→ عودة إلى فن حسن الظن بالله

الحلقة 14 - لا تكتئب!

١ أبريل ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

لا تكتئب!

الندم بين التوبة ومكائد الشيطان

يعفو الله عن كثير، ونحن نفتش في أعمالنا فنرى أننا أخطأنا في حق الله كثيرًا. نندم حينئذ، وهذا الندم أمر مطلوب حتى يدفعنا إلى التوبة الجادة. هذا الندم ينبغي أن يكون إحساسًا مؤقتًا يدفعنا فورًا إلى إصلاح أخطائنا بإيجابية وحسن ظن بالله أنه سيعيننا ويقبل منا توبتنا ويعطينا فرصة أخرى لتصويب أوضاعنا.

لكن أحيانًا تسير الأمور مع الواحد منا بطريقة مختلفة، فبدلاً من هذه الإيجابية وحسن الظن بالله، يتجمد عند مرحلة الندم واجترار الذكريات وجلد الذات ومقت النفس، فتفسد نفسه وتتكدر. ويبدأ يشعر بأن هذا البلاء عقوبة محضة لا رحمة فيها، قاصمة الظهر التي ليس بعدها قائمة، لأن الله تعالى بعدما أعطاه فرصًا في الماضي فلم يستغلها، قد مقته وسخط عليه ولن يعطيه فرصة أخرى.

ثم يتسرب إليه الشعور بالجفوة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، يحس بأن الباب قد أغلق، والدعاء قد رُد، والشقاوة قد ضربت عليه ما امتدت به الحياة.

أخي، أختي، احذر! هذه مكيدة من الشيطان، بل هي من أخطر مكايده. فهو يجعلك تتوهم في البداية أن لوم نفسك بهذا الشكل مطلوب لأنه اعتراف بالذنب، لكن الشيطان أوقفك عند مرحلة اللوم والندم وجعلك تبالغ فيها ليقودك إلى توهم شيء خطير للغاية، لتتوهم قسوة القدر ومن قدره سبحانه. وفي هذه اللحظة من سوء الظن ستحس بالضياع المخيف.

أنت عندما يشتد بلاؤك تشكو بثك وحزنك إلى الله، فإلى أين تفر؟ وإلى من تلتجئ؟ وإلى من تتضرع؟ ومن ترجو؟ ستحس بالضياع المخيف وهذا ما يريده الشيطان لك: طرد من رحمة الله، فلا يحب أن يرى مرحومين أو طامعين في رحمة الله تعالى.

أساليب الشيطان في إيقاعك باليأس

أخي، أختي، لاحظ أن الشيطان لن يأتيك من باب التشكيك في مغفرة الله هكذا مباشرة، لن يقول لك: "الله ليس غفورًا رحيمًا"، هذه محاولة فاشلة بوضوح. لكنه سيأتيك من باب آخر، سيقول لك: "الله غفور لكنك لا تستحق مغفرته لأنه أعطاك فرصًا في الماضي ولم تستغلها". "الله تواب لكن أنت طبيعتك سيئة غير مؤهلة للإصلاح". "الله عفو لكن أنت أفشل من أن تفعل ما تستحق به عفوه". هكذا يأتيك الشيطان.

ماذا يريد الشيطان من هذا؟ يريد أن يوقعك في الاكتئاب، الاكتئاب الذي يشل إرادتك عن إصلاح وضعك والعودة إلى ربك سبحانه وتعالى.

هناك مصطلحات علمية توصف بها أعراض الاكتئاب المرضي، منها الشعور العميق بالحزن، وشعور مبالغ فيه بالذنب، وانعدام القيمة، ونقص الدافعية. الشيطان يجمدك عند مرحلة الإحساس بالذنب ويجعل التفكير بالذنب يسيطر عليك بطريقة وسواسية، ويشعرك أنك عديم القيمة، غير قابل للإصلاح، غير قابل لأن تكون من عباد الله المقربين، ليشل إرادتك للطاعة ودافعيتك للتغيير وهجر المعصية، ولتفقد السعادة والفرح بربك ومولاك سبحانه وتعالى. لا يريد لك الشيطان أن تحب ربك.

حسن الظن بالله ومغفرته

إخواني، إن الولد الذي يعاقبه أبوه يحب أباه إذا علم أن هذه العقوبة دافعها محبة أبيه له وحرصه على مصلحته. أما إن ظن أن أباه يعاقبه بدافع الكراهية فإن قلب الولد سيقسو تجاه أبيه. ولله المثل الأعلى، ولله المثل الأعلى.

فاعتصم بحبل حسن الظن بالله التواب العفو الغفور، إنه تعالى أرحم من أن يتربص بذنوب عباده المؤمنين فيبطش بهم ويخرجهم من رحمته ولا يعطيهم فرصة أخرى.

في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك، اعمل ما شئت فقد غفرت لك".

طبعًا لا يوحي الله تعالى إلى عبد أن أذنب وسأغفر لك مهما فعلت، فمعنى الحديث أنه قد سبق في مشيئة الله تعالى أن العبد مهما عمل إن كان في كل مرة يتوب بصدق ويعزم على عدم فعل المعصية، يعزم على عدم فعل المعصية، فإن الله تواب سيبقى يتوب عليه، غفور سيغفر له، عفو سيعفو عنه، وهو يعلم سبحانه أن هذا العبد التائب سيذنب في المستقبل.

الرد على وساوس الشيطان

أخي، لا تقنط من رحمة الله أن يعينك على التقرب إليه والتمتع بالحظوة عنده. إذا جاءك الشيطان فقال لك: "أنت لا تستحق رحمة الله"، فقل: "نعم أنا لا أستحقها، لكنه تعالى سيرحمني لأنه أكرم من أن يعامل عباده بما يستحقونه".

إن قال لك الشيطان: "لن يعطيك الله فرصة أخرى فقد نجاك من قبل ولم تحفظ المعروف"، فقل: "بلى سيعطيني وينجيني فهو العفو الغفور".

إذا قال لك الشيطان: "إن الله يبتليك عقوبة لأنه يكرهك"، فقل له: "بل يبتليني ليطهرني ويربيني".

إذا قال لك الشيطان: "أنت أحط من أن تستأهل رحمة الله"، وأيقن أنه قصر في حق الله كثيرًا، كان الله سبحانه وتعالى قد أعطاه فرصًا وابتلاه ابتلاءات أخف ليصحو من سهوته، خاصة فيما يتعلق بترتيب الأولويات في حياته وأعمال القلوب، لكن هذا العبد الضعيف عاد إلى الأخطاء ذاتها، فجاء هذا البلاء الأشد. ندم وتألم وخاف من أن هذه العقوبة ستطول وتشتد ولربما تتجاوز استطاعته وتحمله، فزاد هذا من ألمه وندمه.

ثم شاء الله تعالى أن يقرأ صاحبكم حديثًا عظيمًا، قرأه من قبل لكنه هذه المرة جاء حبل نجاة من الله وبلسمًا لجراحه. الحديث رواه مسلم وفيه أن الله عز وجل يشفع بعض خلقه في إخراج أناس من النار، الخير فيهم قليل جدًا ومع ذلك رحمة الله ستشمل منهم دونهم أيضًا. فيقول الله عز وجل: "شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين". سبحان الله! يخرج ربنا سبحانه وتعالى أناسًا بعدما طهرهم بالنار ويدخلهم الجنة برحمته لا بأعمالهم.

هز هذا الموضع من الحديث كياني وأيقظني ونجاني من الاكتئاب الذي كان الشيطان يحاول إيقاعي فيه. قلت لنفسي: "نعم أخطأت، لكن أحسب أن الله جعلني خيرًا من هؤلاء الذين أخرجهم، فإن كانت رحمة الله شملتهم فستشملني في الدنيا والآخرة". فانقذفت في قلبي دفعة كبيرة من محبة الله والاطمئنان إلى رحمته.

الخاتمة: لا تقنطوا من رحمة الله

إخواني وأخواتي، الله تعالى أرحم بكثير بكثير مما قد يهيئ لنا الشيطان في لحظات اليأس. "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم".

خلاصة الحلقة: لا تدع الشيطان يوقعك في الاكتئاب، بل حول ندمك إلى قوة إيجابية للتقرب من الله التواب العفو الغفور.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.