السلام عليكم ورحمة الله.
مقدمة: الولاء والبراء وأهميته
يجتمع الناس على معانٍ مختلفة، ويصبح بين أفراد المجموعة الواحدة ولاءٌ وانتماءٌ فيما بينهم على أساس هذا المعنى. فقد تجتمع مجموعةٌ على أساس العقيدة، العيش في بقعة جغرافية، العرقية، القبيلة، اللغة، المهنة، تشجيع نادي رياضي معين، حزب، أهداف سياسية أو غيرها. وعند تعارض المصالح والأهواء، ينتج عن هذا الولاء براءٌ من المجموعات الأخرى بدرجات مختلفة.
ما سنفعله في حلقة اليوم هو أننا سنستعرض مشاكل الولاء والبراء على هذه الأسس وكيف تؤدي إلى الظلم. ثم نرى كيف جاء الإسلام ليعالج هذا الموضوع ويبني الولاء على أعظم أساس. ثم نرى جماليات ومميزات الولاء الإسلامي التي لا توجد في غيره. ثم كيف يعمل النظام الدولي على كسر الولاءات والانتماءات التي تعارض سيطرته في المجتمعات عموماً وفي المجتمعات الإسلامية خصوصاً.
الولاء والانتماء لتجمع ما يزيد قوته حتى على مستوى أصغر مجتمع بشري وهو الأسرة، فتجتمع أفرادها على صلة ويسعون في تحقيق منافع مشتركة ويسعون في دفع الخطر المشترك. وكل جماعة اجتمعت على وصف وامتازت به عن غيرها يكون قوامها وقوتها بتكاتف أفرادها وتماسكهم وحرصهم على ما اجتمعوا عليه. وكلما ازدادوا في هذا التماسك كانوا أقدر على تحقيق الأهداف المشتركة أو القيم التي قامت عليها هذه الجماعة.
مشاكل الولاءات الأرضية
لكن مصالح التجمعات المختلفة وأهواءها ستتعارض في النهاية، وهنا يظهر التعصب والبراء من المجموعات الأخرى. فالشخص الواحد يكون منتمياً لمجموعة ومتبرئاً من المجموعات التي تخالفها بدرجات مختلفة، حيث يسعى لتغليب مصلحة مجموعته على المجموعات الأخرى.
قبل أيام اعتدى مشجع المنتخب البريطاني لكرة القدم على مشجعي المنتخب الإيطالي بعد فوز الإيطالي، وانتشرت مقاطع للسلوك الهمجي الصادم. وهذا تكرر كثيراً، بل وقامت عليه حروب وخصومات كالحرب بين السلفادور وهندراس والتي راح ضحيتها آلاف البشر.
ينتمي أفراد القبيلة الواحدة إليها ويوالون بعضهم بحيث إذا حصل خلاف مع قبيلة أخرى فمنهم من يناصر أفراد قبيلته على الأخرى حتى ولو على الباطل، وهذا فيه براء من هذه القبيلة الأخرى. كثير من الحزبيين المنتمين بالفعل لأحزابهم تجد عند أحدهم ولاءً لحزبه ودرجةً من درجات البراء من الأحزاب الأخرى، بحيث يسعى في مصلحة حزبه في مقابل الإضرار بالأحزاب الأخرى بإفقادها شعبيتها لصالح حزبه، وقد يطرد من حزبه لمجرد قيامه بما من شأنه رفع رصيد الأحزاب الأخرى.
الولاء على أساس الوطن والعرق والعقيدة المحرفة
في الولاء على أساس الوطن، إذا خاضت بلدك حربًا ضد بلدٍ أخرى، فعليك أن تُقاتل إلى صفِّ الوطن ظالِمًا كان أم مظلُومًا؟ وكذلك الولاء والبراء على أساس العرقية، وهذا قاد عبر التاريخ إلى حروبٍ راح ضحيتها عشرات الملايين.
في الولاء على أساس العقيدة، إذا لم تكن هذه العقيدة الصحيحة، فإن هذا الولاء يدفع إلى البراء من أصحاب العقائد والأديان الأخرى. فالإنسان لا يعيش بدون ولاءٍ وبراء، ومفهوم الولاء والبراء أصيلٌ في المجتمعات البشرية وبأشكال مختلفة، لكنَّه يقوم عادةً على قيمٍ أرضية ليس لها وزنٌ حقيقيٌ في المفاضلة بين البشر كالحدود الجغرافية أو اللون أو العرق أو اللغة، أو على عقائد تعرضت للتحريف البشري ففقدت علويتها وأصبحت أرضيةً من هذه الناحية هي الأخرى.
فلا تنضبط هذه الأشكال من الولاء والبراء بقيم الحق والعدل، بل تُبنى على مفاضلةٍ باطلةٍ بين البشر تؤدي إلى الظلم. فهو إذن ولاء وبراء أرضي معزول عن هدى الوحي، أعمى فاقد لمعيارية الحق والعدل، كثيراً ما يكون منغلقاً قائماً على معانٍ ليس بيد الإنسان تغييرها كالتعصب ضد السود مثلاً، ويقع فيه الظلم لمن هم خارج دائرة الموالاة.
الولاء والبراء في الإسلام: أسس ومميزات
تعالوا يا كرام نرى في المقابل كيف أن الولاء والبراء في الإسلام رباني قائم على معنى علوي فطري منضبط بالحق والعدل، متاح للجميع ولا يقع فيه الظلم لمن هم خارج دائرة الموالاة.
أولاً: أساسه علوي فطري (محبة الله)
أسس الإسلام الولاء والبراء على معنى علوي لا أرضي، أسسه على العبودية لله تعالى. والعبودية هي كمال المحبة مع كمال الخضوع. محبة الله تعالى فطرة مركوزة أصالة في النفس البشرية، كل نفس بغض النظر عن لونها وعرقها ومكانها على الأرض. خاطب الإسلام هذه الفطرة بوحي علوي محفوظ، فكان حبلاً يتدلَّى من السماء ليجمع الناس على معنى ذي قيمة حقيقية ويلُمَّ شعثهم بعد أن مزَّقتهم الولاءات والبراءات الأرضية: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً". فطرة محبة لله ووحي محفوظ من الله يؤسس بهم الإسلام رابطة الولاء، والذي يعني المناصرة والمحبة على المعنى المشترك الذي هو محبة الله وعبادته وتعظيمه.
طيب لماذا نقول أن هذه المحبة قيمة حقيقية بخلاف القيم الأخرى التي يوالي الناس ويعادون عليها؟ لماذا يجب عقلاً أن يكون حبنا وبغضنا وولاءنا وبراءنا على أساس محبة الله؟ لأن الله سبحانه وتعالى يحب لذاته ولصفاته الأزلية. فالله تعالى كما هو أزلي في صفاته، فإن عبادته حق عليك حتى قبل أن ينعم عليك بالنعم، إذ حقه أن تعبده بمحبته والخضوع له على حسن أسمائه وصفاته سبحانه. وحين يوجد هذا المعنى، فإن العبادة لله ثابتة على كل حال بغض النظر عن تنعيم الله لك أو ابتلائه لك. فكيف والله تعالى قد أوجدك وأنعم عليك بأصناف النعم، ثم أنت عائد إليه ليحدد مصيرك وهداك إلى ما يحقق لك السعادة الأبدية؟
هذا هو حب العبادة، حب الله لذاته وصفاته الأزلية ثم لإنعامه، ولا يستحق أحد في الوجود هذا الحب إلا الله تعالى، لأن هذه الصفات لا توجد في أب ولا ابن ولا زوجة ولا مال ولا غير ذلك. فلا يجوز عقلاً أن تجعل حب أي شيء ينازع حب الله تعالى فيمنعك من القيام بحقه بطاعته أو يوقعك في معصيته، بل يجب عقلاً أن يكون ولاؤك المطلق لله تعالى: "الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء؟ سبحانه وتعالى عما يشركون".
لكن حتى يكون حب الله منجياً، فعلينا أن نحب الله على الوجه الذي يريد سبحانه لا على الوجه الذي نريد نحن. وذلك بإفراد محبة العبادة المذكورة بإفرادها لله، وبأن نحب ما يحب الله ونبغض ما يبغضه الله. فيتفرع عن ذلك محبة دين الله ورسل الله والمؤمنين بالله ومحبة الطاعة، وبغض الكفر والكافرين بالله وبغض معصية الله. وهذا يؤدي بنا إلى الولاء للإيمان وأهله والبراءة من الكفر وأهله بضوابط نبينها في هذه الحلقات.
طيب أين ضلت الأمم الأخرى؟ أليس في اليهود والنصارى وأهل الملل من يحبون الله أيضاً؟ بلى، ولكنهم لم يحبوه على الوجه الذي ارتضاه هو سبحانه لنفسه، فنسبوا إلى الله ما لا يليق بصفاته التي تستلزم محبته كما في كتبهم المحرفة، وأشركوا مع الله غيره في محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة والتي لا تنبغي إلا لله. ولم يحبوا ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله، فكذبوا رسلاً وعادوا مؤمنين وأحبوا معاصي يبغضها الله. فصدق فيهم قول الله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ". لاحظ أن الله تعالى لم ينفِ عنهم أنهم يحبونه، لكن حبهم هذا مرفوض ما دام لم يفردوه به سبحانه. وحتى المؤمنون الموحدون إذا أرادوا أن يبادلهم الله محبتهم محبة سبحانه، فلابد من عمل لا عقائد وأعمال قلوب فحسب: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". فمحبة الله كما يحب الله هي العلامة الفارقة للمسلم عن غيره من أهل الأديان.
على هذه القاعدة الصلبة، على هذا المعنى الفطري العلوي، محبة الله كما يحب هو سبحانه، أسس الإسلام مبدأ الولاء والبراء. هذه المحبة تصبح محركك الأعظم في حياتك. قال الرجل: "ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله". فقال له النبي: "أنت مع من أحببت". انظر إلى هذه الكلمات الأربعة: "أنت مع من أحببت". ماذا قال فيها أنس بن مالك؟ قال أنس: "فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم". أترون يا إخواني عن ماذا نتكلم؟ عن موضوع إذا أتقنته كان سبباً في دخولك الجنة وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
محبة الله لابد أن تظهر في شعور المسلم تجاه الآخرين وعلاقاته بهم. قال ربنا عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين". تذل لإخوانك الذين يشاركونك هذه المحبة بينما أنت عزيز على الكافرين الذين لم يحبوا الله كما يحبه سبحانه. وقال تعالى: "وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ". حب الأنصار للمهاجرين كان علامة إيمانهم ومحبتهم الحقيقية لله. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم محبة الله بها تجد حلاوة الإيمان. قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار". حب وحب وكره: حب لله ولرسوله، وحب للمؤمنين في الله، وكره للكفر.
فإذا أحببت أخاك المسلم البسيط الفقير العتال مغبر القدمين، أحببته وأنت تراه يسمع الأذان فيتوجه ليتوضأ يصلي، وفضلته على المشرك الثري الذكي الوجيه الوسيم، فقد فهمت معنى الولاء والبراء في الإسلام. انظر في المقابل إلى حال من لا يجد لأخيه المسلم أي تميزة بإسلامه، وفي المقابل يذل للكافرين لمعانٍ أرضية من منصب أو ثراء أو تفوق مادي. فهذه أول ميزة للولاء والبراء في الإسلام أن أساسه رباني قائم على أساس علوي فطري له قيمة حقيقية هو محبة الله تعالى.
ثانياً: ولاء على أساس الحق والعدل
ثاني ميزة هي أنه ولاء وبراء على أساس الحق والعدل. ليست المسألة على هوية الأحوال المدنية ولا على النسب حتى يظن أننا نحب ونوالي من ولد مسلماً مهما فعل. وهذا مفهوم مهم جداً ومع أنه بدهي إلا أنَّ بعض المسلمين لا يفهمه، فيتصوُّر أنَّنا نرسُم دائرةً جغرافيَّة، أو نصنِّف بناءً على ما كُتِب من ديانة الشخص في الأوراق الثبوتية، ونقول هنا دائرة الحب والموالاة، من فيها فله الحب والولاء والسعادة الأبدية مهما فعل، ومن هو خارجها فله الويل وسوء المعاملة. وهذا تصوُّرٌ باطلٌ.
بل بما أننا نتكلم عن محبة وبغض وولاء وبراء على أساس محبة رب العالمين وأسمائه وصفاته، فإن من أسمائه الحق، فتعالى الله الملك الحق. والله تعالى هو الحكم العدل: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً". فالولاء هو للحق، والولاء للمسلمين يكون بقدر اقترابهم من الحق. فهو انحياز عقلاني عادل منحاز للحق، ليس أعمى ولا همجياً. فلا يأذن لك الملك الحق سبحانه أن تنصر أخاك المسلم ضد الكافر المسالم (يعني المعاهد أو من في حكمه) إن كان المسلم يسلب الكافر حقه، ولا أن تتعذر لذلك بالولاء والبراء وقوة الأمة. فالمسلم دوار مع الحق حيث دار. فإذا ظلم مسلم كافراً مسالماً، وجب عليك أيها المسلم نصرة الكافر المسالم حتى يأخذ حقه من المسلم، لأنك ما واليت المسلم إلا حباً وخضوعاً للملك الحق، وتكون بذلك نصرت أخاك المسلم المعتدي أيضاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ فقال رسول الله: "تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره". ففي دين الرحمن لا عصبية بين المسلمين ولا تناصر على ظلم ولا يُسمح لك أن تخلِط الأوراق. لذلك لاحظ عظمة التَّعبير القرآني حين قال الله: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم أن تولوهم". قاتلوكم في الدين، فقد يقاتلك كافر لأنك ظلمته وهنا لا يحل لك أن تستحضر موضوع كفره فتبرر به العدوان عليه.
لم يجعل الله الولاء والبراء على اسم الإسلام بل على وصف الإيمان المتحقق. قال الله تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون". فنحب المسلمين ونواليهم بقدر اقترابهم من الحق والعدل، ونبغض أفعالهم ونتبرأ منها إذا ابتعدوا عن الحق والعدل، ولا عبرة حينئذ بالأسماء والديانة حسب الأوراق الثبوتية. قال الله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادّون من حادَّ الله ورسوله". قال ابن عاشور رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وأما عدم موادَّة المحاد فهي شاملة للكافر وغيره، عامة في كل من فيه معنىً من محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بخرق سياج شريعته عمداً والاستخفاف بحرمات الإسلام وقلة الاكتراث بالدين".
وهذا كلامٌ مهمٌ للغاية يا إخواني، مهمٌّ للغاية في كل تعاملاتنا وعلى كل المستويات. فكم من المسؤولين يطالب المسلمين بالولاء والطاعة، وهو يخرق سياج الشريعة عمداً، ويستخف بحرمات الإسلام، ولا يكترث بالدين، بل وربما يحاربه. لأن اسمه إسلامي وديانته في الأوراق الثبوتية الإسلام، وهذا باطلٌ تماماً. فإذا ترك المسلم الإسلام أبغضناه وتبرأنا منه.
ثالثاً: متاح لكل البشر
ثالث ميزةٍ للولاء في الإسلام هي أنه متاحٌ لكل البشر، ليس قائماً على معانٍ مفروضة على الإنسان لا يستطيع تغييرها. فإذا دخل الكافر الإسلام أحببناه وتوليناه. قال الله تعالى: "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ". هكذا بكل بساطة. قال تعالى: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون". إذا كنت تحارب مشركاً حريصاً على قتلك، وغلبته ورفعت سلاحك عليه، فشهد الشهادتين، فقد أصبح منا في لحظة، وله علينا حق الموالاة، كما يستفاد من حديث أسامة بن زيد.
ليس هناك أحد مستثنى ولا يُغلق الباب أمامه أن ينضم لولاء المسلمين ومحبَّتهم، فهي رابطة عليا، عابرة للحدود والأعراق والأجناس، ومفتوحة في كل وقت وحين. أين تجد هذا في الحروب العمياء التي خاضها الصليبيون أو التتار أو الدول المتنازعة عبر التاريخ؟ أين تجده في الناس الذين يتكتلون على اعتبارات أرضية ويستثنون آخرين على لون جلدهم أو عرقهم أو غيره مما ليس بأيديهم؟ في الإسلام لا يستثنى أحد لذاته بل لما يختاره هو لنفسه من أفعال. فالأخوة والولاء في الإسلام نعمة متاحة للجميع: "فأصبحتم بنعمته إخواناً".
ثم تجد من يقول كيف تسمي من اختار ديناً غير الإسلام كفاراً وكأننا نحكم عليهم بشيء ليس في أيديهم. هم اختاروا لأنفسهم أن يحرموا أنفسهم من نعمة الإسلام ومحبته وولايته. فإن قبلوا الإسلام فأهلاً وسهلاً، وإلا فلهم المعاملة بالعدل والإحسان ما داموا مسالمين كما أمر الإسلام نفسه وكما بيّننا في الحلقة الماضية بأمثلة كثيرة.
رابعاً: لا يظلم من هم خارج دائرة الإسلام
وهذا ينقلنا للميزة الرابعة في الولاء والبراء في الإسلام أنه لا يظلم منهم خارج دائرة الإسلام. فالبراءة من الذين رفضوا نعمة الإسلام وأخوته ومحبته لا يعني ظلمهم، ولا يفرض الإسلام على الآخرين الدخول فيه حتى ينصفهم، بل يسالمهم إذا سالموه. بينما في الولاءات الأرضية يقع الظلم. وحتى عندما يُرفع شعار الولاء للدولة والقانون، فإنَّ الأفراد يُلزمون بإظهار الولاء لهذه المعاني، لا مُجرَّد مسالمتها، بل لابد من إظهار الولاء لها وترك أبنائهم يتجرَّعونها في المدارس بلا نكير، وإلا اتُّهموا بالخيانة وتهديد كيان الدولة.
يُرفع شعار الولاء للدولة والقانون والوطن والتي تؤول في حقيقتها لأن تكون ولاءً واستعباداً لصالح طغم متنفذة. فإذا نشب الخلاف بين دولة ودولة تعارضت الولاءات ووقع الظلم وجاء القانون الدولي والنظام الدولي ليتدخل. هذه ميزات الولاء والبراء في الإسلام في مقابل الولاءات والبراءات الأرضية.
النظام الدولي ومحاربة الولاء الإسلامي
لذلك فعندما يراد منا تذويب هذا الولاء والبراء وإحلاله بولاء وبراء على معانٍ أرضية من صنع البشر مقطوعة عن الله رب العالمين، فإننا نقول إذا تراخى آخرون في الولاء والبراء على دينهم فهذا لا يعنينا ولسنا مطالبين أن نفعل مثلهم. فالولاء والبراء على محبة الله أساسه عقلي برهاني استدلالي فطري متصل بالوحي ومرتكز على قيمة حقيقية، ولاء قائم بالحق والعدل مفتوح للجميع أن يدخل فيه ولا يظلم منهم خارج دائرته، لا عصبية فيه ولا عماية ولا باطل ولا ظلم، بخلاف أي ولاء وبراء آخر على معانٍ أرضية أو تصور محرف عن الله. فلا يقال للمؤمن افعل كما فعل غيرك.
تصور الخيبة الثقيلة بعد ذلك لم يرفع شعار التسوية بين البشر بغض النظر عن أي عرق أو لغة أو جنس أو دين، وكأنه يمكن أصلاً أن تقوم المجتمعات بغير ولاء وبراء، وكأن الإسلام كغيره من الأديان أو المعاني التي يقوم عليها الولاء والبراء. ومع كل ما ذكرناه فالإسلام لم يلغِ الاعتبارات التي لا تتعارض مع الحق والعدل كأنس أفراد القبيلة الواحدة ببعضهم أو من يشتركون في اللغة أو في بقعة جغرافية، لكنه لم يجعل هذه كلها أساساً للولاء والبراء وهذبها بحيث لا تكون قوة للتخريب والتدمير بل دوافع للتنافس في الخير، كما في توزيع القبائل على أقسام الجيش لتحرص كل قبيلة ألا يؤتى الجيش من قبلها.
الولاء والبراء على أساس محبة الله هو الذي تصير به الأمة المسلمة أمة، فهو العمود الفقري للأمة، تصير به قوية متكاتفة. قال الله تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون". ولذلك يعمل أعداء البشرية على تحطيم هذا العمود الفقري ليبقى جسد الأمة رخواً مشلولاً، فتغييب مفهوم الولاء والبراء أمر شديد الفتك جداً بكل ما فيه مصلحة للمسلمين.
النظام الدولي الحديث يفكك المجتمعات عموماً، فبعدما رسم الحدود، جيّش الأقليات وغذّى النعرات لتفكيك المجتمعات من الداخل، وعزّز الفردانيّة التي يعيش فيها المرء لنفسه وشهواته. وهذا يسهل استدامة إخضاع الشعوب لأرباب رؤوس الأموال، ويمنع نشوء قوى مضادّة تهدّد بنيان النظام الدولي المستعبد للناس. فوضع الحدود السياسيّة وكرّسها، وعزّز الولاء والبراء عليها بحسب الأنظمة السياسيّة الحاكمة، وانتماءاتها بغض النظر عن العلاقات الأصيلة بين الشعوب. أضعفت أمريكا الشمالية دول أمريكا الجنوبية وأشعلت فيها الحروب الأهلية وغيرت النظم السياسية وجعلت الولاء والبراء على هذه النظم لإبقائها مستعبدة كما وضح ناوم تشومسكي في كتابه "ما الذي يريده العم سام بالفعل".
وتعرض العالم الإسلامي لأكثر مما تعرضت له باقي الدول، وأكثر ما عمل عليه أعداؤنا من خلال الإعلام الموجه وتغيير المناهج هو محاربة الرابطة الإيمانية بين المسلمين، محاربة عقيدة الولاء والبراء، وإحداث النفور من الإسلام وأهله في مقابل تزيين الكفر وأهله. يسمح النظام الدولي للمنحرفين جنسياً بالولاء والانتماء لبعضهم على أساس ما يجمعهم من ممارسات معارضة للفطرة، ويسمح لهم بتنفيذ أجنداتهم وإقامة احتفالاتهم ومسيراتهم وفعالياتهم، بينما يحارب ولاء المسلمين على أساس العقيدة والفطرة السليمة ويدفعون فيها شعار الولاء على أساس العقيدة الإسلامية.
عندما يسمي المسلم الأشياء بمسمياتها، فيسمي الإيمان إيماناً، والكفر كفراً، يعتبر هذا خطاب كراهية. أعداء البشرية والفطرة يحاربون مفهوم الولاء والبراء، ويطمسون معالمه من مناهج الأبناء في المدارس لدى المسلمين، ويتعقبون من يستخدمه على أنه يبث خطاب الكراهية. وهذا شكل من أشكال البراء يمارسونه هم ضد المسلمين، لكنه ولاء وبراء على الباطل، وباستخدام الكذب والباطل، بينما يُسمح للشواذ ببث خطاب الكراهية ضد من يقف في وجوههم، فيُحرِّضون عليه، ويصفونه بالهموفوبيا، ويستعدون عليه القانون.
في وجه هذا كلِّه يحتاج المسلمون أن يُحيُوا مفهوم الولاء والبراء، أن يُحيُوا مفهوم الولاء والبراء على أساس محبَّة الله، مُستذكِرين مهمَّتهم العُظمى لا لأنفسهم فحسب، بل وعلى مستوى البشرية. فبعدما أمر الله المسلمين بتولي بعضهم البعض قال: "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". في الأرض كل الأرض، ليس في بلدان المسلمين فحسب. فالمسلمون صمام الأمان للبشرية.
الخلاصة وما سيأتي
خلاصة ما ذكرناه اليوم يا كرام هو أن المحرك الأعظم للمسلم يجب أن يكون محبة الله وما تفرع عنها، وأن من الإسلام أن تحب أخاك المسلم وتواليه وتنصره لكن على الحق والعدل، وأن هذا المفهوم هو العمود الفقري للأمة المسلمة.
طيب أين الآخر غير المسلم من هذا كله؟ وكيف أضبط شعوري تجاهه وتعاملي معه بحيث أحقق معنى الحب في الله والبغض في الله ليكون حبي لله صادقاً، وفي الوقت ذاته لا أصادم نوازع المحبة الفطرية التي قد توجد في نفسي تجاه هذا الآخر، فأعيش بانسجام واعتزاز وصدق وسوية نفسية؟ هذا موضوع حلقتنا القادمة بإذن الله فتابعونا.
والسلام عليكم ورحمة الله.