→ عودة إلى نصرة للشريعة

الحلقة 29 - ظاهرة الرد على الدليل الشرعي بالأهواء!

٢٤ فبراير ٢٠١٣
النص الكامل للمقطع

ظاهرة الرد على الدليل الشرعي بالأهواء!

السلام عليكم ورحمة الله. إخوة الكرام، نستمر بعون الله في سلسلة نصرة للشريعة. في حلقة "مفاسد أسلمة الديمقراطية" ذكرنا مفاسد نتجت عن الانخراط في العمل السياسي المتحلل من الضوابط الشرعية. ثم في حلقات تلتها، وضحنا أحد الآثار العقدية السلبية وهو شيوع مفهوم السيادة المطلقة للشعب، سيادته حتى على الشريعة.

اليوم نتكلم عن أثر فكري سلبي آخر، ظاهرة خطيرة تحتاج وقفة وتأملاً وإصلاحاً، ألا وهي تعود الناس على عدم احترام النص الشرعي ومعارضته بالشبهات العقلية.

مظاهر الرد على الدليل الشرعي بالأهواء

عندما نناقش سلوكاً معيناً ونبين حرمته بالقرآن والسنة، فإن ردود المبررين المدافعين عادة ما تكون ردوداً عقلية بحتة مجردة من الدليل. نقول لهم: قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: هذا الطريق غير موصل، اختلفت الأحوال، يلزم من قولك أن نترك الساحة للعلمانيين، إن نفعل ما تقول تنتكس الدعوة ويزج بالمسلمين في السجون، يترتب على قولك تضليل كثير من الناس، طرحكم تسطيح للمسألة، الوضع أعقد من هذا، إن فعلنا ما تقولون تكالب علينا أعداؤنا وفقدنا مكتسباتنا، وحينئذ لا عزاء للأغبياء.

بل ويتكلم البعض بعبارات مثل: التنظير سهل لكن عند الدخول في المعترك يختلف الأمر، كلامكم هذا مثاليات حالمة يصعب تطبيقها عند مواجهة الضغوط. يقولون هذه العبارات بنفس الإنسان المجرب صاحب الرؤية الشمولية والنظرة الحكيمة الذي عركته الحياة، مخاطباً شاباً غراً متحمساً. مع أن هذه العبارات ما هي إلا رفض مبطن لنصوص الكتاب والسنة واتهام لها بالقصور وعدم الكفاية، مدارها جميعاً على عبارة من قال قبلهم: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص: 57].

نحن عندما نخاطبهم بـ "قال الله وقال رسوله" نحسب أننا حسمنا الأمر وقطعنا السؤال، لأننا نخاطب مسلمين. وقد يقولون: "تنازل النبي في صلح الحديبية"، "الإسلام لا يمكن أن يدعو إلى ما تقول"، "ما تقوله هو فهمك أنت للآيات"، "أنتم تتشبثون بنص واحد ولا تنظرون إلى الموضوع بشموليته". طيب، نسألهم: هاتوا لنا الفهم الصحيح، هاتوا لنا النصوص الأخرى. لا جواب، إنما هي إطلاقات هلامية واتباع للهوى.

نحن عندما نقول "الشبهات العقلية" إنما نستخدم اصطلاحاً تعارف عليه الناس، وإلا فهي هوى متبع. أما العقل فهو يقود إلى اتباع النقل وللإذعان لحكم الله تعالى.

خطورة الرد على النصوص الشرعية بالشبهات العقلية

فنقول هنا إخواني: هذه الطريقة فيها رد لحكم الله ورسوله. فالإسلام مبني على التسليم والخضوع التام لأحكام الله تعالى، ثقة ويقيناً وإيماناً بأنه ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]. الإسلام مبني على أنك تفعل الشيء مخالفاً لهواك وعقلك، ثقة ويقيناً بعلم الله وحكمته ورحمته.

الرد على النصوص الشرعية بالشبه العقلية هو عدم احترام لها وعدم توقير لها، إذ ليس التوقير بتقبيل القرآن وتعليق آياته زينة في البيوت. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور: 51]. إذن فمن ادعى الإيمان فليس له إلا هذا الرد.

إخواني، نهى الله عز وجل المؤمنين عن أن يفعلوا فعلاً أو يقضوا أمراً قبل إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1]. فكيف بمن جاءه أمر الله ورسوله فرد عليه بشبهاته العقلية؟

نهى الله عز وجل عن مجرد رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]. عليه أمره، بل رفعا صوته في حضرته فقط كما في البخاري، فجاءهما التنبيه: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾. فكيف بمن يقال له: قال الله وقال رسوله، فيقول: ولكن أرى أنه والواقع والتبعات؟ ألا يخشى من يردون بهذه العبارات أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون؟

ليست مشكلتنا مع هؤلاء أنهم يردون على الكتاب والسنة بالكتاب والسنة، فلو أنهم قالوا: لعل هذه الآية عامة وهناك آية تخصصها، أو لعلها مطلقة وهناك آية تقيدها، أو لعلها منسوخة، أو لعل الحديث غير صحيح، أو لعلكم لم تفهموا الآية أو الحديث الفهم الصحيح والفهم الصحيح كذا وكذا، أو لعلكم لم تحسنوا تحقيق المناط فأنزلتم الدليل على غير محله. لو كانت الردود من هذا الجنس لهان المصاب ولأمكن التحاور والوصول إلى النتيجة. لكنهم يقولون: العمل السياسي يتطلب والمرحلة تقتضي.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "وفي قوله تعالى: ﴿يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ [غافر: 35] بيان أنه لا يجوز أن يعارض كتاب الله بغير كتاب الله، لا بفعل أحد ولا أمره، لا دولة ولا سياسة. فإنه حال الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم". إذن هذه مجادلة في آيات الله تستوجب مقت الله يا عبد الله فاحذر. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: 35]. كل من شم رائحة الإيمان يمقت مثل هذا الرد على كلام الله.

قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع، فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في متابعة الأمر". وهؤلاء يقولون: إذا استجبنا لما تقولون فسيقع كذا وسنفقد كذا كله.

أمثلة من السلف في رفض هذه الظاهرة

فقد قال بشير بن كعب: "إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله ومنه ضعف". فغضب عمران حتى احمرت عيناه وقال: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله، ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟".

وروى ابن ماجه أن عبادة بن الصامت ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم، فقال رجل: "ما أرى بهذا بأساً يداً بيد". فقال عبادة: "أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لا أرى به بأساً؟ والله لا يظلني وإياك سقف أبداً. والله لا يظلني وإياك سقف أبداً". ولاحظوا إخواني أن هذه الردود التي أنكرها الصحابة كانت فلتة تفلت من فم المتكلم لا يظن إلا أنه تاب عنها، ولم تكن تمثل منهجاً مستمراً مستقراً يردون به على النصوص.

ونختم بكلام نفيس لابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين إذ قال: "هل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه بقياسه أو ذوقه أو وجده أو عقله أو سياسته؟ وهل كان قط أحد منهم يقدم على نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلاً أو قياساً أو ذوقاً أو سياسة أو تقليد مقلد؟ فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أن تنظر إلى وجه من هذا حاله أو يكون في زمانهم. ولقد حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على من قدم حكمه على نص الرسول بالسيف وقال: هذا حكم فيه".

فيالله -ما زال الكلام لابن القيم- فيالله كيف لو رأى ما رأينا وشاهد ما بلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومعاداة من اطرح آراءهم وقدم عليها قول المعصوم؟ فالله المستعان وهو الموعد وإليه المرجع. انتهى كلامه رحمه الله.

الخاتمة

نسأل الله أن يهدي الضالين من المسلمين ويشرح بهذا الكلام صدور من يسمع ويتقبل منا أعمالنا. والسلام عليكم ورحمة الله.