→ عودة إلى مرئيات

ستة مفاهيم خاطئة عن الشريعة

٢٧ مايو ٢٠١٩
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله.

في هذه الدقائق أود يا كرام أن أتكلم لكم عن مفاهيم خاطئة متعلقة بالشريعة. والهدف الأول سلامة قلوبنا من أن نلقى الله وفيها حرج تجاه شريعته التي ارتضاها لنا سبحانه. والهدف الثاني بث روح التعظيم للشريعة والمحبة لها، وهي الخطة الأساس في إقامتها من جديد في واقعنا.

الموضوع كبير والمفاهيم الخاطئة كثيرة ولا عجب، فالبديل عن الشريعة هو الجاهلية بكافة أشكالها، والتي تمارس ومارست عمداً تجهيل الناس بشريعة ربهم لتصد عن سبيله سبحانه وتبقى متحكمة في الناس. ولأن كثيراً ممن رفعوا شعار الشريعة في المقابل خانوها وشوهوها إذ ما رفعوه بصدق، بل أرادوا اكتساب شرعية زائفة من خلال هذه الشعارات إلا من رحم ربي.

فتعالوا نعالج بعض الأخطاء الشائعة في فهم شريعة ربنا عز وجل.

مفاهيم خاطئة عن الشريعة

الخطأ الأول: التعامل مع الشريعة كخيار من الخيارات

يظن البعض أنه يسعه ألا يتبنى الشريعة ويبقى مع ذلك مسلماً، بينما الحقيقة أن الأخذ بها عقيدة لا يسع المسلم أن يكون مسلماً دون الاعتقاد بوجوب إقامتها وبأن ما عداها باطل.

قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.

هذه هي القاعدة التي يجب أن ينطلق منها كل مسلم، أنه لا خيار غير إقامة الشريعة. بعد ذلك قد نختلف في الاجتهادات أو نتفق، لكن مظلتنا جميعاً أننا نبحث عن مراد الله من شريعته لنمتثله ونعمل به.

المصيبة إخواني أنه يحصل خلط فاحش بين رفض الذين رفعوا شعار الشريعة بكذب أو استغلال ورفض الشريعة ذاتها، كما ذكرنا في حلقة السودان والمصباح والسجان. يحصل خلط بين رفض اجتهادات غير صحيحة منسوبة إلى الشريعة ورفض مرجعية الشريعة ذاتها. الأول صحيح بينما الثاني - رفض مرجعية الشريعة - في غاية البطلان.

الخطأ الثاني: الاعتقاد بعدم كفاية الشريعة

الخطأ الثاني إخواني هو الاعتقاد بعدم كفاية الشريعة وبالحاجة إلى الاستعارة من منظومات خارجها كالديمقراطية لسد نواقص الشريعة. ومن أسباب هذا الخطأ الفاحش أن الخطاب الإسلامي المعاصر ركز على ما هو محظور ومحرم نتيجة لتعامله مع الأوضاع القائمة غير الشرعية، وحصرها في جانب المواريث والزواج والطلاق وما إلى ذلك.

بينما الشريعة في حقيقتها منظومة متكاملة تذهل إذا اطلعت على تفاصيلها من القرآن والأحاديث الصحيحة وأفعال الخلفاء الراشدين واستنباطات العلماء. منظومة متكاملة فيها آليات حقيقية لإفراز أهل الحل والعقد والحاكم المسلم الذي يرضى به المسلمون ويخضع للقضاء الإسلامي ملزماً بعقده مع الناس.

حرمت الشريعة الربا وأباحت أشكالاً عادلة من الشراكة. حرمت المكوس ووفرت الموارد من ثروات الأرض والأوقاف وغيرها. شملت الشريعة الملكية العامة لمصادر الطاقة وثروات الأرض. تملك الأراضي بإحيائها فيتوفر السكن الكريم للناس. سنت ما يمنع الاحتكار وتواغل الشركات الرأسمالية. نظمت الشريعة العلاقات الدولية سلماً وحرباً. شرعت نصرة الضعفاء وإغاثة المنكوبين حتى من غير المسلمين.

كل هذا مع ربط بالآخرة ضمن مفهوم العبادة الشمولي بما لا يوجد في أي نظام أرضي. تفاصيل من اطلع عليها علم بعمق معنى قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

لدينا يا كرام مخزون شرعي هائل يحقق الاستغناء التشريعي، لا تسلط عليه الأضواء طبعاً ولا يعلمه أبناؤنا في مدارس التجهيل، بينما تُطرح بعض مواضيعه في مساقاتٍ بجامعاتٍ غربية ويستفيدون منها. وكيف يتصور إخواني أن الله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} - كلِّ شيءٍ - ثم لا يبين للناس النظام السياسي مثلاً والذي به تقوم حياتهم؟

وبإمكانك أن تطلع على شيءٍ من هذه التفاصيل في كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور محمد الطاهر بن عاشور والذي تكلم فيه عن ميزات الشريعة وخصائصها، وكتاب "مقاصد الشريعة ومكارمها" لعلال الفاسي، وكذلك مؤلفات الدكتور حاكم المطيري التي كشفت عن ضخامة الموروث السياسي في الشريعة ككتاب "معالم الدولة الراشدة". كما اطلعت مؤخراً على سلسلة حلقات لأستاذ جامعي متخصص بعنوان "تشريع المعاملات المالية في الإسلام ملامح ومحاسن" أنصح بالرجوع إليها. وهناك أبحاث ورسائل مغمورة لا تجد من يتبناها وينشرها بين المسلمين.

ومن رحمة الله إخواني أنه لم يكلفنا الاعتقاد بكمال الشريعة بناءً على الإيمان به والاعتقاد بكمال صفاته فحسب، بل قامت الشريعة على الأرض واقعاً حياً كما في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وأننا بحاجة إلى مزيد بحث واجتهاد في هذا المجال.

لكن ننبه إخواني على أننا عندما نقول أن الشريعة فصلت في مختلف المجالات فهذا لا يعني أنها قيدت بقوالب جامدة، بل قيدت حيث يحسن التقييد إرشاداً للناس ومنعاً للظلم، وأجملت حيث يحسن الإجمال وترك مجال للاجتهاد بما يناسب الواقع.

الخطأ الثالث: الخلط بين الانحرافات التاريخية والشريعة ذاتها

الخطأ الثالث في التعامل مع الشريعة هو الخلط بين الانحرافات في تاريخ الدولة المسلمة والاعتقاد بأن الشريعة ذاتها تحمل في طياتها أسباباً لهذا الانحراف أو ينقصها ما يمنع من هذا الانحراف، كالاعتقاد بأن الشريعة تمكن الحاكم من الظلم.

وجدت في التاريخ الإسلامي نماذج من حكام مسلمين قائمين بشرع الله في الجملة، خاضعين لسيادة الشريعة، يحفظون عز المسلمين ويقمعون أعداءهم وينشرون الفتوحات، ولكنهم مع ذلك عندهم مظالم. ظلم هؤلاء للناس ليس نتيجة للحكم بالشريعة بل هو نتيجة للحيود عنها، للميل عنها.

جاءت الشريعة في التعامل مع هؤلاء بأحكام تحقق التوازن بين المحافظة على لحمة المسلمين ووحدتهم وقوتهم أمام عدوهم، وفي الوقت ذاته عدم إقرار هؤلاء الحكام على ظلمهم بل الإنكار عليهم والعمل على كفهم عن عدوانهم وظلمهم.

متسلطو هذه الأيام الذين لا علاقة لهم بإقامة الشريعة بل بهدمها ومحاربتها، جاء طراطيرهم المنتسبون زوراً إلى العلم ليرفعوا في وجوه الناس نصوصاً حرفوا دلالاتها وقطعوها عن سياقها ليخضعوا بها الناس لأسيادهم. فجاء من يخلط الحابل بالنابل ويحمل الشريعة وزر استبداد المعاصرين وظلم من ظلم من حكام التاريخ الإسلامي، وينادي بأن الحل في منع هذا الاستبداد هو في الاستعارة من النظام الديمقراطي.

فنقول إخواني: تسلط الحاكم وظلمه ليس أمراً شرعياً أدت إليه الشريعة، بل هو أمر قدري أمرنا الله بمدافعته والعمل على إزالته بالشريعة. وظلم الحاكم ليس أمراً يمكن أن يقع في المنظومة المسلمة فحسب، بل يمكن أن يقع في أي منظومة بما فيها الديمقراطية. وأي ظلم أكثر من سيطرة الشركات الرأسمالية واستئثار القلة القليلة بالثروة وتحكُّمهم بالإعلام، وغسيلهم لأدمغة الناس، وتوجيه الرأي العام بما يدخل الناس في حروب تصب في صالح شركات الأسلحة والنفط، وإعادة الإعمار، وتكريس البهيمية الجنسية والانفلات الأخلاقي، بما يضيِّع دنيا شعوبهم وآخرتها.

الخطأ الرابع: سوء فهم دور الشريعة في الحياة الدنيا

الخطأ الرابع في فهم الشريعة والتعامل معها هو ما يظهر في ترداد عباراتٍ من مثل: "لن يصلح حال الناس ما داموا يريدون الدنيا ويقعون فريسة لأعدائها الذين يعدون الناس رغد الحياة الدنيا". وهل الشريعة يا كرام إلا تخليص الناس من العبودية لسجّاني الأرض، وكفاية حاجاتهم ومنع نهب ثرواتهم لتفريغهم لعبادة ربهم ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه؟

الخطأ الخامس: التعامل مع إقامة الشريعة كأمر ترقيعي

الخطأ الخامس هو التعامل مع إقامة الشريعة على مستوى الدولة وكأنه أمر ترقيعي يحتاج بعض الإجراءات غير الجذرية. والصحيح أن الشريعة تغير هذه الحياة الفاسدة التي نعيشها من أصولها وتعيد إنشاءها على أساس الإسلام، بحيث لا يبقى للرأسمالية أي وجود في حياتنا لا من حيث المعالجات ولا من حيث الآثار والنتائج. فالشريعة نظام كامل مستقل كالبناء، لا يصلح أن تؤخذ منه أجزاء لترقيع وإصلاح ما بني على أساس خاطئ.

الخطأ السادس: العزوف عن الشريعة بسبب النظام الدولي

وهذا ينقلنا إلى الخطأ السادس في التعامل مع الشريعة وهو العزوف عنها على اعتبار أن النظام الدولي لن يسمح بإقامتها، وبالتالي نبحث عن تحرير الشعوب المسلمة بغير سبيل الشريعة تجنباً للصدام.

فنقول يا كرام: إقامة الشريعة تعني في المقام الأول التحرر من العبودية للنظام الدولي والإفلات من فلكه. وهذه عملية كبرى بمثابة عملية نزوح ملايين استجناء من سجن جماعي، فلا يمكن أن تمر بهدوء خاصة وأن تحرر أي شعب تحرراً حقيقياً سيكون قدوة لشعوب الأرض، وستدرك الشعوب التي لم تكن تعلم أنها مستعبدة كم هي مستعبدة للنظام الرأسمالي.

الثمن باهض ولا شك، لكن لا يغنيك عن دفع الثمن أن تبحث عن بدائل عن الشريعة. فالبدائل كلها ما هي إلا لفة بالسجين في الدهاليز، قد يرى أثناءها الشمس لبرهة وقد يشرب فيها شربة ماء بارد، لكنه ما يلبث أن يعاد إلى السجن. أما عندما تكسر القضبان بفأس الشريعة فالعزة والكرامة والحرية الحقيقية من السجن.

ولا تتصور أن أمة بقيت ترزح في السجن لعقود طويلة ستمر عملية خروجها الجماعي من السجن دون معاناة ودون جراح من القضبان المكسورة. لابد من ثمن، لكنها معاناة وجراح وثمن تدفع في الاتجاه الصحيح لعزة في الدنيا وجنة في الآخرة.

الخاتمة

أدرك تماماً إخواني أن كلمتي هذه لم ترسم ملامح هذا التحرر، لكن الهدف منها هدفان: ألا نخسر إسلامنا وآخرتنا بعقائد باطلة تنتقص من شريعة ربنا الذي به آمنا، وأن لا نضيع الجهود في الدهاليز بل نصب جهدنا على التماس الطريق الذي يرضاه لنا ربنا. {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.

والسلام عليكم ورحمة الله.