مسلمات عقلية ضرورية)، (عقل الإنسان)، (حقائق الأشياء). وسنبين ذلك بالتفصيل.
في المنظور الإيماني يقول الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]. أي أنه أوجد في الإنسان الانجذاب الفطري، والقابلية لمعرفة الحق في المدركات والأخلاق، والبحث عن الغاية الحق من الحياة. يودع هذه المعاني في نفس كل إنسان يخرج للحياة ليبتدئ بها تعلمه. (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) [طه:50]. وهذا من أشكال الهداية. وقلنا أن هذه الفطرة للإنسان تشبه نظام التشغيل للكمبيوتر.
في المنظور الإلحادي، الإنسان جاء وليد الصدفة والعشوائية، لا لحكمة؛ وليس هناك شيء اسمه فطرة. لكن، كيف تفسرون -أيها الملحدون- وجود ما يشبه نظام التشغيل للإنسان؟ بدايةً، كيف تفسرون وجود البديهيات العقلية؟ أي المسلمات العقلية والضرورات العقلية، مثل: مبدأ أن البعض أصغر من الكل، وأن (1+1=2)، وأن النقيضين لا يجتمعان، وأن لكل حدث سببًا. هذه قواعد عقلية يبني عليها الإنسان معارفه ولا تنبني على شيء قبلها؛ فلا بد أن هناك من أودع في نفس الإنسان فطرة تتعرف عليها.
رحلة التخبط الإلحادية وإنكار السببية
وهنا تبدأ رحلة التخبط الإلحادية. فمن الملحدين من قال: "إن هذه القواعد العقلية تتكون من المدخلات الحسية مما يشاهده الإنسان ويسمعه عبر أداة الاستقراء". أي أن الإنسان يرى التفاحة تنضم إلى أخرى، فتصبحان تفاحتين، ومشاهد كثيرة مشابهة تستقرئها عينه؛ فتتكون لديه من ذلك قواعد عقلية: أن الجزء أصغر من الكل، وأن الطفل يضربه أخوه فيحس بالألم؛ فيعلم أن الضرب سبب للألم. ويرتطم أمامه جسم بالزجاج فيكسره؛ فيعلم أن الارتطام سبب للكسر. ويرى كل شيء يحصل بسبب؛ فتتكون لديه قاعدة السببية: (أن لكل شيء حادث سببًا).
لكن الملحد بذلك قد عكس المسألة؛ فجعل المدخلات هي التي تصوغ القواعد العقلية والمعادلات. وهو شبيه بقول أن كثرة البيانات المدخلة إلى جهاز الكمبيوتر تكون البرامج القادرة على تحليل المدخلات والخروج بنتائج. تصور لو أننا أدخلنا عمودين على صفحة إكسل "Excel sheet"؛ عمودين متجاورين، تحت كل منهما عدد كبير من الأرقام. هل سيقوم جهاز الكمبيوتر بنفسه بكتابة معادلة: الرقم [الأول] زائد الرقم الثاني يساوي النتيجة؟! حتى لو زدنا عدد الأرقام تحت كل عمود إلى ألف، أو مليون. لو أدخلنا عمودين متجاورين: تحت الأول حدث سابق، وتحت الثاني حدث لاحق، هل سيستنتج الكمبيوتر بنفسه أن السابق سبب للاحق فيخرج بقاعدة السببية؟!
الملحدون أدركوا وجود هذه المشكلة، لكنهم أصروا على التهرب من فكرة أن هناك (برمجة) يمكن وصفها بأنها (حق)، تحلل المدخلات الحسية من جهة، وتعمل العقل من جهة، لتصل إلى نتائج حقة، إذ هذه البرمجة تحتاج إلى من يودعها في نفس الإنسان. فأصروا على أن البرمجة وليدة الحواس.
ماشي -بغض النظر عن مصدر هذه البرمجة- فلنفترض أنها حواسكم، المهم أنها وصلت إلى استنتاجات على رأسها مبدأ السببية: أن لكل حادث سببًا. إذًا، فلا بد أن لهذا الكون سببًا.
هنا اضطر بعض الملحدين إلى القول بأن استنتاجات هذه البرمجة ليس شرطًا أن تكون حقائق؛ فهي إنما نتيجة الاستقراءات، والاستقراءات قد تكون ناقصة، بمعنى أنه ضمن دائرة مشاهداتهم، فلكل شيء سبب. لكن ليس هناك ما يمنع أن يحدث في زاوية من زوايا الكون شيء بلا سبب.
نحن كمؤمنين نقول: لكل حادث سبب، هذه حقيقة مطلقة يقينية تدل كل المشاهدات على صدقها. وهم يقولون: بل قصارى ما يمكننا قوله أن الأحداث التي نراها لها أسباب. نقول لهم: طيب، وجود الكون من أساسه، ألا يجب أن يكون له سبب؟! فيكون هناك من أوجده؟! فيقولون: لا، فنحن لا نرى قاعدة السببية حقيقة مطلقة عامة نلتزم آثارها في كل شيء.
أدرك هؤلاء مدى تناقضهم وهم يلتزمون بالسببية في حياتهم اليومية، والاستكشاف وبناء النظريات العلمية، وفي كل شيء؛ بينما عندما تأتي المسألة إلى الحقيقة الكبرى، وهي سبب هذه الأسباب كلها ومصدر الكون، ينكرون السببية.
فماذا فعلوا للخروج من هذا التناقض؟ أنكروا الضرورات العقلية بالكلية من الأصل، ومنها حقيقة أن لكل حادث سببًا. وقالوا: الأشياء التي نظن أنها أسباب، إنما حدثت باقتران مع ما نظنه نتائج. بينما قصارى الأمر أنهما حدثان تعاقبا، ولا علاقة لأحدهما بالآخر. وعليه اعتبروا أنهم خرجوا من مأزق سبب وجود الكون؛ فقالوا أن الكون يمكن أن يوجد بلا سبب أصلاً، أو أن يوجِد نفسه بنفسه.
وممن قال بذلك الفيلسوف البريطاني برتراند راسل "Bertrand Russell"، و(عالم الفيزياء) ستيفن هوكينغ "Stephen Hawking"، ولورانس كراوس "Lawrence Krauss"، الذي قال أنه لا يمكن التعويل مطلقًا على شيء اسمه: مبادئ عقلية ضرورية، وذلك في سياق التسويغ لفكرة كتابه: (كون من لا شيء)؛ والتي تقوم على أن الكون -وإن كان ناشئًا من العدم- إلا أنه بالإمكان أن يكون أحدث نفسه بنفسه. وتابعه على هذا الكلام مجموعة من علماء الطبيعة، واحتفوا بكتابه.
الإلحاد وهدم العلم التجريبي
هربوا من التناقض، فوقعوا في الجنون. وحقيقة أيها الإخوة، هذا الكلام -وإن كان نوعًا من الجنون- إلا أنك تجد من يفاخر به ويتغنى بأسماء (العلماء) الذين ينظرون له، وهو ضريبة من ضرائب الإلحاد، ونتيجة طبيعية له.
هؤلاء وإن كانوا ينطلقون من تقديس العلم التجريبي، ويقولون: لا نؤمن بما وراء الطبيعة؛ لأنه لا يمكن تجربته، إلا أن كلامهم ينتهي بهدم العلم التجريبي من أساسه. فالاستكشاف كله قائم على رصد العلاقات السببية، واشتقاق الاستنتاجات العلمية المطلقة. أما حسب مبدأ هؤلاء، فإن كان مليون مجرب لتفاعل الحمض مع القاعدة نتج معه ملح وماء، فإنهم يمنعون أنفسهم من أن يشتقوا من ذلك تعميمًا وحقيقة علمية مطلقة، بل لا مانع -وفق مبدئهم- من أن ينتج في المرة المليون وواحد شيء غير الملح والماء. لأنهم إن اشتقوا قاعدة علمية، وأصبحت هذه القاعدة حقيقة مطلقة، فإنهم يكونون قد بنوا هذه القاعدة على ضرورات عقلية؛ كاعتبار أن للكون سننًا ثابتة، وأن تفاعل هاتين المادتين سبب لتكون الملح والماء.
هذه السنن، من وضعها؟ وهذا التسبيب، من جعله حقيقة راسخة ثابتة؟ العشوائية والصدفة لا يضعان سننًا ولا يوجدان حقائق مطلقة؛ لذلك، أنكروا المسلمات العقلية. وعلى هذا فالعلم التجريبي يصبح عبثًا، بل وتطبيق نتائجه يصبح عبثًا؛ ففايروس الإيدز "AIDS virus"، ليس سببًا في الإيدز، إنما هما أمران اقترنا. والأمراض ليس لها أسباب، والعلاج ليس سببًا للشفاء. ولو أن مرضًا جديدًا ظهر، فمن العبث ومضيعة الوقت أن تنفق (المليارات) على معرفة سببه، فقد نكتشف في النهاية أن هذا المرض هو -كالكون- بلا سبب.
والملحدون الذين تهربوا من التناقض بإنكار السببية، لا يجدون بدًا من أن يتناقضوا عمليًا مع ما يدعونه. فالملحد إن ارتطمت سيارة بسيارته، فقال له صاحب السيارة الأخرى: ضرب سيارتي لسيارتك ليس سببًا في التلف الذي أصاب سيارتك، إنما هما شيئان وقعا باقتران دون علاقة سببية، فلا تطالبني بتعويض. هل يقبل الملحد؟! إن طعنه أحد بسكين ثم قال: سيلان دمك ليس سببه طعنتي فهل يقبل؟! لا طبعًا. فالملحدون يمارسون الاعتراف بالمبادئ العقلية الضرورية رغمًا عنهم في حياتهم وعلومهم. لكن، عندما تأتي المسألة للحقيقة الكبرى، وهي وجود الخالق -عز وجل- فإنهم يتنكرون لهذه المبادئ.